تعزيزاً لاقتراحات غسّان تويني
سعد الله مزرعاني *
العلاقات بين اللبنانيّين كانت دائماً عنصر الخلل الأساسي في الوضع اللبناني. ويتجسّد هذا الأمر، أكثر ما يتجسّد، في النظام السياسي اللبناني: النظام ذو المرتكزات الطائفية الذي حال دون قيام دولة موحدّة ومتماسكة، لمصلحة قيام دويلات مذهبية يتفاقم أثرها السلبي (بل التدميري) يوماً بعد يوم. في مواجهة هذه الحقيقة البسيطة والخطيرة في آن، غالباً ما لجأ عتاة المستفيدين من النظام السياسي اللبناني إلى استبدال الحقائق بالأكاذيب: نفي وجود مشكلة داخلية، وإحالة مصاعب وأزمات لبنان واللبنانيين إلى الآخرين، إلى الغير، إلى الخارج…
لا يعني ذلك أن «الخارج» ليس موجوداً في أزمات «الداخل» اللبناني. لكن هذا الخارج موجود، في أحيان كثيرة، بسبب استدعائه من قبل قوى الداخل، وبسبب انكشاف الوضع الداخلي اللبناني. وهذا الوضع جعل لبنان ذا حساسيّة خاصة حيال أزمات المنطقة. فهو الأكثر تأثّراً بها، وهو الأكثر تضرّراً منها عندما تنعكس على أوضاعه الداخلية أو عندما يضرب أذاها البلدان العربية ومنها لبنان.
واليوم، يواجه لبنان أزمة مخيفة. وهي تكاد تبلغ درجة الاستعصاء لجهة تعذر بلوغ التسويات والحلول، ودرجة الحرب الأهلية لجهة مستوى الصراع وضراوة أساليبه وخطورتها. وفي مجرى هذه الأزمة الوطنية، يستمرّ فريق كبير في تكرار الأخطاء السابقة، وأخطرها المراهنة على الخارج في الحفاظ على التوازنات أو في محاولة تعديلها، وكذلك في استمرار التمسك بالنظام الطائفي إطاراً سياسياً لتنظيم علاقات اللبنانيين.
إلا أن الوضع اللبناني قد انطوى بشكل لافت على عناصر متناقضة مهمة. ومن ذلك إنجازات الشعب اللبناني في حقل التحرير والمقاومة والانتصار الباهر والتاريخي على العدو الصهيوني. وكذلك حقّق اللبنانيون نجاحات رائدة ومتواصلة في مجال التعلق بالحرية والأخذ بنصيب من الديموقراطية والحريات وتداول السلطة… إلى مساهمات أخرى طبعت أعمال روّاد من الأجيال السابقة في حقول المعرفة والثقافة والعروبة والانفتاح والإعلام.
وفي نطاق هذه الإنجازات، أو كامتداد أو تكريس أو إطلاق لها، شكّل قيام «الحركة الوطنية اللبنانية» بقيادة القائد الشهيد كمال جنبلاط محاولة ذات مغزى إصلاحي جوهري وعميق. وكان ذلك حتماً بهدف الانتقال بالوضع اللبناني، وبالنظام السياسي اللبناني، من طور إلى طور.
كذلك شكّلت مساهمات رائدة لعدد من الأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية، علامات مضيئة في مسيرة البحث عن حلول لأزمة بلد لم يجد سلامه الداخلي واستقراره السياسي والأمني بعد!
تعوزنا هذه المقدّمة راهناً لطرح إشكالية كبيرة وخطيرة ومصيريّة تواجه الوضع اللبناني اليوم. إننا في قلب أزمة وطنية تكاد تأخذ شكل حرب أهلية، سيكون من شأنها، إذا ما تمادت، أن تذهب بمقوّمات لبنان ووجوده! وهذه الأزمة هي محصّلة تناقضات داخلية خطيرة، منعقدة ومتفاعلة مع أزمات إقليمية فاقمها بدورها، إلى مستوى خطير، الاحتلال الأميركي للعراق قبل أكثر من خمس سنوات.
إنّ انتظار أن تنجلي غيوم المنطقة من أجل أن نحصل على نصيبنا من الحلول فيها، أو المراهنة على انتصار الفريق الأميركي في المواجهة الإقليمية الضارية الراهنة التي يخوضها تنفيذاً لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» أو الجديد، إنما هما رهان وانتظار قاتلان. ذلك أن الصراع سيكون طويلاً، والمواجهة ستكون مديدة، وقدرة لبنان على التحمل والصمود لن تكون مضمونة في حدودها الدنيا. وتطرح هنا، مرة جديدة، مسألة إعادة النظر في الحسابات. وهذا الأمر هو بالدرجة الأولى برسم فريق السلطة، بسبب ضخامة رهاناته الخارجية، وبسبب تمسّكه، استناداً إلى هذه الرهانات، بالتفرّد بالسلطة وبرفض التسويات التي تمتصّ جزءاً من التوتر وتمهّد الطريق أمام معالجات أوسع وأعمق وأكثر ملاءمة لمصلحة لبنان واللبنانيّين. ونستطيع اليوم بعد خيبة فريق السلطة من الموقف الأميركي، أن نطالب هذا الفريق بتبني مقاربات أخرى حيال الوضع اللبناني، تجري فيها إعادة الاعتبار للدور اللبناني ولو النسبي والمحدود.
ويصادف أنّ الأستاذ غسان التويني، وهو الذي كان صاحب نظرية وشعار أن حروب اللبنانيين إنما كانت مجرد «حروب الآخرين على أرضنا»، هو الذي يطلق الإشارات الأولى اليوم، داعياً إلى الحوار وإلى المبادرة في البحث عن الحلول. وبشكل مميّز وصريح وجريء، كتب الأستاذ التويني (في «نهار» 8 أيار / مايو الجاري): «إن الحوار السياسي كلّما غاب عن مجلس النواب نزل إلى الشارع وحل العنف محل الكلمة… نقولها ونكرّرها فقط للإثبات… ولشيء من الشماتة بالذين لم يستجيبوا إلى دعوات الحوار من الرئيس بري وسواه (ونحن نكرر ولا خجل، أننا كنا من أوائل المستجيبين… ولا نزال)». وبعد أربعة أيام استعاد التويني ذكرى العميد ريمون إده، السياسي الراحل والمميز، ليعيدنا إلى مبادرته «الذاتية»، رغم الخصومة والمنافسة، في قيام الحكومة الرباعية التي تشكلت بعد أحداث عام 1958.
الواقع أن التويني، من حيث يقرر ويستنتج، أو بسبب من شعور عالٍ بالمسؤولية، إنما يحثّ على حوار لبناني ـــ لبناني، وعلى دور لبناني مفقود في التفتيش عن حلّ لأزمات لبنان واللبنانيين.
تويني الصحافي الأعرق، والسياسي الخبير والمجرَّب، يضع الإصبع على الجرح. لقد كان نصح بذلك قبل الحوادث الأمنية التي اندلعت ردّاً على القرارين الأحمقين اللذين اتّخذهما مجلس الوزراء اللبناني في ليل 5 ــ 6 من الشهر الجاري. وهو قد أصرّ على هذا الموقف بعد اندلاع الحوادث المذكورة. ويجب القول هنا، إنّ هذه الحوادث قد عزّزت من ضرورة بلورة دور لبناني في معالجة الأزمة اللبنانية، ذلك أن الطابع المحلي (بنسبة كبيرة ولافتة)، هو الذي طغى على التطورات الأمنية الأخيرة، وخصوصاً في رد الفعل الذي نظّمه حزب الله في بيروت والجبل، بشكل خاص.
لا توجد مرحلة ملائمة لإطلاق دينامية لبنانية ـــ لبنانية جديدة أكثر من المرحلة الحالية. قد يُقال إنّ «المسدس موجَّه إلى رؤوسنا»، ولن نفاوض في ظلّ ذلك. هذا تبرير فئوي. فالجميع استخدم المسدّس الداخلي أو الخارجي لكي يهزم خصمه ويحقّق الربح لنفسه.
أما سبب الملاءمة فمصدره حجم المخاطر التي تواجه الجميع، من دون استثناء، إذا ما استمرّ الصراع والانقسام الداخليَّين، ومعهما التدخلات الخارجية الفاضحة والفادحة في الشؤون الداخلية
اللبنانية.
إنّ الأخذ بهذا المبدأ لا يعني نهاية المطاف، بل هو مجرد بداية. إنه خطوة نحو إطلاق دينامية جديدة في الأزمة اللبنانية، يجب أن يكون طابعها حضور الدور اللبناني في الحل وليس فقط في الصراع والحرب! وفي هذا السياق، وعلى أمل أن تعزز العوامل الموضوعية والقناعات السياسية لدى الفرقاء ضرورة بذل جهود من قبل الأطراف الفاعلة اللبنانية، بحثاً عن حل للأزمة بين اللبنانيين، لا بد من التأكيد على الأمور الآتية:
أولاً، ضرورة الاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة بما فيها تنظيم قواعد الصراع بما يجنب، خصوصاً، الانزلاق نحو الاقتتال الأهلي.
ثانياً، محاولة بلورة تسوية مؤقَّتة تقوم، في الجوهر، على المشاركة، أي عدم الاستئثار والتفرد في التقرير بشأن مسائل حساسة وموضع خلاف كبير بين اللبنانيين.
ثالثاً، النظر بعمق في ضرورة إصلاح النظام السياسي، وخصوصاً، ضرورة التخلص من المرتكزات الطائفية فيه (مرحلياً تطبيق الدستور اللبناني نفسه!). ويلي ذلك، بالمقابل، ضرورة تطوير مؤسّسات هذا النظام لتصبح هي مرجعية القرار، وبشكل يعتمد الديموقراطية والمساواة.
رابعاً، النظر في العلاقات اللبنانية مع الخارج، وضرورة تحريرها من الارتباطات والارتهانات الفئوية، لمصلحة علاقات جوهرها تحقيق المصالح المشتركة وفق مبادئ السيادة والتكافؤ والتكامل، أو العداء، عندما يتعلق الأمر بالعدو الصهيوني وشركائه وداعميه!
* كاتب وسياسي لبناني
عدد الجمعة ١٦ أيار ٢٠٠٨