الأزمة اللبنانية في مرحلة تفجرها الطائفي
سليمان تقي الدين
ما كان يخشاه العقلاء من اللبنانيين قد حصل. أدى التوتر السياسي الى صدامات مسلحة. ولأول مرَّة في تاريخ العلاقات بين المجموعات الطائفية والمذهبية ارتسمت خطوط تماس جديدة. من المؤكد أن الموالاة والمعارضة كل منهما تتألف من تنوع طائفي ومذهبي، لكن قيادة كل من هذين الفريقين هي ما يحسب لها الحساب. لم يؤدِ العنف الى تغيير في المعطيات الجغرافية والديمغرافية، لكن الانقسام النفسي بلغ حدّه الأقصى وصارت الأرض تربة صالحة للمواجهات اللاحقة. المجتمع اللبناني الآن هو في حال التفكك غير المعلن. تتراجع الضوابط السياسية لصالح منطق الدفاع الغريزي. الخوف والقلق يسيطران في جميع الأوساط. لقد صارت الحرب الأهلية جاهزة للانطلاق ما لم تحصل التسوية السياسية والمصالحة بين القوى المتنازعة.
لبنان مجتمع تستحيل إدارته بالقوة سواء بالغلبة السياسية أو بالعنف المادي. الصدامات المسلحة شملت جميع المحافظات. لا يزال لبنان يحتفظ بحد أدنى من التنوع الطائفي والمذهبي في جميع جهاته. وكل محاولة الى تركيز سلطة طائفية أو مذهبية في دائرة جغرافية واسعة نسبياً تؤدي الى جراحة مؤلمة وخطيرة. ما حصل حتى الآن لا يعدو كونه مرحلة تجريبية، لكنها مرحلة أسست لتداعيات يصعب السيطرة عليها. لم يستطع فريق الموالاة أن يستخدم السلطة الشرعية ومؤسساتها لحكم البلاد منفرداً، ولن يستطيع فريق المعارضة أن يحكم البلاد وأن يفرض قبضته عليها بالقوة. الدولة والمجتمع الآن هما في حالة تفكك. وكل محاولة لتعديل توازنات القوى تؤدي الى مزيد من الانهيار والى مزيد من المآسي. لبنان سائر الى الضياع، وإذا انفرط هذه النموذج اللبناني فستكون له مضاعفات على كل المنطقة. ما يحتاجه لبنان الآن من إخوانه العرب هو وعي طبيعة هذه التركيبة المعقدة والتعامل معها وفقاً لقواعدها، والإدراك الأهم أن انفجار الأزمة اللبنانية في سياقات العنف الطائفي سترتد عليهم وبالاً.
إن التسوية السياسية المتوازنة في لبنان ليست ممكنة فقط بل هي حتمية وهي الوسيلة الوحيدة لاستعادة مؤسسات الدولة وتحرير المجتمع من تصاعد الانقسامات والتعصب والتماسك الطائفي. وعلى عكس ذلك في غياب الحل السياسي تتزايد سلطة قوى التطرف وتتجذر في بيئاتها الطائفية ما يؤدي الى تهديد السلم الأهلي وتهديد وحدة الدولة والمجتمع.
من حسن الحظ أن لا أحد في لبنان يطرح الآن أي صيغة تتجاوز اتفاق الطائف والدستور. لكن الأمور لا تبقى على هذا الحال إذا ما طال أمد الأزمة واتسعت الصراعات وتجذرت وحصل ما يؤدي الى تبديل جوهري في توازنات القوى. ومن بداهة الأمور أن تؤمن التسوية مشاركة جميع الفئات لكي يمكن بحث المشكلات الكبرى والخلافات السياسية الأساسية بما في ذلك سلاح المقاومة والسياسة الدفاعية للبنان. لكن حل هذه القضايا لا يمكن أن يتم كما هو حاصل الآن في الشارع وفي غياب سلطة الدولة وغياب مؤسساتها التي هي في فلسفة التجربة اللبنانية هيئات حوار دائمة.
لقد ظهرت خلال هذا الأسبوع من الحوادث الأمنية المتنقلة الى واجهة المسرح وصدارته قوى التطرف والتعصب وأعلنت استعدادها للخوض في هذا الصراع على قواعد تكفيرية وعلى أسس مذهبية. ويجب ألا نستهين أبداً في قدرة هذه المجموعات والجماعات داخل كل الفئات الطائفية على التجييش والتحشيد وعلى افتعال الصدامات وتأجيج الخلافات. إن هذه القوى تعمل على رأسمال تاريخي رمزي وهي بذلك قادرة على إيقاظ كل عناصر الفتنة ومقوماتها. وإذا أفلت حبل السلم الأهلي، وإذا أفلتت عناصر الكراهية والحقد والبغضاء وتعززت المواجهة السياسية بالدم عبثاً نبحث عن وسائل سريعة للإنقاذ، ويستحيل في صراعات كهذه أن ينتصر أي فريق بالمعنى الاستراتيجي، بل سيدمر المجتمع اللبناني وسيبث عدواه في أربع رياح العالم العربي وسيكون ذلك حصاداً صافياً في خدمة “إسرائيل”.
ما يتطلع إليه اللبنانيون الآن في غالبيتهم الواقفة خارج معسكرات التطرف والنزاعات العنفية هو أن يبادر الأخوة العرب الى التعامل مع الأزمة اللبنانية وفق معطياتها الموضوعية وليس وفق تصورات مسبقة، ولا طبعاً وفق بعض المصالح الآنية وخطوط الانقسامات الحالية. إن إنقاذ لبنان هو حاجة عربية أكيدة واسعة وشاملة، ففي استعادة لبنان سلمه الأهلي ومؤسساته يمكن لأي صراع سياسي سلمي أن يكون مقبولاً وربما مفيداً. لكن من نافل القول إنه من غير الصحيح أن نضيف إلى النزاعات اللبنانية أثقال وأعباء النزاعات العربية كذلك.