المزاد السياسي في لبنان
بدر عبدالملك
نشبت الصدامات العنيفة في بيروت، فانتقل الشعور العام لدى اللبنانيين لإمكانية تحول الأزمة اللبنانية العالقة منذ شهور من حالة التجاذب السياسي البالغ أعلى درجات التوتر إلى نوع من الاقتحامات العنيفة التي أنتجت سقوط ضحايا وقتلى وجرحى،
فماذا حدث لحظتها لذلك المزاد السياسي الذي بات يتاجر أولا بالأثاث، وهو بيروت، ليستعد أكثر لعرض البيت اللبناني برمته إلى المزاد السياسي حيث تستعيد بيروت ولبنان برمتها ذاكرة الحرب الأهلية.
ويستعد أطفال الأمس للدخول إلى عنف أهلي يسفك فيه دم اللبنانيين أنفسهم بينما من يزايدون في سوق المزاد السياسي على شراء لبنان يجلسون وراء المقاعد. وعادة من يذهبون للمزاد ليسوا هم المشترون الفعليون بقدر ما يمثلون واجهة للمشتري الحقيقي، فهو الذي يدفع الثمن لبضاعة قد لا تهمه أحيانا بقدر ما يحاول أن لا يتركها لملكية الغير إما تحديا أو شعورا منه أن تلك البضاعة تشكل قيمة تاريخية وسوقية.
بينما لا يشكل الإنسان في ذلك المكان أي قيمة تذكر إلا قيمة سهلة للموت والانتحار. بمثل هذا الشعور خرج الساسة اللبنانيون على شاشات التلفاز وهم يتراشقون بتهم متبادلة ليس جديدا فيها إلا تكرار الاتهامات السابقة بل واستعادوا الجمل نفسها من دون أن ترف لهم عين الحسرة على من يقاتلون نيابة عنهم كمشتري المزاد المختفي خلف الكواليس.
فقد سقط الشباب الملثمون في الشوارع وتصاعدت الأدخنة من المقرات والبيوت معلنة نذر أيام سوداء مقبلة إن لم يسارع «أصحاب الحكمة !» للقبول بفكرة المقايضة والتسوية العادلة بين أطراف داخلية ترى نفسها اليوم تعيش شعور الاستفراد والخوف من الآخر بإقصائه مستقبلا.
فلبنان بات رهينة للقوى الإقليمية أكثر من كونه مفردة سياسية هشة كعبارة «الشأن الداخلي» فهي ليست إلا دبلوماسية عاجلة تدفع بالحقيقة نحو ظلال الواقع المنهار في الساحة اللبنانية، إذ لم نر في عالم السياسة أن تصبح القوى الإقليمية مجرد مشاهد صغير وممثل ثانوي فوق مسرح الأحداث في صراع متداخل بين كل حلقاته المحلية والإقليمية والدولية.
فإذا ما كانت قطر وسوريا قادرتين على اتخاذ موقف من هذا القبيل فإن إيران قبل أيام من الأزمة أزعجها كثيرا الموقف العراقي من حق الإمارات في الجزر متناسية إيران أن العراق دولة عربية وعضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة.
فهل يعتبر موقف إيران غريبا وعجيبا للغاية دون مراعاتها لأبسط قواعد الدبلوماسية وحق الدول والشعوب التضامن والتأييد مع من تراه يناسبها وتنسجم معه، فقد عودتنا جمهورية إيران الإسلامية على تدخلها المباشر وغير المباشر في العراق ولبنان ومحطات أخرى من هذا العالم تحت حجة كونها تساند حق الشعوب تارة وتارة أخرى تساند الدول الإسلامية وغيرها من الحجج.
هل ننتظر مواقف أخرى في المزاد اللبناني يتحرك بسرعة لعرض أسعاره وقيمته في الوقت ذاته، فقد وجدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وفرنسا نفسها منزعجة إلى حد الإسراع في التعبير عن رغبتها بأن ما يحدث في لبنان لن تصمت عنه، وكأنما الرسائل المرسلة للصغار الذين يتراشقون في بيروت برصاصهم ولا يدركون ان الساحة اللبنانية مجرد امتحان صيفي ولعبة جديدة لصراع قادم بين قوى إقليمية ودولية، تدفع لبنان فيها ثمنا باهظا.
ومن يتصورون ان الخلافات الداخلية مجرد شأن داخلي، فإن من يصبون الملايين والأسلحة في الشأن اللبناني هم المشترون الحقيقيون للبيت والأثاث اللبناني، فهناك تطور خطير بدأ يدق أجراسه بعد أن حدث اقتحام مسلح على أمكنة إعلامية حاول كل طرف فيه توجيه اتهامات مختلفة، كما هي اتهامات شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله ومن يمسها ستقطع يده ! فهل بالإمكان التفاوض بين أطراف انتقلت من مرحلة التوتر إلى مرحلة الصدام والكراهية ؟!
ومن يتوهم ان الجيش سيكون العلاج والحل في مزاد غاب فيه قانون البصيرة، فإن من يدفعون أسعار النفط والسلاح يرون ان الصراع ليس لبنانيا ـ لبنانيا، فمساحته تنتقل من بيروت إلى لبنان ومن ثم إلى منطقة أوسع. فماذا ستفعل القوى الكبرى وإسرائيل وهي تنتظر فرصة تاريخية للانقضاض أو المساومة والتسوية على صراع الشرق الأوسط ؟!
لقد تحولت الجذوة إلى لهيب، ومن السهل أن تصبح نارا في الغابات اللبنانية المتبقية. ومن يسمع خطاب الزعماء السياسيين لا يرى إلا لغة التحدي، والتي تضيف للنيران المشتعلة حطبا وزيتا من النفط الحاضر عبر دولارات تتناثر وفساد ينمو وأسلحة عابرة للقارات! مسكينة بيروت التي غنى لها الشعراء والعشاق والمولعون بليلها وحريتها ونسائها المعطرات بالفرح، فهل نغني نحن «بيروت خيمتنا».
بيروت محنتنا.. بيروت نكبتنا.. فمن ينقذها من مزاد بدأ يحرق الأثاث متجها نحو مدن في الشمال والجنوب؟ فما عادت جغرافيا الصراع محصورة في بيروت الغربية، ومن يتلثمون ليلا يتقاضون رواتب مجزية وصارت مهنتهم الصراخ والقتل حسب سوق المزاد حيث بإمكان بيروت أن تكون في الغد مرتعا للمرتزقة والقتلة من أنماط القاعدة، وإن كان تاريخ الحرب الأهلية في لبنان لم يكن أسوأ من ذلك السواد والإبادة كلما فتحنا صفحات صبرا وشاتيلا.
ما قاله الأمين العام للجامعة العربية وهو يكاد يغص وفي عينيه سهر رحلة طويلة «إن أزمة لبنان لها أبعاد إقليمية»، وكأنه يرد الإجابة على رسائل من قالوا انها مسألة وشأن داخلي. إذ يمكن فهم الدور القطري (الخيري) في مزاد أوسع من إمكانية الشراء لديها بأن تكون لاعبا فوق مسرح يتعدى إمكانية دورها، بينما لا اعرف سوريا بكل ثقلها الجغرافي لماذا أعلنت أن ما يحدث في لبنان مسألة داخلية ؟!.
أحاول تصديق ذلك، بل وأحاول تصديق الكذب الأميركي بتضخيم كل القضايا، وتصديق كل من وقفوا في المزاد السياسي يلعبون دور الممثل الفاشل في شراء بيت لا ينبغي بيعه بحريق حرب أهلية جديدة.
مسكينة بيروت التي غنى لها الشعراء والعشاق والمولعون بليلها وحريتها.
البيان الاماراتية