مراجعة على خط التماس
غسان شربل الحياة – 16/05/08
ما شهدته بيروت لا يعنيها وحدها. بيروت موصولة بشرايين المنطقة. من هنا أهميتها. وخطورتها أيضاً. ولا نبالغ أن قلنا إن العرب ينظرون إلى بيروت بوصفها تجربة رائدة ومختبراً للتعايش. هذا الاعجاب أعطى العاصمة اللبنانية القدرة على إطلاق الرياح ونقل العدوى. أفكارها تتسلل إلى المنطقة. وأمراضها تتسلل.
أكتب في ضوء ما تكشف من ممارسات رافقت الأحداث الأخيرة في لبنان وما تبعها من تصريحات. وفي ضوء الاتصالات التي تلقتها الشاشات اللبنانية والعربية والمقالات التي ظهرت في الصحف. وفي ضوء الرسائل التي تلقيتها بالبريد الالكتروني من عواصم عربية عدة والقاموس الذي غرفت منه والمفردات التي استخدمت. واستناداً إلى كل ما تقدم يمكنني القول إن حفنة الأيام القاتلة التي عاشها لبنان كانت أشد وطأة وإيلاماً من سنوات عاشها العراق ربما لأنها عمّقت ذلك المناخ وعبر بلد هو لبنان.
على رغم كل الأهوال التي عاشها العراق كنا نحاول اقناع أنفسنا والقراء بأن الاقتتال المذهبي هناك مفتعل ومصطنع وأنه لا يمكن اعتباره جزءاً دائماً من المشهد. وعلى رغم ادراكنا خطورة الاشعاعات التي كان يسربها إلى المنطقة مفاعل التوتر المذهبي في العراق كنا نعتقد بأن المنطقة لم تفقد بعد حصانتها ضد اغراءات الانزلاق في هذا الاتجاه.
يمكن الحديث هنا عن رغبة عميقة لدى كثيرين من العرب في ترك جروح التاريخ في عهدة التاريخ. رغبة عميقة في عدم ايقاظ الجروح ودس الملح فيها. لهذا كان هناك من فضل الاعتقاد بأن الاقتتال المذهبي هو مجرد مؤامرة حاكها الاحتلال وجاءت معه وستغادر معه. وكان هناك من فضل الاعتقاد بأن «القاعدة» تحاول تعميق الشرخ لتعثر على ملاذ وفرصة للاستقطاب والتحصن في معقل مذهبي.
ما رافق أحداث لبنان الأخيرة وما شهدناه وسمعناه يوحي بأن الوضع أسوأ مما اعتقدنا وأخطر. بدا واضحاً أن ما ضخّه المفاعل العراقي في عروق الأمة ترك بصمات واضحة وترك دوياً وتوتراً. ولهذا لم يعد باستطاعة أي سياسي أو صحافي أو مواطن قراءة تطورات المنطقة وفهم أحداثها من دون الالتفات إلى عنصر قديم عاد إلى الواجهة وهو التوتر المذهبي.
لنترك جانباً الشق التاريخي والقديم من خط التماس. يمكن الحديث عن تطورات أعادت تسليط الأضواء عليه أو التذكير به. الثورة التي فجَّرها الخميني في إيران ومحاولتها «تصدير الثورة» إلى مواقع في بحر لا يشبهها. الحرب العراقية – الإيرانية التي كانت ترمي في بعض وجوهها إلى احتواء جمر الثورة داخل الحدود الإيرانية. سقوط «البوابة الشرقية» للعالم العربي. تولي المعارضة الشيعية العراقية المدعومة من إيران مقاليد السلطة في بغداد. في هذا السياق كان يوم إعدام صدام حسين كثير الدلالات بالنسبة إلى درجة الاحتقان على خط التماس السنّي – الشيعي. فموعد الإعدام والطريقة التي تم بها والصيحات التي رافقته أثارت استهجاناً واستنكاراً حتى في أوساط طالما تمنت له سقوطاً مدوياً. يمكن أن نضيف إلى ذلك عروض القوة التي تنفذها إران وسعيها إلى التحول دولة كبرى ذات دور حاسم في الاقليم وامتداداتها الفلسطينية واللبنانية علاوة على تحالفها مع سورية. كل ذلك أثار مخاوف العرب على دورهم في الاقليم ومصالحهم فيه خصوصاً حين اعتبروا ان الهجوم الإيراني يصعّد التوتر في المنطقة ويضاعف عوامل زعزعة الاستقرار. وهكذا اختلط القلق العربي بالسخونة التي راحت ترتفع على خط التماس المذهبي في المنطقة.
في هذا المناخ جاءت الأحداث الأخيرة في بيروت وهي تحمل في جانب منها آثار اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومرارات ما بعد حرب تموز. المشاهد التي نقلتها الشاشات وما تبعها من روايات عن ممارسات، أثارا غضباً وضاعفا الاحتقان المرتفع أصلاً على خط التماس. يمكن القول إن الخسارة التي لحقت برصيد المقاومة كانت كبيرة. الشيء نفسه في ما يتعلق بصورة «حزب الله». كل قراءة للخسائر والأرباح تتجاهل ما ألحقته الاحداث بالعلاقات السنّية – الشيعية قراءة ناقصة.
حروب بيروت أوسع من مسرحها وأخطر. بيروت في المنطقة نموذج ومختبر. لا يستطيع لبنان احتمال اشتعال خط تماس سنّي – شيعي فيه. ولا تستطيع المنطقة قبول اشتعال مثل هذا الخط فيها. واذا كان من المفروض ان تستغل كل الأطراف المحلية والخارجية صمت السلاح لإجراء مراجعة فإن «حزب الله» مطالب بإجراء مراجعة عميقة يتوقف على نتائجها مستقبل الوضع في لبنان ومستقبل العلاقات العربية – الإيرانية ودرجة الاشتعال على خط التماس في المنطقة.