ربيع وخريف 2005
موفق نيربية
ليس على طريقة ( صدّ الردّ) المباشرة العصبية، هنالك ضرورة- متأخّرة وآنيّة ومتكررة معاً- لتفنيد اعتراض السلطات على أي مبادرة تأتي ممن يعارضها، تحت ادّعاء التوقيت «اللئيم» الذي يصبّ في طاحونة الأعداء الخارجيين. هذا دفاع سلطوي دائم في منطقتنا، ومنها سورية. ولنأخذ مثلاً ما حدث في العام 2005، الذي اعتبرته الحكومة فيما بعد بداية لعزلتها وسبباً لتوتّرها اللاحقين.
آنذاك، استقرّ الإسرائيليون على الانسحاب من غزة وتفكيك مستوطناتهم فيها، وفعلوا ذلك بالتدريج خلال أشهر. وقال أحد محلّلي «هآرتس» إنه «مثلما أجبرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إسرائيل على الانسحاب من سيناء ومن قطاع غزة في آذار 1957، سيقوم العالم مرة أخرى في القرن الحادي والعشرين، بمنعها من مواصلة السيطرة على الأراضي التي احتلتها عام 1967 طوال عقود».
في الشهر الأول من ذلك العام، وفي تلك الأجواء، جرت الانتخابات الرئاسية الفلسطينية، وشارك فيها ثلثا سكّان الضفة والقطاع. حصل محمود عباس على الثلثين، لكن الديمقراطيين الآخرين حصلوا على أكثر من ربع الأصوات، ومصطفى البرغوثي وحده على الخُمس، وكان هذا من محاسنها.
بعد ذلك بقليل، جرت انتخابات في بلدٍ محتل آخر هو العراق تحت الاحتلال والعنف المتنوّع المضامين، وفي ظروفٍ مختلة بالاندفاعات السابقة على الوطنية، أدلى ما يقارب 60% من الناخبين بأصواتهم.
في المسألة اللبنانية، وبعد اغتيال الحريري ومطالبة قسم وازنٍ من اللبنانيين بخروج الجيش السوري، أعلن الرئيس الأسد، قبل تظاهرتي 8 و14 آذار بأيام، قرار الانسحاب الكامل. وكان ذلك القرار من أذكى القرارات، ونفاذاً من ورطةٍ تفاقمت ولابدّ من استغلال الظرف للخلاص منها، بالقول إن «الإجماع» اللبناني المطلوب للبقاء قد انكسر. فجرت بعد ذلك انتخابات لبنانية مهمة مختلفة عما سبقها.
تمّ تعديل القانون في مصر الكبيرة، وإجراء انتخابات رئاسية تعدّدية لأول مرة منذ عام 1952، وعلى الرغم من كلّ الملاحظات عليها، كان الأمر جديداً، وربّما واعداً بتوابع أخرى، محلية وعربية.
في بلادٍ أخرى حدثت أشياء مهمة أيضاً، منها اتفاق الوحدة السوداني، واعتلاء عبدالله عرش السعودية مع رائحة إصلاح على القياس، وغير ذلك… ويقول بعض الكتاب الغربيين إنه بدا آنذاك كأن «ربيعاً» عربياً قد هلَّ.
أما في سورية، فقد انعقد مؤتمر حزب البعث الحاكم، وخرج بقرارات قد يراها المعترضون لا تغني ولا تسمن من جوع، لكنها بمقياسه كانت مهمة وأساسية، تتحدث عن إصدار قانون للأحزاب والإعلام والمطبوعات، وتقييد قانون الطوارئ ومحاربة الفساد وتجديد الاقتصاد وغير ذلك. ورأى متفائلون أن الأمر قد يكون بدايةً أخرى لربيع يائس.
بناءً على ذلك، اجتمعت أحزاب وشخصيات معارضة وأطلقت ما أصبح معروفاً باسم «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي»، وعلى الرغم من أن بعض شخصيات النظام الأمني-الإعلامي رأت أن هذا يأتي في إطار الحملة المتمثلة بتقرير ميليس الأول- الذي صدر بعد ذلك!-، إلا أن ما يناقض هذه الرؤية صدور مرسوم رئاسي بعد ذلك بالعفو عن 190 سجيناً سياسياً، وقالت وكالة (سانا) الرسمية إن هذه الخطوة تأتي «في إطار نهج الإصلاح الشامل الذي يهدف إلى تعزيز اللحمة الوطنية التي تشكل الأساس في نسيج مجتمعنا وخدمة مصالحنا الوطنية» وأضافت أنها «تأتي ضمن سلسلة خطوات مماثلة اتخذتها سورية في السنوات الأخيرة لتمتين الجبهة الداخلية وترسيخ الحوار الوطني.. وأن هناك خطوات وإجراءات قادمة ستتخذ بهذا الصدد على قاعدة أن الوطن يتسع للجميع».
فكان «الجو» منسجماً مع تعزيز وجود معارضةٍ سلمية تميل إلى تحقيق ما تهدف إليه في تدرج وأمان. ولم يكن عكس ذلك. بل حدث هذا العكس بعد عدة أشهر، ولأسبابٍ تتعلّق بتغيير سياسة السلطة، والعودة بقوة وتبرير إلى تقديم السياسة الأمنية على كلّ ما عداها، فصار، بدلاً من الخروج من حالة الطوارئ «الدائمة»، أن دخلنا في حالة طوارئ جديدة وأعمق منها. تجلى ذلك بعد صدور «إعلان بيروت دمشق- إعلان دمشق بيروت» الذي وقعه عدد كبير من مثقفي البلدين، وحاول بيان ما يراه هؤلاء من مخارج من أزمة العلاقة الثنائية الطويلة الأمد، فابتدأت الاعتقالات وتنوعت بالتدريج، حتى بلغت ذروتها في أواخر 2007 مع اعتقال قيادات إعلان دمشق، وسدّ الباب أمام الرأيٍ آخر، رغم تزايد وضوح تعارض اجتهادين ضمن النظام القديم والسلطة التي تحاول تكييف الاحتكار السياسي مع الليبرالية الاقتصادية.
وللأسف، لم يكن هنالك في الجهة المقابلة من المعارضة ما يكفي عدداً.. ونوعاً بالخصوص. لكن طريق الديمقراطية الطويل المتعرج، المتقدم أو المتراجع، ليس مجرّد اختيار في هذا العصر.
* كاتب سوري