أضواء على العلاقة المتوترة بين الريف والمدينة في سوريا: اللاذقية مثالا
كامل عباس
تأخذ العلاقة بين الريف والمدينة في الدول الأقلّ نموا، وبينها سورية، أهمية متزايدة بسبب التوتّر المستمرّ في هذه العلاقة من ناحية وهجرة الريف إلى المدينة من ناحية ثانية. وتعود أسباب التوتّر بين الريف والمدينة إلى جملة من العوامل لعلّ أهمّها دور كلّ منهما وحصّته من عملية الإنتاج.
لقد عرفت الدول الغربية تطوّرا اقتصاديا تُجسّده قاعدة “من الثروة إلى السلطة” التي حجّمت دور الدولة إلى حدّ ما في عملية التوزيع والتبادل. بسبب ذلك، بشكل عامّ، خفت حدّة التوتر إلى حدّ كبير، بينما لا يزال التوتّر على أشده في البلدان الأقلّ نموا ذات البنية المغلقة الراكدة. تلك الدول الاستبدادية كانت وراء تجديد التوتّر مع أنّ مدنها أقدم وأعرق من المدن الغربية .
سوريا مثلا، بلد حضاريّ عريق في هذا الجانب، ففيه تشكّلت أقدم المدن في التاريخ، وهذا ما دعا مدير متحف اللوفر سابقا اندريه بارو ليقول: “إنّ على كلّ إنسان متمدّن أن يقول : إنّ لي وطنين، وطني الذي أعيش فيه وسوريا.” بيد أنّها رغم ذلك التاريخ، لم تستطع تجاوز ذلك المستنقع، والتوتّر بين مدنها وأريافها على أشدّه في القرن الواحد والعشرين، مع فارق بسيط عن الماضي وهو أنّ المبادر لتأزيم العلاقة هو الرّيف وليس المدينة، أي هجوم الريف على المدينة بدلا من هجوم المدينة على الريف في السابق – ترييف المدن بدلا من تمدين الريف –
سنتتبع تلك العلاقة المتوتّرة في محافظة عريقة من محافظات سوريا عروس الساحل السوري- اللاذقية.
إنّ موقع اللاذقية الجغرافي(1) أثّر تأثيرا كبيرا على الوضع السكاني؛ من حيث اختلاف الأديان والمذاهب والأعراق، فهي منفذ بحريّ لسورية، وسورية كانت دوما هذا الموقع الهامّ الذي تلاقت فيه أجناس وأمم مختلفة عبر التاريخ. وحسب إحصاء رسميّ تمّ في عام 1866 م كان عدد سكان مدينة اللاذقية 11200 نسمة وفيها 19 مسجدا وسبع كنائس وستّ حمامات، وكانت فيها قنصليات لكلّ من فرنسا وانكلترا وروسيا وايطاليا واسبانيا والدانمرك ، وفي عام 1865 قسّمت المدينة إلى ستة أحياء هي الشيخ ضاهر – العوينة- القلعة – الصباغين –الصليبة – الشحادين، وأصبح كلّ حيّ يشكّل دائرة على رأسها لجنة مؤلّفة من مختار وأربعة أعضاء .
أوائل القرن العشرين أصبحت اللاذقية لواء أو سنجقا ملحقا بولاية بيروت تضمّ أربعة أقضية. ولم يكن لواء اللاذقية يختلف كثيرا عن الألوية العربية تحت الحكم العثماني، حيث التوتّر على أشدّه بين الريف والمدينة: يسكن المدن عائلات ميسورة موالية للحكم العثماني ومتعاونة معه، سواء كانت إقطاعية أم حرفية، ويسكن الريف فلاحون فقراء يقع على عاتقهم دفع الضرائب أو الالتحاق بالخدمة العسكرية حسب ما تقتضيه مصلحة السلطنة .
خرج الأتراك من مدينة اللاذقية بعد أربعة قرون، وجاء بعدهم الفرنسيين واحتلّوها لفترة قصيرة من الزمن كانت مغايرة في كلّ شيء عن فترة العثمانيين، فالفرنسيون جلبوا معهم الانتخابات النيابية، ومالوا باتجاه الأقليات المضطهدة أيام العثمانيين. وكان المستفيد الأكبر من الاحتلال الفرنسي في اللاذقية هو أبناء الريف العلوي فيها، حيث لم يعد العلويون مستهدفين من قبل المسلمين لكونهم “رافضة” و”خطيرين على الإسلام، بل أصبحوا كغيرهم من أبناء الوطن المحتلّ.
اتّخذ التوتّر بين الريف والمدينة في اللاذقية فترة الخمسينات شكلا كلاسيكيا مستمدّا من واقع الريف والمدينة وتراث وتقاليد وعادات وقوّة كلّ منهما على الأرض .
واللوحة التالية جرى شبيه لها في كلّ أسواق المدن الساحلية أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وهي تُعبّر اصدق تعبير عن شكل ذلك التوتر.
أبو سميع فلاح فقير من إحدى القرى المجاورة لمدينة جبلة، كانت عائلته تنام كثيرا من الليالي الباردة دون عشاء من شدّة الفقر، حتى اهتدى إلى الاتّجار بالبيضة بين القرية والمدينة، وتجارته فيها جعلته محسودا من كلّ أهل القرية، ومكّنته من تشييد أوّل غرفة مسقوفة بالاسمنت فيها. كلّ يوم سبت له رحلة إلى المدينة هو وحماره المسروج بسلتين تحملان البيض الملفوف بالورق كي لا يتكسّر داخل السلة، ولقد ذاق الأمرّين في البداية من زعران السوق، ومحاولتهم مضايقته وقذفه بالفضلات والأوساخ، والسخرية من لهجته وطريقة مشيته . لكنه بالنهاية أصبح جزءا من حركة السوق بشرواله الأسود وقنبازه المخطّط وطاقيته اللبادية، يعود إلى القرية محمّلا بالبخور والحنّاء والتمر والحلاوة، وحتى خبز الفرن الذي يوضع حشوة لخبز التنّور في القرية ويصبح زوّادة للفلاحين في حقولهم.
في إحدى المرّات وصل إلى مشارف المدينة باكرا، دفء الطقس وغزارة العشب أغرياه بربط الحمار في زيتونة على مشارف المدينة بدلا من دفنه داخل خان السوق، حمل السلّتين بين يديه إلى السوق وباع البيضات هناك، ثمّ اشترى بثمنها ما يستطيع، وعاد بحوائجه على عربة – طنبر – ومن بعيد رأى الحمار مقلوبا وقوائمه مشرعة بالهواء وحوله أكوام من الحجارة، أولاد السوق كيف تنادوا إلى الوليمة ومن أين تجمّعوا !! لقد رجموه بها حتى بقروا بطنه وفقئوا عينيه، غادر العربة مسرعا وبدون وعي منه شكّل قنبازه وملأه حجارة وجرى وراءهم، لكنهم اختفوا بين أزقة الحارات فبدأ برشق الحجارة على زجاج النوافذ، ولم يتوقف عنها حتى طلب الأهالي الشرطة، فضبطوه بالجرم المشهود، واقتادوه إلى السجن ليصبح خلف القضبان .
تغيّرت العلاقة بين الريف والمدينة شيئا فشيئا منذ بداية الستينات. وقد بدا التغيّر في البداية وكأنّه لصالح علاقة جديدة أكثر استقرارا وتوازنا وإنصافا للطرفين، بسبب فترة النهوض الاقتصادي الاجتماعي التي عرفتها سوريا كلها بعد التأميم وشقّ الطرق وإقامة السدود وضرب مصالح الطبقات الرجعية، ولكنّ فترة النهوض لم تدم طويلا كما هو معلوم، لتعود العلاقة إلى التوتّر من جديد، على شكل هجوم من الريف على المدينة .
لقد أقبل أبناء الفلاحين في ريف اللاذقية على الانتساب للأحزاب اليسارية، وخاصة الحزب الشيوعي وحزب البعث لأنّها من جهة أحزاب تحرّرية لا تنظر إليهم كأقلية طائفية، ومن جهة أخرى تحضّ على العلم وتساعد من استطاع أن ينال الشهادة الثانوية في الحصول على وظيفة تعصم عائلته من السنوات العجاف التي لا تمطر ولا تجعل أرضهم معطاء، والوظيفة الدسمة في الجيش السوريّ، فقد يحالف الطالب الحظّ ويدخل الكلية العسكرية التي فتحت أبوابها لابن الريف بعد أن عزف عنها ابن المدينة لأنّ حياتها خشنة ولا تناسب ميوله وطباعه. من خلال الجيش والوظيفة وحزب البعث وصل أبناء الفلاحين في ريف اللاذقية إلى أعلى المراتب داخل الجيش والحزب الحاكم، والسلطة في كلّ مكان وزمان مفسدة للثوار، فقد راح الموظّفون الجدد يلهطون من أموال الدولة ما تيسّر تحت بصر القيادة “الحكيمة والشجاعة” وبتشجيع منها أحيانا ليصبح الجميع مدانين وتحت الطلب، ومن لم يطاوعه ضميره للسير في هذا الطريق كان له طريق آخر.
الملفت للانتباه في مسيرة أبناء الريف داخل السلطة؛ هو سلوك أبناء الطبقات الفقيرة الذين انقلبوا على ماضيهم وتنكّروا لأصولهم الطبقية وتفنّنوا في أساليب القمع والوحشية إلى جانب ثرائهم الفاحش، خلاف أبناء الطبقات ذات الحال الميسور نسبيا والتي ظهرت علائم عدة توحي بوخز الضمير لدى الكثيرين منهم، حقّا أنّ المثل الشعبيّ الذي يقول – عديم ووقع بسلة تين – ينطبق عليهم بكل أسف، من آلاف الحوادث اخترنا هذه الحادثة من حياة اللواء محمد الخولي .
بدأ التوتر على يد المؤسسات ذات الامتيازات الجديدة وجلّ أبنائها من الريف، الذين غادروا قراهم نحو المدينة ومعهم امتيازاتهم وسلاحهم. أصبحت النكات والنوادر حول انقلاب النفوذ في السوق لا تعدّ ولا تحصى، عنوانها كيف يُلفَظ حرف القاف فيه، في الخمسينات من كان يعبّر عن زجاجة الماء بقوله (أنينة) يخافه الجميع أمّا في الثمانينات من يعبّر عنها(قنينة ) يخافه الجميع، بالطبع كان التوتّر على أشدّه في السوق فترة الثمانينات معبّرا عنه بظاهرة “الشبيحة” (2). كانت اللاذقية فترة الاحتلال العثماني تئنّ تحت بوط العثمانيين العسكري، وسفر برلك شاهد على ذلك، وحدهم المتعاونون مع الاحتلال والمزيّنون له – بحجّة تبنّيه الدين الإسلامي ومحاولة نشره في العالم – كانوا في حالة عيش رغيدة؛ يسكنون المدينة ويتمتّعون بحماية قوات الاحتلال ويسومون الريف ألوانا من العذاب .
رحل العثمانيون عن اللاذقية، ولكنّ بنية الاستبداد في المنطقة هضمت الحاكم الجديد بن البلد. المدينة بكلّ تاريخها الحضاري والثقافي لم تستطع تجاوز قوانين العثمانيين حتى هذه اللحظة.
التغيير الأساسي الذي جرى في محافظة اللاذقية فترة القرن العشرين هو بانقلاب النفوذ بين أبنائها من المدينة إلى الريف، فأبناء الريف يحظون الآن بحضور اقتصادي وسياسي واجتماعي وعسكري وأمني أكبر من حضور أبناء المدن، فيما عدا ذلك بدت محافظة اللاذقية على أعتاب القرن الواحد والعشرين حزينة جدّا كما في الماضي، كلّ شيء فيها يتمّ من أعلى ودون استشارة أهلها، وكلّ منظماتها ونقاباتها واتحاداتها ونواديها وجمعياتها، تجرى فيها انتخابات صورية معروفة النتائج سلفا، سواء كانت بلدية أم نيابية أم مهنية، والتهاني يتلقّاها ابن القائمة السلطوية فور الإعلان عنها، وقبل أن تجرى الانتخابات الصورية، ولم يحصل في تاريخها الحديث أن نجح شخص مستقلّ في أيّ انتخابات، مهما كان نوعها غير مرضيّ عنه من قبل دوائر الأجهزة الأمنية .
في ظلّ أجواء كهذه، من الطبيعيّ أن يتجلّى التوتّر بين الريف والمدينة، بأشكال تتلاءم مع حجم ونفوذ كلّ طرف فيهما، ليس في اللاذقية بل وفي كل المدن السورية .
***
دلّت الحفريات التي أجريت في مدينة اللاذقية والمناطق المجاورة لها، أنّ المنطقة كانت مأهولة بالسكان منذ الألف السابعة قبل الميلاد. الشبيحة مصطلح سوري يطلق على مجموعة من المدنين المسلحين الذين كانوا يطوفون الشوارع يفرضون خوة على الناس في مدينة اللاذقية وريفها.
موقع الآوان
أرى أن الكاتب يكرر الخطاب الذي يقوم على المضطَهد والمضطِهد، في تناوله لتقلبات هذا “الفرد العلوي/ الريفي”، كما أنه يغض الطرف عن تشعبات الفئات الاجتماعية منذ الفترة العثمانية وعلاقتها المتباينة سواء مع المحتل الفرنسي أم مع الحكومات الوطنية، إضافة إلى أنه يتناول انتماء العلوي/ الريفي كهوية جوهرانية رغم افتراض “إلحاد” أو “لا أدرية” أو ولادة الكثير من أفرادها في المدن. تقارب المقالة السردية التي تتأسس على “نزعة الضحية” Victimismo، لتنقلب في قسمها الثاني إلى سردية “الجلاد” وهو يعترف. وبذلك يؤسس الكاتب بشكل غير معلن لـ “ذنب”، قابل للتوارث، يحمل وزره من يحمل “هوية العلوي/ الريفي” وبذلك يَسهل اتهام أي واحد منهم بمحرقة قام بها آخر مختلف فكرياً وثقافياً وسياسياً. أعتقد أن قراءة تفكيكية لسرديات السلطة التي صنعت معرفة السيرة وسيرة المعرفة لهذه المدينة وأهلها على اختلاف ألوان الطيف وهوياتهم النسبية والمتبدلة في الدين والثقافة والتاريخ يمكن أن تقدم قراءة مختلفة تماماً عن القراءات الثنوية المطلقة.