ميشيل كيلو

مصر: شعب يخرج من النظام!

ميشيل كيلو
من يتابع الواقع المصري المتلاطم الأحداث، سيصل إلى النتيجة التالية: لم يعد المصريون يستطيعون أو يقبلون العيش بالطريقة التي قررها لهم نظامهم، ولم يعد النظام قادرا على حكمهم بالطريقة التي لطالما ضمنت صمتهم أو موافقتهم. لم يعد شعب مصرا قادرا على الصمت حيال ما تتخذه حكومته من تدابير وإجراءات، وعلى قبول سياسات تتجاهل مصالحه وتحرمه من أبسط حقوقه بما في ذلك الحق في العدالة والمساواة. بالمقابل، ليست حكومة مصر في وضع يمكنها من مواصلة سياسات كفلت إلى الأمس القريب رضوخ الشعب لمصالح وخيارات من يفيدون منها في الداخل والخارج.
يقول علماء السياسة ومنظروها: عندما تبلغ علاقة الشعب بالحكومة هذه الدرجة من الافتراق والاختلاف، تكون هناك أزمة، فإن استحالت معالجتها بالوسائل العادية، صارت أزمة مستعصية وغدا التغيير ممكنا ومطروحا، شريطة توفر قيادة بديلة توحد قدرات الشعب، وتوفق بين مصالح فئاته المختلفة، لإقامة ميزان قوى داخلي من مفرداته اختراق الخصم الحكومي وبعثرة أو إضعاف قواه، وتحويل الشعب، أو كتل رئيسية منه، إلى حامل مشروع جديد تضمن أفكارا وحلولا قادرة على إقناع جمهرة كبيرة من الناس بأن تطبيقها سيؤدي إلى تجاوز مشكلات الدولة والمجتمع، كما تتضمن خططا تنفيذية قابلة التحقق في واقع البشر الملموس. بتكامل هذه العناصر والمقومات، على المستويين الشعبي والرسمي، يصير النجاح احتمالا قويا، ويغدو ثمنه يسير الدفع، مهما كان مرتفعا، بمجرد أن ينخرط الطرف الآخر، الحكومة أو الطبقة السياسية أو أصحاب المصالح السائدة أو هؤلاء جميعا، في حال من العجز يحول بينهم وبين التصدي بنجاح للأزمة، التي تتظاهر في أوضاعهم الخاصة وفي أوضاع الشعب وعلاقاتهم معه، وتتعرض الأيديولوجية السائدة والسياسات النابعة منها لقدر من التخبط والتهتك، تتناقص معه قدرتها على إقناع الناس بما تقترحه من خيارات، والحد من تدهور وتفكك الطبقة السياسية ومؤيديها، وانتقال جزء من أتباعها وأجهزتها إلى الجانب الآخر: الشعب المناوىء لها.
كي يكون التغيير ممكنا، ثمة حاجة إلى توحيد الشعب وتعبئته وتزويده برؤية نظرية / برنامجية، وخطط عملية، وفي الوقت نفسه، إلى إنهاك وتفكيك الطرف المقابل، وإصابته بعجز يقعده أكثر فأكثر عن الحركة، ويطيح بمصداقيته، ويحوله إلى عبء على أية جهات متحالفة معه، وكذلك على قسم من أبنيته الهيكلية وأجهزته الخاصة، التي يجب أن تعتقد، مثلما يعتقد قسم كبير من الشعب، أنه لم يعد مؤهلا لمواجهة التحديات والأزمات، ناهيك عن مهام المستقبل، فلا مفر من أن يترك مكانه لبديله، وإلا فإن الدولة والمجتمع لن يخرجا من أوضاع تتحدى قدرتهما على إيجاد حلول ملائمة لمشكلاتها، يتطلب التخلص منها رؤية وبرامج وقوى من طبيعة مغايرة لطبيعته، كفيلة بضبط الأزمات والحيلولة دون تحولها إلى كوارث يهلك فيها الجميع: أنصار النظام وخصومه!.
ليس هذا الوضع من الاستقطاب المتبادل ممكنا إذا لم تسبقه حالة من التدهور العام تطاول السياسة والاقتصاد والاجتماع والأيديولوجية السائدة، تضع الجميع، في السلطة والمجتمع، أمام أسئلة تتصل بمصير الجماعة الوطنية، التي تكون مهددة عندئذ بعجز الدولة عن ضمان الاستقرار والتوازن السياسي والاجتماعي العام، وقدرة الطبقات على مواصلة دورها المتكامل في العمل والإنتاج، والهيئة المجتمعية على النمو والتجدد، والمواطن على صيانة حقوقه ضمن حاضنة قانونية شرعية، تكفل نصيبه من الخير العام، وقيامه بدوره في الشأن العام.
هذا التدهور العام صار أمرا قائما يصعب أن ينكره أحد، فهل بلغ المرحلة التي وصفتها؟ ثمة تدهور يبدو شاملا في مصر، عبر عن نفسه في ثلاثة آلاف وثلاثمئة إضراب واعتصام واحتجاج وقعت خلال عام ونصف العام، شملت كل مواطن، وغطت جميع جوانب حياته العامة، فلم يبق احد إلا وتأثر بنتائجها أو أسهم فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة . التدهور العام أمر واقع، ونتائجه على الوعي العام مسألة لا نقاش حولها، والقطيعة التي ترتبت عليه بين الحاكمين والمحكومين من ثوابت الوضع الراهن، حتى أن الرئيس مبارك لم ينكرها، وإن كان قد حذر من نتائجها وخوف المصريين من فوضى عارمة قد تنجم عنها، وأقر أن بديل الحال الراهن المأساوي سيكون أشد مأساوية، وأن مصر لن تخرج من احتجازها الراهن، لأنها بلغت نقطة تتناقض فيها الحلول المقترحة، وهي جزئية وعارضة، مع التدهور العام، وهو كلي وشامل، ولأن ما يراد تحقيقه رسميا سيفضي إلى تعميق المشكلات، من ذلك مثلا الرغبة في المحافظة على الوضع السلطوي مع أنه هو الذي تسبب في أزمة لا تملك السلطة مخرجا منها على المدى المنظور، مع أن عمق الأزمة يحتم إصلاح هذا الوضع بطريقة جذرية، بينما يخاف الحكام نتائج الإصلاح ويعرقلونه، لاعتقادهم أن إصلاح نظم مماثلة لنظامهم، تعاني أزمة مستعصية، سيؤدي حكما إلى انهيارها واستبدالها بغيرها. هذا التعبير الرسمي عن الأزمة، يقابله على الجانب الآخر افتقار إلى رؤى وخطط عملية وتنظيمات سياسية يتحد الشعب في ظلها فتقوده إلى أهدافه. إنها حالة احتجاز مقابل للاحتجاز الرسمي، تؤدي من جانبها إلى مزيد من الانهيار العام، الذي لا يعرف أحد كيف ستخرج مصر منه، وبأي ثمن!.
هل المحكومون في حالة نمو وتقدم في السياسة والوعي؟ وهل يمتلكون خططا ورؤى تستطيع إخراجهم وإخراج وطنهم من الوضع المأزوم الراهن؟ وهل المعارضة المنظمة، الحزبية والسياسية، في طور من الديناميكية والنضج والوحدة يمكنها من تعبئة الشعب وحشد قواه، أم أن حركة الاحتجاج الاجتماعي في واد وحراك المعارضة في واد آخر، كأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان، تحول المسافة بينهما دون انتفاع المعارضة من حراك الشارع الاحتجاجي على هذا الجانب، ودون انضواء قواه في إطار سياسي يعكس حضورها وقدرتها على الضغط، كما يكفل نموها وانتشارها على الجانب الآخر، بينما تواصل حركة الاحتجاج أنشطتها، التي لا يعرف أحد كيف يلمها ويوجهها ويجعلها حزمة جهد مركز، موحد وعام وشامل، منظم وغائي، مرشح للتطور والنمو وبلوغ أهداف عامة تتخطى المطالب الجزئية، على أهميتها الفائقة ؟ يمنح الافتراق بين حركة الاحتجاج والمعارضة السياسية الحاكمين الفرصة والوقت الضروريين لشق صفوف المحتجين والمناورة على مطالبهم وإدخال اليأس من التغيير إلى نفوسهم، ولتوحيد أهل السلطة وتعبئة طاقاتهم، ورفع روحهم المعنوية، وتحسين موقعهم من الصراع، وقدرتهم على إدارته. بالنظر إلى حالة مصر الخاصة، وما تواجهه من فراغ في قمة السلطة، ومن تحكمa الأجهزة السرية في شؤون البلاد والعباد، فإن من المستبعد نجاح أي طرف من طرفي الصراع في الخروج من وضعه الذاتي، وإخراج مصر من وضعها المأساوي العام.
هذه الأسئلة، التي يطرحها واقع مصر الحالي، ويتوقف كل ما عداها عليها، تضع أمام أعيننا حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، هي أن شعب مصر يخرج من نظامها، وأنه لم يعد يأتمر بأمره، أو يخضع لاعتباراته وحساباته، ويرى فيه نظاما أخذ وجوده يدفعه إلى التمرد عليه. هذه الحقيقة صارت مستقلة عن علاقة الشعب بالمعارضة وبحجمها ودورها. ثمة نتيجة هامة تترتب على ما سبق قوله: بخروج الشعب من النظام، يخسر النظام أكثر فأكثر، وشيئا فشيئا، حامله الاجتماعي، الشعبي والوطني، ويفتضح أمره وطابعه كنظام تسلطي ليس لديه ما يقدمه للمحكومين غير الجوع والقمع، علما بأن أي نظام هذه وظائفه وصفاته يكون مرشحا لمفاجآت مقلقة، بما في ذك الانهيار المباغت، أو الدخول في أزمة لا مخرج منها، تمتد وتتفاقم إلى أن يوجد بديل له من داخله أو خارجه، بينما يحوله ضياع وظائفه إلى عبء على نفسه وشعبه تتلاشى مبررات وجوده واستمراره. عندئذ، تبرز بقوة متزايدة وضاغطة الحاجة إلى إصلاحه، فيكون أمام أحد احتمالين أو أمامهما كليهما: الانهيار، أو تفجير ما في المجتمع من تناقضات تمكنه من التحكم بالشعب وابتزازه!
يواجه الوضع المصري مشكلات كثيرة، لا يعرف كيف يتخلص منها، أهمها:
– توريث السلطة، وإلا فانتقالها من حسني مبارك إلى بديل آخر له. هذه المشكلة تعقدت مع عودة البرادعي إلى مصر، وصار حلها أكثر صعوبة مما كان عليه قبل ذلك. إنها مشكلة المشاكل بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة، في نظام يعيد إنتاج نفسه من رأسه، تتصارع فيه مراكز قوى متعارضة ومتنوعة.
– الفائض السكاني، الذي تحول إلى مشكلة سياسية بامتياز، تلعب دورا مهما في تغذية وتأجيج حركة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي، ليس لدى النظام حل لها في ظل خياراته الراهنة، التي أخرجت مصر من العالم العربي، واعتمدت سياسة تهجير منظم للمصريين بدل حل مشكلة الفائض السكاني في إطار سياسي يعتمد الوحدة العربية.
– الإدارة، التي تفقد طابعها السلمي والمدني وتتحول إلى تسلط بوليسي صرف، بينما تأخذ المطالبة بالديمقراطية قطاعات متعاظمة من الشعب إلى الطرف النقيض، ويفهم أصحاب المصالح أن زمن التأميم لن يعود، فلا خوف عليهم، ربما، من نظام يغير شروط اللعبة، يتيح لهم بيئة عمل وسياسة أفضل.
– المؤسسة العسكرية، التي يرجح أن تلعب دورا أكبر وأكثر مباشرة في المستقبل، يجعله حتميا إفلاس الطبقة السياسية الحاكمة، طبقة حسني مبارك، العاجزة عن إدارة البلاد والسيطرة على الفساد المستشري في صفوفها، وتنغمس في تصرفات توحي بأنها بلغت سن اليأس.
– السياسة المصرية في واقع العرب الراهن ومعضلاته الكثيرة، وهي سياسة تقوم على عزل مصر عن العرب، بينما تتصاعد صراعات ومخاطر وتحديات عربية وإقليمية تحاصر مصر من جميع الجهات وتخترقها، دون أن تبدي حراكا.
هذه مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وتاريخية تتصل بهوية مصر ودورها وواقعها، بعضها من طبيعة آنية وملحة مشكلة السلطة وبديل مبارك -، وبعضها من طبيعة بنيوية الفائض السكاني والدور القيادي في العالم العربي – وبعضها الآخر من طبيعة مركبة – تغليب العلاقة مع الآخر على العلاقة مع الذات في المجالين الوطني والقومي وما قد يترتب على ذلك من نتائج خطيرة ومفاجآت. تبدو الطبقة السياسية المصرية مشلولة ومقيدة اليدين تجاه هذه المشكلات، التي تراكمت في العقود الأخيرة، وأخذت تذكر كثيرين بالاحتجاز الذي عرفته مصر قبل ثورة عام 1952، ونجم أساسا عن خروج شعبها من نظامها!.
كانت مصر وستبقى حاضنة ينضج المستقبل فيها بدائله وحلوله، ومختبرا يجرب الحاضر فيه وسائله ويتفحص قدراته وأهدافه. واليوم، يتطلع العرب جميعهم إلى شعب مصر وحركته الاحتجاجية، ويرون في ما يفعلانه ‘ بروفه عامة ‘ لما سيحدث في المنطقة العربية. وهم يرجون لهما النجاح، ما دام التخلص من نظامها هو بداية تاريخ عربي جديد، سيمر حتما على جثث نظم الاستبداد القائمة، التي قتلت الدولة وخربت المجتمع، فحفرت قبرها بيديها!.

* كاتب وسياسي سوري
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى