قراءة في الظاهرة الجنبلاطية: الــصـــدمــة والــخـــديــعــة
علي حرب
لا جدال في أن رئيس الحزب التقدمي النائب وليد جنبلاط يشكّل حالة استثنائية وظاهرة فريدة بين الساسة في لبنان. إنه حقاً وحيد بين أقرانه لا يشبه أحداً منهم ولا يشبهه أحد في تفرّده وتقلباته المفاجئة والصادمة بين المواقف والمواقع. هكذا، فهو لا يستقر في تحالف ولا يثبت على موقف لفترة طويلة. الاحرى القول ان الثابت الوحيد في تفكيره، ايمانه بأنه لا شيء يثبت على حال. ولعل هذه القاعدة تتيح له أن يثبت على ساحته، في مواجهة المتغيرات، كما تتيح له أن يقيم مع ثوابته علاقة حيّة ومتجددة، فاعلة وراهنة. فهو هنا على الضد من حلفائه وخصومه الذين يدّعون الثبات على المبدأ والموقف. الحصيلة إما أن تهمشّهم الاحداث او تتجاوزهم التطورات، وإما أن يلجأوا الى العنف للدفاع عن المواقع والثوابت في مواجهة المتغيرات؛ هذا فضلاً عن الذين يلعبون تحت الطاولة لكي يغيّروا ويبدلوا، فيما هم ينكرون ذلك. وقد شكلت مواقف جنبلاط الاخيرة الحدث الابرز، ولا تزال، بما تستدعيه من المناقشات والتعليقات والتأويلات. فما الذي أراده الرجل من وراء القنبلة التي فجّرها لقلب الطاولة في وجه الجميع؟ وما المردود الذي يفكّر في الحصول عليه؟ وكيف نفهم موقفه في ما يتعدى المقاصد والمظاهر؟ هنا قراءة في التجربة – الظاهرة التي يمثلها جنبلاط، والتي هي في وجهها الآخر قراءة في الوضع اللبناني.
اذا اراد الواحد أن يتجاوز الأطروحات الايديولوجية والمصالح الطائفية، وحتى التحالفات السياسية، يسعه القول إن ما أراده جنبلاط من وراء انقلابه هو الحدث نفسه. ولا غرابة، فالرجل اعتاد أن يصنع الحدث أو أن يكون محوره، بالعمل على تحريك الاوضاع وخلط الاوراق. وهذا شأن السياسي الذي يتقن اللعبة، إذا شاء أن يظل لاعباً فاعلاً وسط المشهد، او صاحب الدور الابرز، بحيث يُحسب له دوماً الحساب ولا يتم تجاوزه في حلبة الصراع على المواقع والمناصب والمكاسب.
الإرث الجنبلاطي
هذا إرث يرثه جنبلاط عن والده، له أساسه في ذاكرة الطائفة الدرزية التي حكم امراؤها لبنان في حقبة من حقبه. مثل هذه الذاكرة هي التي حملت كمال جنبلاط، ذات مرة، بعد تعيينه وزيراً للداخلية، على القول أنا الحاكم الاداري للبنان. مثل هذا القول لا يصدر عن سياسي عادي، بل عن شخص استثنائي يتعاطى مع نفسه ودوره، بوصفه زعيماً، بل بوصفه من كان ينبغي أن يكون رئيساً للدولة، وهذا ما لا تتيحه له قوانين الديموغرافيا وقواعد المحاصصة. ولذا عندما يُسأل وليد جنبلاط، أو يُتهم بالطائفية، يجيب بسرعة، كيف لا اكون كذلك، وانا لا يحق لي الترشح لواحدة من الرئاسات الثلاث؟ لعل هذا ما يفسر لنا الحساسية الفائقة التي تتعامل بها السياسة الجنبلاطية مع بقية الزعامات السياسية الاسلامية والمسيحية، وخصوصاً المارونية. وتلك واحدة من اشكاليات الزعامة الجنبلاطية التي تصنع لها مفارقاتها وفرادتها.
الازدواجية
لكن وليد جنبلاط تفوّق على والده في اتقان اللعبة وممارسة الدور، بجرأته ومواهبه وطرافته وقدرته على اطلاق المبادرات وانتاج المواقف التي تفضي الى تغيير الاتجاه من النقيض الى النقيض، لكي يفاجئ حلفاءه وخصومه على السواء، بما يسرّ أو يُغضب، أو يربك ويُحيّر.
هذه مزايا الرجل التي يفتقر اليها معظم أقرانه، في ما يخص قدرته على اجتراح المواقف وايجاد المخارج، سواء بالالتفاف وحسن التخلص، او بالشطح والمبالغة، او بالتصعيد والهجوم، او بالدعوة الى المصالحة والتهدئة، وخصوصاً بالاعتراف بالخطأ والاعتذار بصورة علنية مشهودة. كأن يجيب عند اتهامه بأنه اخذ سلاحاً من اسرائيل إبان حرب الجبل، بأنه كان مضطراً لذلك لأن قومه كانوا معرضين للفناء؛ او إقراره بأنه تلقّى اموالاً غير مشروعة عندما كان محشوراً على الصعيد المالي، أو اعترافه بأنه يحمل المسؤولية مع انداده عن مآسي الحرب وويلاتها.
هذا شأنه في المواقف الحرجة والردّ على الاسئلة المربكة، كمسارعته الى قمع الفتنة بعد حادثة قتل الزيادين ومثيلاتها من الحوادث، او جوابه على من ما فاجأه بأن سوريا هي التي كانت وراء اغتيال والده، بوضعه اللوم على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. حتى في زمن الهيمنة والوصاية، كان جنبلاط ينفرد عن بقية الزعماء والقادة، في تعامله مع الادارة السورية، وهذا شأنه الآن بعد عودته الى سوريا، لا يريد لها أن تكون عادية، بل يريد أن يُخرجها بصورةٍ مختلفة تحمل بصمته او تنمّ عن فرادته.
صحيح أن جنبلاط ليس ماهراً في الكلام ولا يُتقن فن المناظرة والجدال كالوزير غازي العريضي، لكنه يُحسن القراءة ويملك الرؤية والحسّ النقدي. من هنا فإنه عندما سئل عن اسباب انتقاده البطريرك الماروني، قبل المصالحة، قال: أنا لا انتقده لأنه يعظ في الكنيسة بل لأنه يتدخّل في السياسة. مبنى هذا القول أن مَن هذا شأنه من رجال الدين يفقد حصانته الرمزية ويصبح محط المساءلة والنقد. ولا ننسى قوله في شطحة من شطحاته: الافضل لي ان أكون زبالاً في نيويورك من أن أكون زعيماً في زواريب بيروت. مثل هذه الشطحة لا تصدر الا عن سياسي له وجهه الثقافي.
واذا كان جنبلاط يصعّد المواقف الى الحد الاقصى، فإنه يحسن التراجع والاعتذار على نحو يفوق المتوقَّع، كما فعل قبل عقدين بعد انتهاء الصدام الدموي بين “الحركة الوطنية” وحركة “امل”، حيث وقف يعتذر وسط جمهور شيعيّ حاشد؛ او كما فعل حديثاً الى جانب خصمه اللدود، رئيس حزب التوحيد اللبناني وئام وهاب، على نحو بدت معه الصورة معكوسة، أعني ان علاقته بوهاب كانت من جانبه اشبه بعلاقة وكيل بأصيل او سياسي صاعد مع زعيم راسخ. كان حقاً كمن يقدّم اوراق اعتماده. هذه هي شخصيته بازدواجيتها والتباساتها وتناقضاتها.
مَن يخدع مَن؟
لا يعني ذلك أن نؤخذ بما يصرّح به جنبلاط، حتى لا ننخدع بالمظاهر. فالسياسي البارع هو الذي يُخفي طبيعته ولا يظهر على حقيقته بمكره ودهائه، كما قال ماكيافيللي، وكما سبقه الى ذلك معاوية الذي عندما سأله ابنه يزيد: مَن يخدع مَن؟ الناس الذين يبايعونك أم أنت الذي تشتري بيعتهم بالمال، أجابه بالقول: مَن حاول خداعك فانخدعت له قد خدعته.
فأين جنبلاط من ذلك وما هو رهانه في الانتقال من موقع الى موقع؟ هل كان يُخفي حقيقته في تحالفاته وارتباطاته؟ هل هو يتظاهر بالضعف والانخداع عندما يتراجع ويعتذر ام يعترف بالخطأ؟ هل يغيّر خياراته لاقتناعه بتغيير الوجهة أم لأنه مضطر للتسوية والمصالحة في انتظار تغيير الظروف والموازين؟ هل هو يخرج الآن من قوقعة “الاعتزال” كما يسمّيه، أم يقع في فخ عروبة يريد العودة اليها بعدما انتهكها ونشر غسيلها، كالعائد الى زوجته بعد طلاقها بالثلاث؟ واذا كانت السياسة فن الخداع ونصب الافخاخ، فمَن يخدع مَن؟ أو مَن الذي يقع في الفخ؟ باختصار: هل ينجح جنبلاط في خياره الجديد أم سوف يترحّم على الخيار القديم؟
هذه الاسئلة المفتوحة على الاحتمالات تعيدنا الى مواقف جنبلاط وسياسته بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فهو كان المحرك والمحرض والمبادر الى الهجوم والتصعيد الذي يخرج على الحدِّ. وقد ساهم طوال سنوات اربع في لعب الدور الفاعل، وربما الاول، في التكتل الذي اطلق على نفسه اسم 14 آذار. لكن لا شيء يبقى على ما هو عليه. فالافكار والمواقف تُستهلَك. هذا في الاحوال العادية والازمنة البطيئة، فكيف اذا كانت التغيرات متسارعة والانقلابات مفاجئة والاخفاقات صادمة. عندها، تصبح الشعارات خاوية، بل تمسي محل انتهاك، ولا يعود ثمة مفرّ من التغيير.
لعلّ هذا ما ادركه جنبلاط في الآونة الاخيرة، أعني ان الادوار تُستنفَد والشعارات تتأكل، وأن دوره يُهمَّش او يُحجَّم في حمّى الصراع على المقاعد الحكومية، مما يحوله الى مجرد رقم صغير بين الارقام الكبيرة، وهذا ما حمله على مراجعة الحسابات واعادة ترتيب الاولويات.
اليسار وديناصوراته
بالطبع لا بدّ من مبررات تسوّغ تغيير الوجهة، تتعلّق بالشعار والمبدأ او بالمصلحة العامة أو الخاصة، وإلا كان الامر محض اعتباط او استبداد. هنا ايضاً ثمة ماركة جنبلاطية قوامها التوسّل الايديولوجي بالشعارات الكبيرة والأممية لردم الهوّة بين الدور السياسي الكبير والحجم الطائفي الصغير.
هناك، من جهة اولى، الشعارات المتعلقة باليسار وفلسطين والعروبة. ولكن لا اعتقد أن مثل هذه المسوّغات تقنع وليد جنبلاط، الرجل الذكي والذي يحسن القراءة كما يُعرَف عنه، إذ هي لا تُقنع الا من أسدل الستار على عقله، بل هي لا تقنع قاعدته الشعبية بالذات.
وأنا هنا لا أريد أن أشكك في صدقية الرجل، ولكن لم يعد ممكناً بعد كل هذه المساوئ والكوارث، أن ننخدع بما يُقال ويُعلن، كأن يدّعي الواحد أنه وطني او سياسي في تفكيره وعمله، فيما هو يتمترس وراء طائفته، او يعمل في تجمّع طائفي قلباً وقالَباً. لقد فقدت المفردات معانيها ولم تعد تشير الى مسمّياتها المنتهكة على ارض الواقع. هذا شأن اليسار الذي اصبح بمثابة مقولاته الخاوية وديناصوراته الملحقة بركاب الزعامات التي عمل أهله طويلاً على التحرّر منها. وها نحن نقرأ كلاماً طازجاً لمثقف يساري يشهد على نفسه بنفسه، إذ هو يعترف بأنه بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، أدرك أن لا امل لليسار. مبنى قوله أن اليسار يحيا ويزدهر في ظلّ سلطة او مقاومة او محور، أي بالالتحاق بما يفقده مبرّر وجوده وقيامه. هذا إذا كان بعد ثمّة معنى، اليوم، لثنائية اليسار واليمين، فيما تنشأ تكتّلات وأطر وصيغ مركّبة تجمع على نحو حيّ وخلاّق بين عناصر الواقع وقواه وفاعلياته، وهذا معنىً من معاني الوسطية التي يتبنّاها الآن وليد جنبلاط والتي هاجمها مَن لا يفقه معناها: القدرة على التأليف والتركيب.
أيّ عروبة؟
أما فلسطين فهي اليوم عدوّان لدودان وخطّان لا يلتقيان. ولا أعتقد أن دعم الجهات التي تمارس الوصاية على القضية الفلسطينية، قد أفاد وأثمر، بل أجّج الخلاف وعمّق الشرخ حتى الانقسام والانشقاق والعداوة المستحكمة.
وأما العروبة، فلا أحد يتباهى على لبنان في ذلك. إذ اللبنانيون، منذ عصر النهضة، والمسيحيون منهم بشكل خاص، لهم فضل على العروبة الحضارية والبنّاءة، في اللغة والثقافة والفن، اكثر من العرب والمسلمين من اصحاب المشاريع الايديولوجية الفاشلة او المدمرة. ولو اجرى الواحد فحصاً، لاكتشف ان لبنان، هو من بين الأُول في العروبة، وربما الاول، في غير مجال، بما في ذلك مجال المقاومة، إذا شاء المرء ان لا يبخس حق الذين صدّقوا واستشهدوا.
هناك من جهة ثانية، المصلحة الطائفية للدروز. ولكن هذه لا تتحقق بإنشاء حلف بين المسلمين، سنة وشيعة ودروزاً، سوف يُجبه بحلف مسيحي، على نحو يذكّرنا ببدايات الحرب الاهلية. فمصلحة الشرائح الواسعة، من الدروز، كما في بقية الطوائف، أن يتشكل فريق وطني يملك من التجربة والمعرفة والدراية والصدقية، على نحوٍ يؤهّله لصوغ خطط وبرامج للاصلاح الاداري والسياسي، كما للتنمية الاقتصادية والبشرية، فضلاً عن الاهتمام بحماية البيئة لوضع حد لأعمال التلوث والتصحر. ولا يتحقق ذلك الا بكسر اللبنانيين لقواقعهم المذهبية الخانقة والخروج على زعاماتهم التقليدية المتواطئة. هذا ما يستفاد من المحاولة الاصلاحية والانمائية التي جرت في العهد الشهابي، والتي كانت ثمرة الارادة الاصلاحية للرئيس فؤاد شهاب ولعقلانية الفرنسي الأب لوبريه. من المفارقات أن هذه المحاولة قد تم القضاء عليها من جانب عقلية المحاصصة واكلة الجبنة، بدلاً من العمل على تحسينها وتطويرها في ضوء التطوّرات التي طرأت على أساليب الادارة والحكم.
إن محاولات التقوقع والتمترس والتخندق، لا تشكّل حماية ولا تثمر أمناً، وإنما هي مجرد هدنة بين فتنتين او حربين، بل هي تحوّل لبنان الى محميات عنصرية كما تحوّل مدنه الى ثكن عسكرية لا امان فيها ولا اطمئنان.
هناك أخيراً السياسة. واذا شئنا أن لا نأخذ بالاشياء كما تعلن نفسها، فإن وليد جنبلاط لا يعمل في السياسة بمنطق المنظّر العقائدي او المناضل التحرري او العمل الخيري، وإنما هو يمارس السياسة كلاعب يجترح القدرة على خلط الاوراق وخربطة الحدود، والا كان محدود التفكير وضيق الافق. وهذا مصدر قوته كزعيم لطائفة كانت مسيطرة ثم باتت اقلية بين بقية الطوائف: أن لا يفقد القدرة على اللعب.
هدر الفرصة
واذا كان جنبلاط يشعر الآن بأنه فقد الاوراق التي يلعب بها او بأنه بات محشوراً في مأزقه او يخشى على مستقبله، فلا يعني ذلك أن العودة الى الوراء ممكنة من دون أثمانها الباهظة. لم تعد تجدي لعبة الاتكاء او التوسّل باليسار والعروبة والمقاومة. قد ينقلنا ذلك من مأزق الى مأزق كما تشهد التجارب يمنةً ويسرة. لذا، فالخروج من النفق يعيدنا الى اساس المشكلة، اي الى معنى الحدث الذي كان وراء قيام التكتّل الذي تشكّل بعد اغتيال الرئيس الحريري، والذي جعل المستحيل ممكناً، كما تداعت مفاعيله، سواء بخروج سوريا العسكري من لبنان، أو بقيام المحكمة الدولية. ومن مفاعيله الايجابية والوطنية التي يتناساها جنبلاط وبقية الزعماء، ذلك الحشد الهائل الذي اجتمع في 14 آذار وكان محطّ نظر العرب والعالم. يومها احتشد اكثر من مليون شخص، من غير تخطيط او برمجة، إذ نزل الى الساحة العمومية اناس من كل المشارب والمذاهب والاعمار، من الذين عناهم اغتيال الحريري، بمن فيهم خصومه، وفي الاخص فئات الشباب والشابات. لقد عبّر ذلك التجمّع الهائل عن حيوية فائقة شكّلت لحظة وطنية خارقة، ممّا جعل سمير فرنجية، أحد قادة الرابع عشر من آذار، يعترف بأن الذين اجتمعوا يومئذٍ من الاجيال الجديدة كانوا اكثر وعياً ونضجاً بموقفهم الوطني وتفكيرهم المدني من القادة والزعماء، مما يعني أن الخشية على الاجيال الجديدة التي هي المستقبل، مصدرها نحن جيل الآباء الذين لم ننجح في بناء الدول والاوطان. نحن نهدر الفرص الثمينة بقدر ما نتعامل مع المشكلة بوصفها الحل، وبالعكس.
آفة الصيغة
معنى المعنى، أن تلك الحركة كانت تحتاج، لكي تتحول الى ديناميكية وطنية مدنية، عابرة للطوائف والمذاهب، الى عقل جديد يهتم بابتكار مفاهيمها وأطرها وتشريعاتها، من اجل اعادة بناء الصيغة التي كانت ميزة لبنان، ثم استُهلكت وأمست آفةً لا تنتج سوى العقم السياسي والحروب الاهلية. ولكنّ ذلك لم يحصل، ليس فقط بسبب الهجوم المضاد ومسلسل القتل، بل ايضاً لأن اكثر القادة يفكّرون بعقل طائفي. وما كان مستبعداً من تفكيرهم هو البعد الوطني بالذات.
في كل حال، ما اقدم عليه جنبلاط أخيرً لا يعني كسباً للمعارضة، كما يتوهم بعضها؛ بالعكس إنه درسٌ يُستخلص يجدر بالمعارضة أن تقرأه، مفاده أن لا مفرّ من التغيير في مواجهة المتغيرات. وأما استخدام القوة بين الشركاء في الوطن، فإنه يلغّم الوحدة ويدمّر الشراكة، بقدر ما يحوّل التجمعات الطائفية الى قوى معرقلة او معطلة لعجلة الادارة وعمل الدولة.
وهذه اشكالية اخرى عند مَن يدعو الى الشراكة ويعمل بمنطق الضد والاقصاء او الانفراد والاحتكار. فالاضداد التي نتصارع معها على السلطة والغنيمة تصنعنا كما نساهم نحن في صنعها. وهذه حال من ينخرط في علاقة مع الآخر أكانت شراكة ام صداقة ام عداوة، مما يعني أن الكلّ مسؤولون بل متواطئون عن انتاج الوضع المتأكل بمأزقه وفخاخه وانسداداته، تماماً كما أن اجتراح الحلول والخروج من النفق، مسؤولية متبادلة ينهض بها ويشترك فيها الجميع.
من فضائل جنبلاط في هذا الخصوص أن يحمل المسؤولية ولا يرميها على الغير، باعتذاره وتراجعه. والسياسي الذي يكون كذلك، في عالم تزداد فيه المساوئ والأخطار، هو اقل كلفةً وخطراً على البلاد والعباد، من السياسي الذي يحسب نفسه لا يُخطئ، او الذي يُخطئ الحساب ولا يقدّم الاعتذار، او الذي يُصرّ على خطئه ويكيل التهم لسواه.
في المقابل، لا يعدّ موقف جنبلاط خسارة للموالاة، وإنما هو فرصة لإعادة بناء المواقف، عبر اعادة النظر في مفهوم السياسة وممارستها. فالسياسي هو القادر على عقد التحالفات كما هو قادر على فرطها، تماماً كما هو قادر على نصب الفخاخ والمكامن؛ والسياسة هي القدرة الدائمة على خلق الامكانات وفتح الابواب لابتكار الجديد والفعال والبناء من الاساليب والوسائل او الاطر والمناهج.
هذه اشكالية ثالثة عند مَن يحسن قراءة المجريات: فالاحداث التي ندّعي صنعها إنما تفلت من سيطرتنا وتستنفد قدراتنا، ممّا يعني العمل الدائم على تجديد الرؤية او تغيير الاستراتيجيا او تفعيل الوسيلة.
أياً يكن، فما احدثه وليد جنبلاط يشكل درساً امام اللبناني لكي يعيد التفكير ويمارس علاقته بخصوصيته، أكانت طائفية ام سياسية، بمفردات الانفتاح والمرونة والمداولة والتوسط والتجدد. وذلك يقتضي العمل بمنطق التركيب والتجاوز لاعادة البناء، على نحو تتسع معه المساحات المشتركة وتتضاعف امكنة التبادل الرمزي والتفاعل الفكري في المجال العمومي والفضاء الوطني، بحيث لا تتغلب مصلحة طائفة او حزب او تيار او زعيم او محور ممانع او مانع على المصلحة الوطنية، وذلك هو معنى من معاني الشعار: لبنان هو اولاً.
الاستحقاق اللبناني
فلبنان ليس نقيض العروبة، كما يهوّلون، ولم يكن يوماً كذلك، وإنما هو حاجة للعرب وغنىً لهم، بقدر ما يتفاعل مع محيطه العربي ويندرج في زمنه العالمي وافقه الكوكبي، على سبيل الاثراء المتبادل، لكي يشارك ابناؤه في صناعة الحضارة القائمة بلغة المغامرة الخلاّقة والمبادرة الفذّة. في هذا المعنى، لبنان هو استحقاق عربي وعالمي في الدرجة الاولى، بوصفه منبراً للحرية ومختبراً للتجارب ونموذجاً للتعايش وفضاء للتعدد، إلا إذا أُريد له ان يبقى وحده “الساحة” ورأس الحربة في الصراعات الاقليمية والعالمية الدائرة، وعلى نحوٍ يحوّله الى مسرحٍ للموت والدمار. هذا ما يريده الذين يعتبرون هذا البلد مجرّد “تفصيل” في المشاريع الكبيرة الدينية او القومية. من هنا السؤال: هل الرهان على قيام لبنان دولة ووطناً هو رهان خاسر؟
ختاماً، اعرف أن من يكتب على الورق ليس كمَن يعمل على الارض ويشعر بأنه مهدّد او محشور بين فكّي الكماشة. كما لا اجهل أن الوضع اللبناني هو في غاية التعقيد بعدما ازدادت العُقَد الوطنية والعربية والاقليمية، وبعدما تشابكت المصالح والتدخلات كما لم تكن في أيّ يوم مضى، مما يجعل القرار الداخلي مرهوناً دوماً بالتسويات الخارجية. لكن ذلك كله لا يعني العودة الى التمسّك بعُدّة فكرية اعتراها الصدأ، او الى الاشتغال بأوراق قد احترقت منذ زمن. الممكن لتفكيك آليات العجز والتحرك من القيود والضغوط، هو فتح افق جديد للعمل والتغيير. لكن التغيير من دون تحويل خلاّق في العناوين والعُدّة او في الوجهة والطريقة، قد يقود الى الأسوأ. فإلى أين نسير؟ ¶
النهار