المعارضة الإيرانية تستهلك ذاتها
راتب شعبو
لى ماذا يختلف الإيرانيون؟ ليس من السهولة على المراقب أن يعرف بدقة جواباً شافياً على هذا السؤال. هل يختلفون على السياسة الخارجية أم الداخلية؟ على الملف النووي أم على السياسة الاقتصادية؟ هل يختلفون على جذرية الموقف من محاربة الفساد؟ هل تكمن خلف هذه الواجهة بذرة خلاف على أسس النظام نفسه؟ هل يمكن أن يكون موسوي (ابن النظام) نوعاً جديداً من يلتسن روسيا؟ أسئلة تطرح نفسها على كل من يراقب هذا التحرك العنيف في الشوارع الإيرانية. ولا تجد لها جواباً كافياً لا في شعارات المعارضة ولا في كلام قادة هذه التحركات. اليافطة الرئيسية في المظاهرات تقول: “أين ذهب صوتي؟” وهذا السؤال الذي في غير محله، لا يشكل حرجاً لا للحكومة ولا للنظام، كان يمكن أن تكون هذه اليافطة مقنعة ومؤثرة لو أن الذي جرى في إيران هو انقلاب على نتائج الانتخابات مثلاً.
الهدف والعنوان الجامع للمظاهرات هو إعادة الانتخابات الرئاسية. ويا له (في ظل الفوز الكاسح لنجاد) من عنوان باهت للاختلاف الحاصل في إيران، وعنوان غير عملي وعاجز عن استثمار طاقة الجماهير التي نزلت إلى الشارع! إذا كان ثمة تياران رئيسيان في داخل النظام الإيراني (إصلاحي ومحافظ) فإن تكثيف الخلاف بينهما على شعار إعادة الانتخابات هو واقعياً في غير صالح الإصلاحيين الخاسرين في الانتخابات الرئاسية، وهو نوع من التظلم البائس. لا بل يمكن القول إن شعارات هذه التحركات وطريقة قيادتها تهدد فرص الإصلاحيين في الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد سنتين. إن من شأن شعار إعادة الانتخابات أن يستفد قوة المعارضة ويرد حركة الشارع الإيراني سنوات إلى الخلف، فالحركة الجماهيرية المعارضة تستمد وقودها من إنجازاتها وهذه تعتمد على معقولية وجاذبية وواقعية مطالبها. والفارق الكبير في الأصوات يجعل من الصعب على عاقل أن يشك في أن أحمدي نجاد هو من فاز في الانتخابات. فعلام يجعل شعار إعادة الانتخابات عنواناً ومطلباً أساسياً للتحرك؟ هل كي تخرج المعارضة بنتيجة أن نجاد فاز ولكن بنسبة أصوات أقل؟ هل لإثبات أن حكومة نجاد (وليس النظام، يكرر موسوي أنه تحت سقف النظام) يملؤها “الكذب والتزوير” حسب كلام موسوي. ثم ماذا لو أعيدت الانتخابات وفاز نجاد مجدداً (وهو الأمر الراجح ولاسيما بعد المساندة الصريحة له من قبل المرشد الأعلى، وبعد التأييد الغربي الشامل للمظاهرات فضلاً عن إنجازاته النووية وميله للفقراء وما يشتهر به من نظافة يد وتقشف ودفاع عنيف عن مصالح الأمة ضد الغرب..الخ)؟ هل تعتذر المعارضة للشعب وتأسف للخسائر والضحايا التي أسفرت عنها الاحتجاجات، كما يمكن أن يأسف سعد الحريري من سورية إذا تبين أنها لم تقتل الحريري الأب بعد كل التعبئة والشحن والتحريض وما أسفرت عنه من قتل لعمال سوريين ومن تفرقة وضغائن واحتقان في النفوس؟ أم هل يبحث الخاسرون الإيرانيون كما تبحث المعارضة اللبنانية الخاسرة أيضاً في الانتخابات الأخيرة عن أسباب أخرى للخسارة من خارج السياسة؟
لعل الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي أدرك حرج موقف المطالبة بإعادة الانتخابات فطالب بإعادة فرز النتائج من قبل لجنة محايدة، كحل (مخرج) وسط بين إلغاء نتائج الانتخابات التي يطالب بها موسوي، وإعادة فرز نسبية للأصوات من قبل مجلس حماية الدستور التي وافق عليها المرشد الأعلى.
ويبدو أن موسوي لا يمتلك أدلة تثبت وقوع عمليات تزوير، حتى الصحف الغربية لا تملك مثل ذلك، ففي محاولات التدليل على حصول تزوير في الانتخابات الإيرانية تنقل بعض الصحف الأمريكية أن نسبة التصويت في بعض المناطق المؤيدة لنجاد تصل إلى 100%. لا بأس ولكن النسبة لم تصل إلى 110% أو أكثر كما نألف في الانتخابات المزورة الموصوفة في الجزء من عالمنا العربي الذي تجرى فيه “انتخابات”. 100% نسبة صعبة التصديق ولكنها قابلة للتصديق، فهي نسبة ليست مستحيلة.
الحق أنه ليس فقط الديمقراطية الإيرانية ملجومة ومحددة السقف، بل والديمقراطية الغربية أيضاً. لا شك يؤخذ على النظام في إيران وجود مؤسسات دستورية “لا ديمقراطية” تحدد إيقاع العمل الديمقراطي في إيران مثل مجلس حماية الدستور، لكن مثل هذا التحديد موجود أيضاً في الغرب وإن بصورة غير دستورية، موجود فيما يمكن أن نسميه “اليد الخفية” للسياسة. وبملاحظة سريعة نجد أن الفروق بين الأحزاب الرئيسية المتنافسة في الغرب على مدى عقود من الزمن لا يُسمح لها، بفعل تلك اليد الخفية، بأن تكون أكبر من الفروقات بين المحافظين والإصلاحيين في إيران الإسلامية.
إن المرشح الذي يقبله مجلس حماية الدستور في إيران لخوض انتخابات الرئاسة هو أولاً شخص له وزن في ماكينة النظام (كان موسوي رئيس وزراء وكان مستشاراً لمنافسه نجاد في ولايته الأولى)، وثانياً يتفق مع معايير هذا المجلس الذي يعتبر مؤسسة “محافظة” في النظام الإيراني. القصد أنه لا يوجد في إيران مرشح رئاسة مستضعف يمكن أن تجرى عليه عملية تزوير بحجم يتجاوز 11 مليون صوتاً. هذا أمر بعيد عن المنطق. فهناك نوع من توازن القوى بين التيارات داخل النظام وتحت سقفه، والمظاهرات الحاشدة في الشارع من مؤشرات هذا التوازن الذي خرج يعبر عن نفسه خارج المؤسسات، والذي يجعل من الصعب على المرء أن يصدق أن تياراً يمتلك شعبية متحركة وفاعلة بهذا الشكل يمكن أن ينام خلال الانتخابات على عمليات تزوير ويمكن أن يُستغفل بملايين الأصوات المزورة. وحين تحشد المعارضة قوتها خلف شعار إعادة الانتخابات إنما تحكم على طاقاتها بالتبدد، وتضيع على الإيرانيين عموماً فرصة التدرب على المعارضة المجدية والقادرة على تربية وعي الشعب الإيراني بمطالب محددة مثل حرية تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات لتوسيع حدود المشاركة في الحكم.
من ناحية ثانية، إن في الوضع لإيراني مفارقة لافتة تتمثل في أن قدرة المحافظين على فتح أبواب العلاقة مع الغرب أكبر من قدرة الإصلاحيين. ذلك أنه حين ينفتح المحافظون على الغرب وفق رؤية معينة سيجدون الإصلاحيين إلى جانبهم، في حين أن انفتاح الإصلاحيين، ولاسيما عقب هذه التحركات التي أيدها الغرب وظهر فيها فوز الإصلاحيين مصلحة غربية، سيواجه برفض المحافظين وبوقوع الإصلاحيين صيداً سهلاً لتهمة “العمالة” للغرب. ولعل أمريكا أدركت هذه المفارقة وهذا ما يفسر تفاعلها “العاقل” مع الأحداث قياساً على دول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا.
إن موقف المرشد الأعلى بما له من وزن، وموقف الغرب بما له من حساسية عند الإيرانيين، وضعف شعارات ومطالب المعارضة، يضاف إليها التهديد الذي وجهه الحرس الثوري مؤخراً باستخدام صلاحياته القانونية ضد كل من يخل بالأمن، ستجعل موجة الاحتجاج الإيرانية تتخامد، بعد أن تكون قد سجلت مؤشراً على استقطاب بالغ الحدة في الشارع الإيراني، وبعد أن تكون قد أرغمت نجاد على تلطيخ يديه بدماء أبناء شعبه الشيء الذي سيثقل عليه طوال فترة رئاسته الثانية.
كلنا شركاء