صفحات الحوار

الشاعر إسكندر حبش: وظيفة الشعر هي أن نكتبه فقط

null
بيروت – حسين بن حمزة: نشر الشاعر اللبناني اسكندر حبش مجموعته الشعرية الأولى “بورتريه لرجل من معدن” عام 1988. وعقدت هذه الباكورة صلاتٍ شعرية مع بواكير أخرى لشعراء شبان بدأت تجاربهم في الفترة نفسها من ثمانينيات القرن الماضي. كان حبش واحداً ممن أطلقت عليهم تسمية “جيل الحرب” إلى جانب فادي أبو خليل ويحيى جابر وآمال نوار وبلال خبيز ويوسف بزي… كتب هؤلاء قصائدهم في الزمن المديني المتشظي الذي نتج عن الحرب الأهلية. ولكن باكورة اسكندر حبش المصحوبة بالحرب لم تواظب على تغذية قصيدته اللاحقة بمناخ الحرب والحساسيات التي صنعتها. مال حبش إلى كتابة خافتة وكتومة، وراحت جملته الشعرية تتحرَّر من موضوعها الأول، وتنفتح على مذاقات وطموحات ومشاغل متعددة: السيرة والطبيعة والغناء والشجن الداخلي والوحشة والرثاء.
في كتاب “لا أمل لي بهذا الصمت” الصادر حديثاً عن “دار الجمل”، يدعونا إسكندر حبش إلى قراءة ثانية لمجموعاته الشعرية الأربع الأولى. وبمناسبة هذا الإصدار كان هذا الحوار حول تجربته في الكتابة والصحافة والترجمة:

* نشرت مجموعاتك الشعرية الأربع مؤخراً. ماذا كان الدافع، وكيف رأيت تجارب متباعدة زمنياً في مجلد واحد. هل يختلف الأمر بالنسبة للشاعر؟
– ببساطة شديدة، كنت أتحدث في أحد الأيام مع الصديق الشاعر خالد المعالي، وهو أيضا صاحب منشورات الجمل، قال لي، لا أعرف نصوصك الأولى، لم أقرأ لك كل شيء، قلت له مازحا لماذا لا تصدرها في كتاب واحد لتقرأها. قال أتمنى ذلك. وهذا ما حدث من دون أي إدعاءات، إذ كما تعرف: قصص الخلود والبقاء والمجد الأدبي لا تعنيني ولم أفكر بها يوما. الآن وبعد صدور مجموعاتي الأربعة الأولى في مجلد واحد بعنوان “لا أمل بهذا الصمت” أجد أن الأمر فرض نفسه علي، بمعنى، ثمة قصائد عديدة أجدها وكأنها ابتعدت عني ولم تعد تشكل لي هذا الفضاء الذي كان يسيرني كما في السابق. ومع ذلك وضعتها لأنها تشكل جزءا من حياتي، وهو جزء لا أريد نكرانه. هكذا كنت. ولا أخجل من هذه الحياة التي كنت أنسجها. صحيح أن قراءتي لها تختلف وثمة الكثير من النقد الذي أوجهه إلى نفسي، ولكني أضطلع بكل ذلك وأتحمل مسؤولية ما كتبته.

* أنت ممّن أطلق عليهم اسم “جيل الحرب”. ما هي خصوصية هذا الجيل؟ وما أهمية أن يبدأ الشاعر تجربته إلى جوار أقران ومجايلين في فهم الشعر والكتابة؟
– لن أتنصل من جيلي بالتأكيد، وإن كنت أتوقف كثيرا عند التسمية: “جيل الحرب”. إن كان المقصود أننا جيل نشأ خلال الحرب الأهلية في لبنان، فهذا صحيح. وإن كان المقصود أننا كتبنا الحرب في شعرنا، فهذا صحيح نسبيا، لأننا سرعان ما تفرقنا من حيث وجد كل واحد منّا مفهومه الخاص للكتابة. كنّا بدأنا كلّنا في الفترة عينها تقريبا: شبيب الأمين، يوسف بزي، يحيى جابر، بلال خبيز، جوزف عيساوي، آمال نوار، ليلى عساف، زاهي وهبي، إسماعيل فقيه، وغيرهم… ربما في اللحظة الأولى كتبنا هذا الخراب المادي الذي كان يحيط بنا والذي لم نستطع الخروج منه بسهولة، لكني أعتقد أن كل واحد منا، بدأ يجد الشعر على طريقته، وهذا الأمر يشكل حسنة حقيقية، إذ لم نكتب أبدا قصيدة واحدة متشابهة. هذا الاختلاف، برأيي، هو من جعل “هذا الجيل” يتوسع في آفاقه، لا أن يسقط في التشابه والتقليد إذا جاز التعبير.
وبين ذلك كلّه، كانت المدينة تجمعنا، أقصد كانت لنقاشاتنا المستمرة، الدور الكبير في إغناء تجاربنا، ولا تنسى أننا أصدرنا العديد من النشرات والمجلات مثل “ميكروب”، “الأخير أولا”، “أي”، التي بدت كمختبرنا الخاص، ولا تنسى أيضا أن اثنين من هذا الجيل حازا جائزة يوسف الخال للشعر، وهما يحيى جابر ويوسف بزي، ما ألقى مزيدا من الإضاءة ومن التحدي علينا.

* ماذا بقي من هذا الجيل اليوم؟ وهل يمكن الحديث عن تجاربكم كجيل بعد ما تباعدت وصارت كل تجربة على حدة؟
– بقينا نحن وبقي شعرنا (بعيدا عن كل تقييم نقدي لهذا الشعر). لسنا في منظومة إيديولوجية كي نشكل خطابا واحدا. لكل واحد منا حياته وتجاربه، التي كتبها بالطريقة واللغة والخطاب التي تناسبه. ولا مرة فهمت أن على الجيل أن يكون متشابها. لنقل كنا نشكل حالة ما في فترة معينة. خرجنا من رحم الحرب والموت وأسمعنا صوتنا. يكفيني هذا في البداية، أما الآن فما زلنا نُسمع صوتنا، لكن كل واحد بطريقته. وهذا ما شددت عليه الناقدة يمنى العيد في كتابها “القول الشعري” والتي كانت من أوائل من التفت إلى تجربتنا الشعرية نقديا.

* بالنسبة لك. يلاحظ القارئ أنك بعد مجموعتك الأولى “بورتريه لرجل من معدن”، انعطفت بشكل حاد عما يمكن أن نسميه “نص الحرب”. هل كان ذلك متعمداً لخلق مسافة مع جيلك؟ أم أن الأمر محض ميل شعري وأسلوبي طبيعي؟
– أعتقد أنني كتبت الحرب في مجموعاتي اللاحقة لكن بطريقة أخرى، أقصد كنت أحاول أن أرسم الجانب الآخر من الديكور، بمعنى كل هذا الخراب والفقدان والموت الذي كتبته لم يكن إلا سيرة أخرى للحرب ولكن بطريقة غير مباشرة.
مع مرور الأيام يحاول كل منا أن يجد صوته الخاص. لم يكن الأمر انسحابا من “جيل” أو البحث عن قطيعة معهم، بل هو محاولة (شرعية إذا جاز التعبير) لأجد قصيدتي أنا، لأجد صوتي أنا ولأجد لغتي أنا. وبالتأكيد تلعب القراءات والثقافة التي نكتسبها في حياتنا دورا كبيرا في تشكيل وعينا للقصيدة التي نريد. ولا يعني هذا أنني لا أحب الآخرين بل ما يكتبه يوسف بزي يعنيني كثيرا وكذلك شبيب (على قلته وعلى عدم نشره)، وأتابع آمال نوار بشدة، إذ تأخذني دائما بمسافاتها العالية، ولغة يحيى جابر اليومية تتركنى أفكر كثيرا في هذه القدرة على خلق مناخاته الخاصة.

* كيف تصف علاقتك بالشعر. هل الكتابة تعويض عن سوء فهم مع الحياة، أم هي في النهاية طريقة حياة؟
– حين نُحمل الشعر ما لا يستطيع تحمله، تقع الكارثة برأيي. لأقل ببساطة هو وسيلة لأبقى على تماس مع هذه الحياة التي لا أريد أن أغيرها ولا أن أحولها، بل أن أعيشها على الرغم من سوء فهمي الدائم معها. لأقل أيضا إن الشعر هو محاولة لكي أتوازن لا أكثر ولا اقل، مع العلم أنني لم أجد ذلك التوازن مطلقا إذ تؤرقني الكتابة دائما، ففي كل مرة أقف تجاه الورقة البيضاء أحس أن علي أن أتعلم الكتابة من البداية.

* تميل إلى نبرة خافتة وجوانية. كأن الخفوت سمة عامة لحال الشعر اليوم. هل بات الصوت العالي ضد الشعر؟
– كل التجارب لها الحق في الحياة، أكانت ذات نبرة عالية أم خافتة.. ببساطة لا أحب “اللغة المنتصرة” التي تقدم عبر خطابها حلاً لكل شيء، أميل أكثر إلى الصوت الخافت الذي – أعتقد – أنه يشبه صوتي. لكن سؤالك يدفعني إلى التفكير بأمر آخر، ثمة الكثير من التجارب الشعرية تُكتب اليوم بالطريقة عينها وكأن الشعراء الجدد استقالوا من التفكير بلغتهم وفضاءاتهم لدرجة لم نعد تستطيع أن تميز معها شاعرا من آخر. لم يعد أحد يرغب في التفكير في القصيدة، وأتمنى أن أكون مخطئاً.

* تشتغل في الصحافة وفي الترجمة. ما الذي تقدمه هذه العوالم للشاعر ولقصيدته؟
– “لا بد من مهنة ما” على قول الصديق الشاعر محمد العبد الله. في أي حال، استفدت كثيرا من هاتين التجربتين وعلى جميع المستويات. وإذا أردت “مسحة” ثقافية في جوابي فأستعيد ما قلته يوما في حوار آخر: تعرف أن الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا كتب بأسماء مختلفة وكل اسم كان يحمل معه شاعرا مختلفا عن الآخر. كانت هذه الأسماء تمثل وجوه بيسوا “الأصلي”، المختلفة. لأقل إني لم أنجح في هذه اللعبة أي كتابة الشعر بأسماء متعددة، بل “نجحت” في كتابة أنواع أخرى لكن باسم واحد. هي أقنعتي المتعددة التي تشكلني في النهاية.

* يتحدث كثيرون عن أزمة قراءة وأزمة شعر. بينما يرى آخرون أن الشعر بخير لأنه تحرر من الأحزاب والأيديولوجيات والقضايا الكبرى. برأيك، هل هناك مبالغة في وظيفة وأهمية الشعر؟
– برأيي وظيفة الشعر هي أن نكتب الشعر. لا أكثر ولا أقل. وكما قلت في جوابي السابق حين نحمل الشعر أكثر مما يستطيع فإنه يسقط تحت ثقل المهمات المطلوبة منه. ليس معنى هذا أن الشعر لا يستطيع أن يكتب عن “الموضوع” الذي يرغب فيه، لكن برأيي كيف يمكن أن يقدم لنا هذا الموضوع. قالت العرب قديما “الأسلوب هو الرجل”. ما يهمني فعلا هذا الأسلوب، أي كيف تصلني القصيدة.

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى