صفحات سوريةفلورنس غزلان

الإصلاح بيد مَن،ومِن أين يبدأ؟

null
فلورنس غزلان
قديماً حين كان للمثقف هيبته ودوره الاجتماعي، كان يحضر مجالس الدولة ويؤخذ برأيه ويطلب منه المشورة والنصح، بل يُستمع لنقده ويعتبر تحليله للأوضاع بمثابة عظات تأخذ حيزها في الدراسات والبرامج، بل يساهم المثقف إلى جانب رجالات الدولة من السياسيين في وضع القوانين وسن التشريعات، ويتماهى المسؤولون في التقرب من المثقفين ، لأنهم رجال فكر ونور، اليوم اختلف الأمر وانقلب، خاصة في عالمنا العربي، فالمثقف يقف على الحياد إن أراد لرأسه السلامة، ويحاول أن يتجنب الغوص في أعماق المشهد رغم انحطاطه الثقافي القادم دون شك من انهيار السياسة أو إقصاء المواطن عنها، وحصر العمل فيها بأيدي مُوالية، يتملقها بعض المثقفين، ليتصدروا دور المنظرين لسياسة الأنظمة وأدلجتها وبالتالي تسهيل قبولها وهضمها عند المواطن،بل والتسويق لخطاب السلطة والتصفيق لأولياء نعمته  فيها، فيكفي أنهم وظفوه في دوائرها الإعلامية وقربوه من مراكز الفعل ودور النشر ، التي تهرع لتلبي مقالاته وكتبه إن صلحت أم لم تصلح، فعلى الأقل ما يقدمه للمجتمع ليس أفضل حالا مما تقدمه الكتب التعليمية من ابتدائيتها حتى جامعاتها، …فالانحطاط شامل وعام والخراب والفساد لايقتصر عليه وحده بل يطال المجتمع برمته، وأعتقد انه الملطلوب ، فلو عمت ثقافة حرة وتعليم بعيد عن التوجيه والتلقين والحشو والتصفيق منذ أن يبدأ طفلنا في الدخول لجنائن الأطفال وحضاناتها لما وصلنا إلى هذا المستوى من تدهور الحال من خراب وفساد يمكنه أن يودي بكل حياة…
كلنا يرى ويسمع ويقرأ ويشارك بكل أحاسيسه ، فمن يحمل بعد ضميراً وحساً وطنياً وهماً مجتمعياً..إلى جانب ثقافة واسعة أو على الأقل حامية له من الغوص والغرق في معمعة السائد والمستشري ذو الوجه الواحد ، يحاول أن يشق طريقا لنفسه ولمن حوله ولمجتمع يرى أن واجبه المحتوم يقضي أن ينير شمعة في درب عتمته الطويلة، لكنه كمن يقارع جدراناً صماء…أو كمن يحارب طواحين الهواء ..هذا إن لم تسعَ سلطات الأمن الرقيبة على عقول البشر، وعلى أقلامهم إلى محاربته في كل مايصدر عنه، بل وإثارة الشكوك حول أهدافه ومقاصده والحط من مشاعره والشك بوطنيته وانتمائه،وإغلاق سبل العيش وأبواب التوظيف أمامه طالما أنه لايهادن ويغني خارج السرب، وإن زاد العيار قلمياً أو نشاطياً، يزج به خلف القضبان بتهم أصغرها ” وهن نفسية الأمة ونشر أنباء كاذبة…أو التطاول على مسؤول ..أو التآمر على الوطن…أو إصدار مقالات وكتب تثير وتشحن الطائفية وتزرع الفتنة والوطن في حالة حرب!!”، كل شيء جاهز ومعد للقضاء عليه وعلى فكره طالما أنه لايصب ولا يخدم صالح نظام بلده…فالنظام لايستطيع أن يرى سوى صورته ولا يقبل إلا أن يكون الشعب كله حبيبه وحبيب سلطته، فلا معارض ولامغاير ولا مناهض ولا رأي إلا رأي السلطة التي تفكر وتنشر الأمن والأمان وتهيء السعادة والديمقراطية للانسان ــ( الديمقراطية خاصتنا..التي لانستوردها!) ــ  في هذا الوطن الخالي كلياً من الاعتراض ومن التذمر والتنكر لسلطة قامت بإرادة الشعب! ولو أنها جاءت وراثيا أو عسكرياً أو..أو..
مع هذا يظل هذا المثقف المهموم بالوطن، يستمر في الفعل ويبذل جهده ليجد دواء لقروح وجروح وطنه يبحث عن أذنٍ تصغي ،  يطرق بابا موارباً عله ينشق عن وجه صبوح نقي يحب الخير ..يأمل في يد تمتد فوق أسلاك الأمن ولو تدمت…تشق طريق الإصلاح ..فلا يطمح بثورة ولا يأمل بتغيير عنيف ولا يسعى لقلب الطاولة على أحد ولا يشك ويُخَوِّن أحد…ثم إنه لايبني فكره على أساس التعصب الأعمى الذي يغلق الأبواب دون المختلف عنه…فالعلماني يرى في فكره الحل الوحيد المطلق،  والاسلامي يرى في إسلامه خير حلال للمشاكل والهموم…والحزبي يرى في حزبه خير منقذ للوطن…هذا المواطن المثقف  المستقل ،الذي يرى أن الحوار مع الجميع والتغيير المرحلي لا يأتي إلا تدرجياً وعبر مد اليد للجميع وعبر مخاطبة الجميع  وعبر الحوار مع كل فرد وكل فكر وكل حزب وكل إطار اجتماعي او سياسي مهما صغر …وإلا فسيكون مثل أي أعمى ..سيكون سلفياً طائفياً في مذهبه الفكري وفي قناعاته وفي رؤياه…ويقوم بنفس العمل الذي تقوم به سلطات الأمن في إلغاء الآخر المختلف واقصاءه .
اعتقدت أن الانفتاح على سورية غربياً والآن عربياً، يمكنه أن يجعل أهل الحكم يلتفتون للداخل، ينفتحون على إنسانهم المواطن، على همومه وحرياته وحقوقه،وأن التغيير لن يقتصر على رجالات الأمن الأقوى ، بل ينطلق بقلب أكثر قوة ويقين أنه أكثر حصانة اليوم منه في السابق، فيفتح أبواب الحريات ويحتضن مثقفي الوطن ويفتح أبواب سجون لا تغلق إلا لتبتلع أفواجاً جديدة، أما آن الأوان لعدٍ عكسي؟.
رغم ضيق المساحة وحجب الرؤيا المستقبلية، رغم الشعور بأن المثقف يغرد وحده غالب الأحيان وفردياً على الدوام،  لأنه يُحارَب حتى من أقرب الناس لهمه وفكره، لكني لا أرى أمامي من سبيل سوى الاستمرار في المقارعة ولا أملك سوى الكلمات أطلقها عبر هذه الوسائل التي تفتح لنا أبوابها لنفضي بما لدينا من طروحات، نأمل أن تجد خطاها على الطريق الوطني وأن ينضم إليها كثيرون.

قبل البدءعلينا أن نقرأ أسباب التعثر والخراب أين يكمن وبيد من؟
ـــ  أعتقد جازمة أن الخراب يأتي على يد أكثر من طرف،إنما  يمكننا حصره بطرفين الدولة من جهة، والدين من جهة أخرى، كلاهما يتواطأ مع الآخر يمنحه امتيازات ليحافظ على مكانته ويثبت من أقدامه ويتجذر في المجتمع ويتمترس محتكراً إرادة الوطن والمواطن، لهذا لابد أن تبذل الجهود الصادقة من الطرفين وأقصد مثقفي الطرفين المخلصين لغاية الوطن ومستقبله والحريصين على نهضته وتطوره ، ويمدون اليد لكل مثقف غير منحاز ولكل مثقف حريص لالغاء الاحتكار والبدء بالحوار، والخروج بحلول بشكل لاتطغى فيها مصلحة أكثرية على أقلية لا  احتكار سلطة دين ودولة ، بل تبادل وتعدد في السيادة أساسها المواطنة والانتماء للوطن، فقبول الدولة بالتعددية والابتعاد عن الاستفراد والأحادية هو نقطة البدء ونقطة الانطلاق، فمم الخوف؟…المعارضة ؟!…كل ما تحويه وتشمله من أطراف ليس بينها في البعد المنظور بديلا، ولا تطرح برامجاً يمكنها أن تشد المواطن،  ولا حلولا لقضاياه الملحة…إذن الساحة لمن يلعب من أجل صالح الوطن والمواطن بجدارة وأهلية ودون احتكار أو إقصاء،  فالضامن هو الوطن والغد والقانون الذي يتساوى أمامه مواطنو البلاد، ثم لماذا لايرضى أهل الدين بالحوار مع أديان وطوائف ومذاهب أخرى تشاركهم الوطن؟ مالذي يخشونه؟…بيدهم مفاتيح الحرية ومفاتيح الإصلاح ومفاتيح التغيير، لو احسنوا الصناعة واستخدموا المواد الأولية الهامة دون تشنج أو تعصب …فالإسلام ليس عدوا للعلمانية، كما أن العلمانية لاتعني إلغاء الأديان ولا الايمان بها، ويمكنها أن تتعايش جنباً إلى جنب…فقط أن تصفى النيات ويبدأ العد بخطوة لدى كل طرف تجاه الطرف الآخر.

إذن ، الاصلاحات الأولية يجب أن تشمل الأهم ، رغم أن الطريق طويل وشاق ، وبما أن غايتنا الوطن والمواطنة نبدأها بما يلي:
ــ أن يقوم ويسعى رجال الدين الأصلح والأوضح والأكثر نورا ويقينا دون تعصب بإصلاح الدين وعتقه من سلاسل النص وسلاسل الماضي وقيود التأخر كي يصلح للحاضر والمستقبل ويبني حضارة الشعوب والأمم التي تؤمن أكثريتها به وأقصد به الدين الإسلامي بشقيه السني والشيعي.لأن الاسلام ليس عدواً للحضارة وليس عدواً للانسان وحقوقه أينما كان وكيفما اختلف…فلا تجعلوا منه قيداً لشعوبكم ، ولا تفرضوا نصوصه على الآخر المختلف، ولا تجعلوا منه شبحاً مرعباً يحمل السيف بدلا من القلم والكلمة.
ــ إصلاح التعليم، وذلك بوضع لجان مختصة تُختار على أساس الكفاءة العلمية والثقافية والدراسة التدريبية في دول متطورة سبقتنا في المجال التعليمي ، دون إشراك الأهداف السياسية والغايات الأيديولوجية ، وتحسين أوضاع المعلمين والمدرسين ومعاهد تخريجهم وتأهيلهم ، وإصلاح الأبنية المدرسية ووسائل التعليم والتدريب وتحديثها بشكل يضمن سلامة أطفالنا ويعني بصحتهم النفسية والجسدية، وتغيير المناهج القائمة على الحفظ والحشو والتلقين كي نتمكن ولو تدريجيا من إلغاء الاعتماد على الدروس الخصوصية وإهمال المدارس الحكومية والجامعات العامة ، والحد من المدارس والجامعات الخاصة ، التي يغلب على معظمها الأهداف التجارية الربحية والبعيدة كل البعد عن المستوى العلمي العالمي إلا ماندر منها ويتعلق بأصحاب النفوذ والمال..
ــ إصلاح القضاء، فقد ثبت على الأقل في سوريا أنه أكثر دوائر الدولة خرابا وفسادا، ، فصل القضاء والسلطة القضائية عن التحزب والانتماء لحزب السلطة واعتماد النزاهة ، نزاهة اليد واللسان واعتماد الكفاءة لدى القاضي وتأهيل وتدريب القضاة وخاصة من نختارهم لمواقع هامة في المحاكم ومراكز الفعل والقرار ووضع القوانين وصك الفرامانات..ولاشك أن هذا الجانب يتعلق مباشرة بالجانب القانوني ، فتغيير القوانين الظالمة والبائدة والمفسدة والمعيقة لتقدم الوطن أصبح هماً أساسيا وملحاً وحاجة ضرورية إلى حد كبير ، وقد لاحظنا وعشنا عن كثب محنة مشروع قانون الأحوال الشخصية سيء الذكر وتعديلاته الأسوأ ، وان هذا المشروع يجب أن يلغى كلياً وإلغاؤه يعني تشكيل لجنة كفوءة تنتمي لكل مؤسسات المجتمع المدني ، وتختار بناء على شمولها لمختلف نواحي الحياة وتشكيلات المجتمع السوري وتكون قادرة على تطوير القوانين وسن قوانين عصرية تليق بشعبنا المُلَون بكل أطيافه وانتماءاته.
ــ الالتفات إلى الحريات العامة والخاصة وصيانتها وتطويرها وإلغاء القوانين التي أعاقت  وتعيق مسيرة الحياة الطبيعية، كقانون الطواري والقانون 49 الذي يعتمد الموت لمن ينتمي للأخوان المسلمين ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تعتبر حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع، والحد من سلطات الأمن ورجالاته …والتي سببت بشكل رئيس لتدهور حال البلد وانعدام الثقة بين المواطن والدولة وأدت إلى تسيب حال الاقتصاد وانتشار المحسوبية والرشوة ، وغض النظر عن المقربين والموالين.
ــ الاهتمام بشكل إسعافي للبيئة وما تفرزه من نفايات وما تخلفه من آثار سلبية على حياة المواطن، ناهيك عن النقص المرعب في الموارد الطبيعية والطاقة، وإعداد الخطط الدراسية الشاملة والاستعانة بخبراء من دول لها باع طويل في هذا  المجال ..لأن بلادنا غدت عبارة عن مجمع للأوبئة ومصدر للأمراض، ولهذا أيضا علاقته الهامة بالازدياد الخطير في تعداد السكان، والذي يتطلب حلولا سريعة وجذرية، ومدى تأثيره على البيئة وعلى الطاقة من استهلاك وخفض للانتاج والموارد وأهمها المائية والكهربائية.
الحديث المختصر هذا لايفي بالغرض، لكنه يفتح الباب لنقاش عميق وحوار أرجو أن يكون مجدياً لدى الكثير من مثقفينا، ولي كل الثقة بأنهم أُهلاً لكل خير، ولا أعتقد أني البادئة، لكني ربما المتجاوبة، لهذا آمل أن يعم التجاوب الفاعل.
باريس 16/07/2009
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى