تعقيباً على “مقدّمات لفهم العلاقات العربيّة الكورديّة” لسربست نبي: النظر بعين واحدة
عمر قدور
بدايةً لن أخفي التردّد الذي انتابني في التعقيب على مقالة الأخ سربست نبي المذكورة أعلاه، والمنشورة في الأوان بتاريخ 8/8/2009، ولا أخفي أيضاً أنّ التردد نابع من تفهّم عميق لمشاعر الكورد في سوريا والعراق، وأخصّ سوريا لأنّها بلدي التي أعرفها وتهمّني بكلّ مكوّناتها. وليعذرني الأخ سربست لأنّني لن أنطلق من موقع الآخر، وفق الترسيمة المعتادة، وقد شاءت الظروف أن أنحدر من منطقة ذات غالبيّة كورديّة، وأن تكون الثقافة الكورديّة، بلُغتها وتراثها وموسيقاها…، جزءاً من تكويني الشخصيّ المبكر، وبحيث لا أعرف وجوداً بمعزل عن الكورد، ولا أتمنّاه أيضاً. لعلّ هذا التوضيح يعفيني من إبداء التعاطف المجّانيّ فذلك شأن الغرباء، ولعلّ المقالات العديدة، المنشورة لي في منابر عربيّة وكورديّة، التي تثير قضايا التمييز بحقّ الكورد تجعل من هذه السطور خارج الاستقطاب الحادّ “عربيّ/كورديّ”.
يقطع الأخ سربست جزءاً من الطريق حينما يتقصّى أثر ازدهار الفكر القوميّ العربيّ في سوريا والعراق، ووصول ممثّلين عن هذا الفكر إلى سدّة الحكم في البلدين، لكنّه يتوقّف في منتصف الطريق، بمعنى أنّه يتقصى الآثار المباشرة المترتّبة على الإجراءات التمييزيّة بحقّ الكورد، ولا يذهب إلى معاينة ردود الأفعال التي قد تكون من طبيعة الفعل ذاته في مثل هذه الحالات. تشرح لنا نشأة الفكر القوميّ العربيّ في بواكيره طبيعة الحراك السياسيّ والفكريّ في المنطقة، فلا يخفى أنّ هذا الفكر كان ردّة فعل على الصحوة القوميّة في المركز العثمانيّ، وتحديداً على النخبة التي نادت بسياسة التتريك، وأرادت الخروج من موقع الإمبراطوريّة إلى الدولة الحديثة التي عنت آنذاك الدولة القوميّة. على ضوء ذلك نفهم انتعاش الفكر القوميّ في المشرق، وفي المقابل ضعفه في المغرب العربيّ، مع خضوع المنطقة بغالبيّتها للاحتلال الغربيّ وعلى فترات زمنيّة متفاوتة. إنّ استحضار العامل التركيّ هنا يتخطّى الضرورة التاريخيّة بمعناها الزمنيّ البحت، لأنّ الحضور التركيّ والقضيّة الكورديّة في تركيا استمرّا في التأثير والتفاعل مع المسألة الكورديّة في شقّها العربيّ.
إذن سيكون من المنطقيّ، خاصّة في مجتمعاتنا التي تتقاسم التخلّف الحضاريّ، أن يولّد الغلوّ القوميّ العربيّ تطرّفاً كورديّاً، أو على الأقلّ حركة قوميّة مناهضة لقرينتها العربيّة، وهذا ما حصل فعلاً، فباتت الأوطان في الحلم المؤجّل، لا في الواقع، لدى الطرفين؛ العربيّ يرى دولته القطريّة مؤقّتة بانتظار إنجاز دولة الوحدة، والكورديّ يعيش في الدولة ذاتها منتظراً استقلالاً ووحدة كورديّة منشودة. في دولة الأمر الواقع هذه تمّ ترحيل استحقاقات الدولة إلى الأيديولوجيا، فالأحزاب القوميّة العربيّة الحاكمة وجدت في الأيديولوجيا مهرباً من مسؤوليّاتها، وفرصة لممارسة السلطة بلا قيود، فغيّبت مسائل الديمقراطيّة والمواطنة وأحالتها إلى مرحلة إنجاز الوحدة. أمّا الأحزاب القوميّة الكورديّة فردّت بتحميل المسؤوليّة على الآخر العربيّ، ولم تبحث عن الحلّ في الدولة القائمة، بل نظرت إلى الدولة الكورديّة المرتجاة على أنّها الحلّ.
من التعسّف طبعاً أن نساوي بين الفعل وردّة الفعل، لكنّ التعسّف الأيديولوجيّ بدوره يتغافل عن الواقع والمشتركات بين العرب والكورد لصالح ستاتيكو الأفكار المسبقة، ومن ذلك أنّ الأحزاب القوميّة الحاكمة تحوّلت إلى أحزاب سلطة، ولم تتح المشاركة الشعبيّة في الشأن العامّ، أي أنّ غالبيّة المواطنين حُرمت من المشاركة في القرار، وهذا الوضع يختلف عن مثيله في تركيا التي عرفت نوعاً من الديمقراطيّة القوميّة أتاحت هامشاً من الحريّات للأتراك، ومارست التمييز بحقّ الاثنيات الأخرى. في مثل هذا المناخ يغدو ضروريّاً التفريق بين التسلّط كمنظومة عامّة والإجراءات التمييزيّة التي توجّه ضدّ فئة من المواطنين؛ على سبيل المثال يُمنع الكورديّ من استخدام لغته، ويُمنع الجميع من حرّيّة التعبير، فتحجب الإجراءات التمييزيّة الحقَّ الأصل والمظالم المشتركة. ومن طرائف المشترَكات أن نرى آلافاً من الكورد السوريّين يتطوّعون للقتال إلى جانب أشقّائهم في تركيا، على غرار العرب السوريّين الذين تطوّعوا للقتال إلى جانب الفلسطينيّين أو فيما بعد العراقيّين، بينما لم يملك الطرفان الحماس تجاه قضاياهم الوطنيّة!.
ثمّة منعطف فاصل في العلاقات العربيّة الكورديّة، وفي الفكر القوميّ العربيّ والكورديّ، هو حرب الخليج الثانية. فالتحالف الدوليّ المضادّ للعراق الذي ضمّ غالبيّة الدول العربيّة أثبت تغلّب المصالح “القطريّة” على الفكرة القوميّة، وتأخذ المشاركة السوريّة في التحالف بعداً رمزيّاً خاصّاً، لأنّ الحزب الحاكم في سوريا يتشارك مع الحزب الذي كان حاكماً في العراق في الشعارات القوميّة ذاتها، ويمكننا أن نعدّ حرب الخليج الثانية نهاية فعليّة للفكر القوميّ العربيّ، بعد أن عانى الكثير من الانتكاسات قبلها. على العكس من ذلك شهد الفكر القوميّ الكورديّ انتعاشاً غير مسبوق إثر حرب الخليج، خاصّة مع فرض منطقة الحظر الجويّ في كردستان العراق، ولأوّل مرة حصل الكورد على نوع من الاستقلال في إدارة شؤونهم، ما أعطى جرعة من الحماس القوميّ للجوار، وليس من المصادفة أن يزداد عدد التنظيمات الكورديّة في سوريا في الفترة ذاتها. منذ ذلك الوقت انقلبت الصورة، وفي الوقت الذي تراجعت فيه بعض النخب القوميّة العربيّة والشيوعيّة في سوريا عن أيديولوجيّاتها لصالح القضيّة الوطنيّة، وتزامن ذلك أيضاً مع خفوت أيديولوجيا الحزب الحاكم وأفول تأثيره العقائديّ، شهدنا تقدّماً في الخطاب القوميّ الكورديّ. أمّا في العراق فمن المفهوم أنّ بقاء الكيان الكورديّ الناشئ بشكله الحاليّ هو نوع من الزواج بالإكراه، لأنّ الظروف الدوليّة، وعلى رأسها الضغط التركيّ، غير مواتية حاليّاً للاستقلال التامّ، ولا يخفى على المتابع أنّ قضايا مثل التنازع على حدود الإقليم وتقاسم الثروة هي ألغام قابلة للانفجار بين حكومة الإقليم وحكومة المركز في حال زوال صمّام الأمان الدوليّ.
تجيد مقالة الأخ سربست توصيف الاشتباك بين الثقافيّ والسياسيّ، عندما تشير إلى أنّ الحديث عن العلاقات العربيّة الكورديّة ثقافيّاً يبقى “محكوماً بالاعتبارات السياسية المباشرة وممارسات السلطة المهيمنة. وكلّ حديث عن العلاقة ثقافياً إنّما يعكس شكل التعامل السياسي مع الآخر. ولا يعود مجدياً النظر إلى الثقافة على نحو مجرّد، بوصفها محض ثقافة، وقد غدت جزءاً فاعلاً ورئيساً من تركيب الخطاب القومي بأنساقه السياسية والاجتماعية وغيرها”. لكنّ المقالة تقع في مطبّ النظر بعين واحدة، إذ ترى تأثير الخطاب القوميّ العربيّ وتغفل تأثير الخطاب القوميّ الكوردي كما نرى في الاقتباس التالي: “وبالمقابل تعيّن على الكوردي إثبات الذات ثقافياً والبرهان على جدارته في علاقة ندّية وتواصلية مع الآخر، قائمة على الحوار والاعتراف المتبادل. إن إثبات الذات نقديّاً يتمّ هنا بطريقة سالبة، أي عبر دحض مقولات الآخر وتصوّراته الزائفة عن الذات الجمعية، ومن خلال نفي مفاهيمه الأيديولوجية وأقانيمه التي تطغى على قاعدة تغييب وإقصاء حقيقته الوجودية والإنسانية عموماً. إنها بمثابة قراءة لثقافة الآخر من موقع الأنا، ومن موقع إعادة إنتاج الذات ثقافياً وسياسياً بإزاء خطاب الآخر، وهي قراءة لا تنفيه أو تلغيه، وإنما بخلاف طريقته المعتادة، تؤسس لعلاقة تواصلية جدلية معه، هي في طبيعتها علاقة ندّية تقوم على المماثلة في الجدارة الإنسانية وفي الهوية، وفي الكفاءة العقلية والأخلاقية”.
قد نقبل الاقتباس الأخير في إطار التمنّي، أمّا واقع الحال فينبئ بخلاف ذلك. على سبيل المثال دلّت الدراسات التي أجريت في كردستان العراق على أنّ الكورد باتوا في شبه قطيعة ثقافيّة مع الجوار العربيّ، أي أنّ الخروج عن سيطرة المركز لم يؤسّس لعلاقة تواصليّة جدليّة معه؛ أيضاً نستطيع تفهّم ذلك في إطار ردّة الفعل فالمجازر التي حدثت في حلبجة والأنفال ما تزال ماثلة في الأذهان. في سوريا يبلغ عدد التنظيمات الكورديّة نحو عشرين تنظيماً، قلّة منها تنادي بالحوار مع الآخر العربيّ، أمّا غالبيتها فهي مكتفية بجمهورها الكوردي، ويتراوح خطاب هذه التنظيمات بين خطاب سياسيّ مائع وخطاب قوميّ متشدّد، مع التنويه بأنّ الساحة الكورديّة أكثر تسييساً من نظيرتها العربيّة. ما يُخشى منه، بعد الإسهاب في تفنيد مثالب العروبيين، أن يعيد القوميّون الكورد السيرة ذاتها. هذه الخشية لا تنطلق من فراغ، فأحد أكبر التنظيمات العابرة للحدود قام بتصفية بعض الكوادر التي انشقّت عنه. تنظيم آخر أعلن حكومة غرب كردستان في المنفى، أي كردستان سوريا، ووضع دستوراً لها مع بند ينصّ على عدم جواز تعديل الدستور إلا من خلال استفتاء يعقب الاستقلال!. ألا تذكّرنا هذه التجاوزات بتجاوزات العروبيين على شعوبهم؟ وبناء على ذلك؛ كيف تكون علاقة هؤلاء القوميين بالآخر؛ الخصم المضطهِد؟
موقع الآوان