بول شاوول: أسوأ شيئ أن يصبح الشاعر ببغاء نفسه
بيروت – حسين بن حمزة: الشاعر اللبناني بول شاوول هو الأكثر تجريباً بين أقرانه وأبناء جيله. كان واحداً من مجموعة شعراء ظهرت بواكيرهم الشعرية كعلامة على حداثة ثانية كان تطل برأسها في سبعينيات القرن الماضي بعد الحداثة الأولى التي دشنها الرواد وشعراء الستينات.
كتب بول قصيدة النثر بصيغتها التقليدية في مجموعته الأولى “أيها الطاعن في الموت”، ثم مال إلى قصيدة مكثفة ومضغوطة شاعت تحت اسم “قصيدة البياض” في “وجه يسقط ولا يصل” و”الهواء الشاغر”، قبل أن ينعطف نحو نصوص طويلة في “موت نرسيس” و”أوراق الغائب”، ثم سعى إلى قصيدة متدفقة وسيَّالة تتغذى من البلاغة والتراث اللغوي في “كشهر طويلٍ من العشق”، وإلى لغة شفوية ودرامية في “نفاد الأحوال”.
مؤخراً صدرت لشاوول مجموعتان شعريتان: “بلا أثرٍ يُذكر” و”دفتر سيجارة”.
في هذا الحوار، يتحدث بول شاوول عن محطات تجربته وتجربة جيله وعن نظرته إلى الشعر اليوم:
* لنعد إلى ديونك الأول “أيها الطاعن في الموت” الذي صدر عام 1974. ما الذي جعل هذا الكتاب ناضجاً ومتخلصاً من إشكاليات البواكير الشعرية؟ وما الذي يجعله حياً حتى اليوم؟
– كتابي الأول صدر عشية الحرب الأهلية وتضمن ست قصائد. أظن أني كنت يومها ناضجاً في السن والتجربة. اخترت ستة نصوص فقط من بين عشرات النصوص التي كنت قد كتبتها ورميت الباقي. هو كتاب أول. هذا صحيح. ولكنه حصيلة كتبات كثيرة تمتد لعشر سنوات بدأتها بالشعر العمودي ثم التفعيلة قبل أن أكتب النص النثري المفتوح. أما لماذا لا تزال تلك القصائد حية؟ أنا لا أعرف. الآخر يعرف. وقد أسعدتني كثيراً بهذا الرأي. ربما لأن هذه النصوص تجاوزت المناسبات، ليسبالموضوع فقط بل باللغة. بدأت بالشغل على اللغة منذ تلك الفترة. ورحتُ أحاول السيطرة على التدفقات وعلى المشاعر الأولى، بدلاً من أن تسيطر هي علي. في ذلك الوقت، كانت السريالية والرومنطيقية تتدفقان في الشعر العربي. النص الأول في كتابي كان أقرب أيضاً إلى ذلك التفجر على خلاف النصوص الخمسة الخرى. وكأني أردت بذلك أن أشير إلى توجهاتي في تلك المرحلة المبكرة.
* كتب الشاعر الراحل عصام محفوظ في مقدمة الديوان “إنه صوت جيل بأكمله”. ما هو هذا الجيل. وهل توافق على أن السبعينات شهدت منعطفاً شعرياً يعد تجارب الرواد والستينات؟
– الانعطافات لم تحدث في السبعينات. بدأ ذلك مع جبران خليل جبران وأمين نخلة والياس أبو شبكة وفؤاد سليمان وأمين الريحاني. هؤلاء أحدثوا انعطافات استفاد منها رواد الفعيلة ومن ثم شعراء الستينات الذين طلع بعضهم من داخل هذه الانعطافات ثم تجاوزوها. أنا شخصياً، وبعض أبناء جيلي، استفدنا من الستينات ومن كل المراحل السابقة، ومن ثقافتنا الشعرية العربية والأجنبية. حاولنا أن نُحدث ما يتيسّر من خصوصية ومن اختراق ومن انفتاح. القصد أن هناك حلقة واحدة بمراحل متعددة هي التي صنعت الشعر اللبناني والعربي في القرن االعشرين. أما الذين يفصلون بين هذه المراحل بحيث يلغون ما قبلها ويطمسون ما بعدها، فهؤلاء مصابون بعقدتين: الأوديبية بقتل الأب، وعقدة ميديا التي قتلت أبناءها. أظن أن جيل السبعينات التي تتحدث عنه في سؤالك هو أفضل من أوصل شعر الرواد والستينات وما قبلهم إلى الدراسة الأكاديمية وإلى المنابر وإلى الآخر بكرمٍ واضح. أظن أن من حظ شعراء الستينات ومن جاء قبلهم أن يكون جيل السبعينات والثمانينات على القدر نفسه من الثقافة الشعرية والفكرية والسياسية، وربما تفوقوا عليهم. لأن الأبناء هم الذين يرثون الآباء، وأعتقد أننا كنا جديرين بذلك.
* هذا ما كنت أقصده في السؤال. هناك من يطرح اسمك إلى جانب عباس بيضون وسركون بولص ووديع سعادة وسليم بركات… إضافة إلى جيل جاء بعدكم مباشرة: بسام حجار، أمجد ناصر، نوري الجراح … هل توافق على أن المجموعات الأولى لكل هذه الأسماء حملت ضجراً وتململاً من المكان العالق الذي كان شعر الرواد قد وصل إليه؟
– بالتأكيد. ولكن لا ينبغي أن نحصر الإرث الشعري لجيل السبعينات بالشعر العربي فقط. علينا ألا ننسى تأثيرات الشعر العالمي وفنون السينما والمسرح واللوحة.. تماماً كما أن أجيال الحداثة منذ مطلع القرن الماضي حتى ستيناته كان جيلاً مهجَّناً. كان ينبوعه الأول متمثلاً بالشعر الفرنسي. ولهذا يمكن القول إن سعيد عقل كان متأثراً ببول فاليري، وأبو شبكة ببودلير والرومنطيقيين.. استمر هذا مع شعراء الستينات الذين تأثروا ببروتون وآرتو وبيرس وبالسريالية .. ربما شعراء السبعيناتتنوعت مصادرهم ومصادرهم أكثر بحيث تجاوز هؤلاء المرجعية الفرنسية والمرجعية الشعرية واتصلوا بالمسرح والسينما والفكر السياسي. معظم جيل السبعينات هو جيل مسيس، جيل المظاهرات، جيل التغيرات الكبيرة
والانعطافات.الفكرية والسياسية، جيل الانخراط في المجتمع. وهذا كله ظاهر في النصوص، بحيث لا يكون الشعر – مهما بلغت تجريبيته – مجرد تمرين لغوي أو تجريدي، مع احترامي لكل التجارب اللغوية والتجريبية الكبيرة، وهي كبيرة فعلاً. جيلنا كان داخل معركة التغيير. الحرب جاءت كانقلاب عليه وعلى كل أحلامه بالتغيير الديمقراطي للبلد. وفي هذا الإطار، لا ننسى الجامعة اللبنانية. التي كانت المختبر الأكبر للشعر وللرواية والصحافة، بحيث يمكن القول إن 90% من الشعراء والروائيين اللبنانيين هم خريجو كلية التربية فقط.
* هناك أكثر من انعطافة داخلية في تجربتك أنت. هل تكتب قصيدة واحدة بلغات ونبرات مختلفة أم أنك تقفز من تجربة إلى أخرى؟
– لم أكتب القصيدة الواحدة لأنني كنت أرى أن هذا المنوال يقيد الشاعر ويسجنه ويضعه في طريق مسدود. لا تنسى أني كتبت قصيدة البياض وقد هوجمت من قبل الجيل الأسبق بأني أكتب قصيدة من عدد محدود من الكلمات. ثم كتبت القصيدة المنفلتة والقصيدة المفعمة بالتراث، وذات البعد الدرامي. أسوأ شيئ أن يصبح الشاعر ببغاء نفسه. أنا لا أقلد نفسي بصرف النظر عن عن تقييم ما أكتبه. أفضِّل أن أقلد الآخرين على أن أقلد نفسي. التقليد هو موت الشاعر. هناك فرق بين أن يحفر الشاعر داخل تجربته كما فعل سانت جون بيرس أو دو بوشيه على سبيل المثال، وبين أن يعتبر أن كل شيئ هو مجال للتجريب. المثال الأكبر هو هنري ميشو الذي لم يقع في هاجس واحد ولا في مدرسة واحدة ولا في أسلوب واحد. الأسلوب هو موت اللغة. أتكلم هنا عن المدراس التي قدمت خدمة للشعر ولكنها، في الوقت نفسه، حاصرت الشعر ببيانات جاهزة، خصوصاً السريالية التي جعل منها أندريه بروتون حركة ستالينية عندما راح يضع بياناته الجاهزة أمام الشعر. أحب شعر بروتون ولكن لا أحب شخصيته الستالينية ولا أحب أي شخصية ستاليني أخرى. المدارس انتهت. من كان ينتمي إلى المدارس كان يكتب بلغة واحدة. المدراس تفجرت، وصار الشاعر هو مدرسة نفسه.
* كتبت قصيدة مكثفة وقصيرة، وقصيدة مسترسلة وسيالة وغزيرة الايقاع والبلاغة. واليوم تصدر ديوانين دفعة واحدة. “بلا أثر يًذكر” و”دفتر سيجارة”. لنتحدث عن “دفتر سيجارة” ما الذي أضاء فكرة إنجاز مجموعة شعرية عن السيجارة؟
– السبب شخصي جداً. السيجارة رافقتني منذ أن كنت في عمر الرابعة عشرة إلى ما قبل الخضوع لعملية القلب المفتوح التي اجريتها قبل شهرين. رافقتني في كل شيئ. لم تغادر السيجارة فمي وأصابعي منذ خمسين ستة. انغرمت معي وسافرت معي زهربت معي وخُطفت معي. كانت الشاعد الأساسي على سيرة طويلة. قلت لنفسي ألا تستحق هذه السيجارة كتاباً، خصوصاً أنها محاصرة. المدخنون منبوذون. الذين يمنعون التدخين هم من خربوا البيئة والبحار. جشعهم أدى إلى انقراض الحيوانات والغابات. ولا ننسى الأسلحة النووية والقنابل العنقودية والجرثومية. كل جرائمهم حمَّلوها للسيجارة. منذ أيام قرأت أن نسبة المصابين بالسرطان ازدادت في فرنسا وأن السبب عائد إلى تلوث الجو. بدل محاربة التلوث طاردوا السيجارة والمدخنين.
* ولكن موضوعاً عاماً كالتدخين قد تكون فيه مغامرة بالشعر نفسه؟
– أنا موافق على أنه موضوع عام. هو التجربة الأكثر عمومية في نصوصي، ولكنها أيضاً مغامرة ومجازفة أن أكتب كتاباً عن السيجارة. طبعاً كتب الكثيرون عنها .. سطور ومقاطع وربما قصائد في الشعر والرواية والسينما، ولكن لم يُفرد لها كتاب كامل. هذه مغامرة. أصارحك أني خفت منها. وخفت من نشرها. لأن الموضوع ضيق رغن اتساعه. حين أنجزت ما يوازي نصف الكتاب تقريباً، قلت لنفسي لِمَ لا أكتفي ببضعة قصائد فقط؟ ثم أكملت كما لو أني أكتب قصيدة طويلة لحبيبة وليس للنشر. “دفتر سيجارة” هو من أصعب كتبي ومن أسهلها في الوقت نفسه. وأسعدني أنه أثار الاهتمام. حتى في المقهى الذي أداوم على الخضور إليه/ طلب بعض الرواد نسخة منه ليس بسبب الشعر بل لأنهم مدخنون مزمنون.
* ولكن الشغل على فكرة الكتاب يساوي أو يزيد على الشغل على الشعر فيه. هل تعريف الشعر واسع بالنسبة إليك إلى هذا الحد؟
– ليس هناك شيئ اسمه الشعر. لا أعرف ما هو الشعر، وكل تحديد للشعر باطل، وكل مدرسة شعرية ببيانات هي باطلة. والدليل أنني أكتب تجارب مختلفة عن بعضها. فكيف استطيع أن أؤمن بتعريفٍ ما وأنا أتجاوز هذا التعريف دوماً. الشعر اليوم وصل إلى أمكنة لم يعد اي تحديد أو ماهية للشعر أن تلتحق به وتؤطِّره. اليوم هناك تجارب شعرية بعدد الشعراء. هذه هي الحرية. التحديد في الشعر هو ضد حرية الشعر والشاعر. ولذلك أقول إن الشعر يأتي بعد النص. التسمية تأتي لاحقاً بعد الكتابة. الشاعر لا يعرف ماذا يكتب. لم تعد هناك تعريفات وحدود مسبقة. التجربة هي التي تعطيك اللغة والنبرة. لا أستطيع التعامل مع السيجارة مثلما تعاملت مع
مجموعة “نفاد الأحوال” أو “بلا أثرٍ يُذكر”. موضوع هش كالسيجارة يحتاج إلى لغة هشة تشبهه. عندما بدأت بكتابة “دفتر سيجارة” جاءت عبارته على هذا النحو. إنه لا يحتمل لغات متداخلة ومتوترة. نصوصه تشبه ورق السيجارة وتشبه الرماد وتشبه الدخان المتصاعد منها. وكلها عناصر هشة وضعيفة. أنا استسلمت للتجربة ولحرية التجربة. في مجموعة “كشهر طويل من العشق”، مثلاً، كنت أريد الخلاص من أسر “أوراق الغائب” الذي كتبته في ست سنوات، وكذلك من قصيدة البياض. توقفت سنتين عن الكتابة بعد “أوراق الغائب” لكي أصنع مسافة معه. اختزنت قراءات كثيرة. تغيير القصيدة لم يعد مجرد قرار بل تلبية لرغبة داخلية، وهذا ظهر في “كشهر طويل من العشق” وفي “منديل عطيل” الذي ظلم لأنه صدر في الفوقت نفسه. أظن أني وقغت في الخطأ نفسه اليوم حين أصدرت “بلا أثر يُذكر” و”دفنر سيجارة” في وقت واحد. فالأول ظلم على حساب الثاني. عندي كتبان جديدان: “حجرة مليئة بالصمت” و”حديقة المنفى العالي”، ولن أقع في هذا الخطأ مجدداً.
* أنت قارئ شغوف. تقول دوماً إن الكتابة توقفك عن القراءة. وأنك تنتظر الانتهاء من الكتابة لكي تعود إلى القارءة؟
لأني أتوقف تقريباً عن القراءة أثناء الكتابة لكي لا أتأثر بما أقرأه فتختلط الأمور علي. ولهذا لا أصدق متى أنتهي من الكتابةى لكي أعود إلى القراءة. هل تصدق لو قلت لك أن القراءة أكثر متعة عندي من الكتابة. الكتابة رحلة في فضاء ربما تعرفه، أما القراءة فهي سفر في المجهول. أنا شخص شغوف بالقراءة فعلاً. إذا لم أقرأ يومياً اشعر أن ثمة خللاً أصابني. القراءة تعطيك تجارب الآخرين. تعطيك أباً جديداً أو أخاً جديداً أو ابن عم جديد. ستكتب بقدر ما تقرأ. إذا انقطعت عن القراءة ستنتهي كتابتك. ولهذا أقول إنني عندما أترجم الشعر أو المسرح فإني أوجِّه التحية لهؤلاء لأنهم آبائي وسلالتي. وأنا أسخر من الذين يقولون إنهم لم يتأثروا بأحد. هؤلاء يضحكونني بسذاجتهم. أنا أقول: كلما كثر آبائي كثرتا ولاداتي. ولهذا أتوجه إلى الشعراء الشباب الذي أحب شعرهم أن يغذّوا تجاربهم بالقراءة المتنوعة في الشعر والفكر والسينما والمسرح…إلخ.
* أنت كاتب مسرحي أيضاً. ما الذي تسرَّب من المسرح إلى الشعر وما الذي تسرب من الشعر إلى المسرح؟
– يحدث ذلك كثيراً. في دواويني الأخيرة هناك نهايات مسرحية. الشاعر الراحل محمود درويش قال لي، بعد أن قرأ “نفاد الأحوال”، كتابك ذو خلفية درامية ومسرحية.
* أخيراً أود أن أسألك: هل الشعر في أزمة. كيف ترى مستقبل الشعر؟
– يكاد الشعر أن يكون الوحيد الذي نجا من الزمن الاستهلاكي والاستبدادي المتصل بالعولمة. نجا لأن العولمة اليوم تركز على السلع المربحة مادياً، في حين أن الشعر لا يدخل في هذه القائمة. الشعر نجا من التسليع لأن المجتمع بعموميته لم يعد يحتاج إليه. أكبر شاعر عربي – باستثناء نزار قباني ومحمود درويش – لا يبيع أكثر من 300 نسخة. الوضع في فرنسا ودول أخرى ليس افضل. ولهذا الشاعر لم يعد عنده هاجس إعجاب الزبون. لم يتحول قارئ الشعر إلى زبون كما حدث في الرواية. الرواية في خطر اليوم وليس الشعر. هل سمعت بديوانت شعر من فئة الـ “بيست سيلر”. الرواية انخرطت في لعبة التسليع. نجاح الرواية لا يعني دوماً أنها جيدة. ولهذا أقول أخطأ من قال إننا نعيش زمن الرواية وموت الشعر. بالعكس نحن نعيش حياة الشعر وموت الرواية. أهم شيئ في الشعر اليوم أنه بلا رواد وبلا أيديولوجيات وبلا أحزاب وبلا مدارس. لم تعد هناك سقوف غقطاعية عند الشعراء والشعر بات خارج أي سلطة وخارج أي استغلال للسلطات والأنظمة والأحزاب والطوائفز انقرض شاعر البلاطات عموماً، مع بقاء
بعض الشعراء المتسولين.
الراي