المصالح الحيوية للبنانيين: احترام الدستور والحقيقة والفلسطينيين وعـقـلـنـة العـلاقــة مــع سوريا
فادي العبدالله
تحفل الأيام المقبلة بمحاذير كثيرة وتطورات جمة، فمن توجهات أوباما في الحكم والسلم إلى ذيول الانتخابات الرئاسية الإيرانية واقتراب الملف النووي الإيراني من الانفجار ودنوّ المسار السلمي من العجز وتوجه الفلسطينيين إلى الانشطار وسعي الإسرائيليين إلى التفلت من الضغوط للاستمرار في قضم الأراضي. في هذه الأثناء، وعلى وقع النار الهادئة للطبخة الحكومية، تتبدى حاجة مضاعفة لمناقشة عدد من الافكار السارية والتساؤلات المستبطنة تهديدات في شأن الدستور والتوطين والمحكمة ذات الطابع الدولي، ولا يكاد ينفصل موضوع من هذه المواضيع عن مسألة العلاقة مع الدولة السورية بما يحكمها من مخلّفات الماضي ومخاوفه وحذر الحاضر وطموحات الغد.
من الأفكار السارية، من دون أن تجد اعتراضاً متماسكاً عليها، مسألة الديموقراطية التوافقية والخصوصية اللبنانية، ومنها ايضاً قضايا ربط اقامة الفلسطينيين في المخيمات بمسألة رفض التوطين، محرومين من كل الحقوق، ومنها أخيراً ما يقول به البعض من تفويض للمحكمة الخاصة بلبنان لكتابة هذا الفصل من تاريخ البلد باسم الحقيقة فيما يدعو آخرون إلى الاكتفاء بذلك لأن طلب العدالة يعني الفتنة أو قد يفتح بابها. أخيراً، قضية احترام المصالح الحيوية لسوريا في لبنان، والتي يثيرها العديد من اللبنانيين، على رغم تأكيد الناطقين باسم النظام في دمشق اطمئنانهم الى كل ما يتفق عليه اللبنانيون، باعتبار أن الجميع، طال المدى ام قصر، يظلون أصدقاءهم. لكلٍّ من هذه الأفكار المنتشرة محاذيره، إلا ان رؤيتها مشتبكةً ومجتمعةً، ربما تبعث، إلى جانب دوار الرهبة، على حسن تقدير الأخطار على لبنان دولة وكيانا وشعباً.
لا يدّعي هذا المقال بالطبع انشاء بنية نظرية متماسكة تدقق في كلّ من هذه الافكار السارية، منفردةً ومجتمعة. غير انه ينهض بزعم محاولة التنبيه إلى خطورة قبولها او الصمت في ازائها، مذكّراً ببعض جوانب الرد عليها وداعياً إلى استكمال بنائه.
رفض تحريف الدستور
ينبغي التذكير مراراً ومريراً بمغزى الدستور: ليس الدستور ورقاً وحبراً، ولا افكاراً من بنات وحي المشترع. الدستور هو ما تنتهي حرب أهلية، باردة او ساخنة، اليه، فيتم تكليف مؤسسات وآليات محددة ومضبوطة مهمة اخراج البلد من لظى الحرب وصهر جماعاته شعباً وأمة. لذا فإن تعديل الدستور، ما لم يكن مطلباً شعبياً عارماً، قد يكشف أن حرباً قد وقعت أو هي آيلة إلى الفتك بالبلد. الدستور ليس فقط القانون الأعلى ومعيار توزع الصلاحيات، بل هو ايضاً معيار تقييدها وضبط القوى المختلفة عن تجريب قوتها في جسد الأعزلين. ولا تقل خطورة عن محاولة فرض تعديل الدستور عنوة، محاولة البعض تعديله بالتحريف والتمحك في التأويل إلى حد اخراجه عن كل منطق. شهد لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري محاولات عديدة من هذا القبيل، تم اخراجها من مخيلة البعض في محاولة لانتزاع صلاحيات أو استعادة أخرى أو تعديل المحاصصة أو تعطيل الحكم. ولا يزال اغراء مثل هذه المحاولات يلوّح ويوسوس للبعض، بخاصة فكرة أن لبنان لا يقوم إلا بحكومات وحدة وطنية، للمعارضة فيها دوماً ثلث الحقائب، أو فكرة أن لرئيس الجمهورية الاّ يوافق على حكومة ليس له فيها الوزن الأول، بل وبحسب البعض الثلث، فكأن سحب صلاحية اقالة الحكومة، في اتفاق الطائف، لم يكن إلا لغواً، ينبغي الالتفاف عليه.
غير أن الدستور لم يقل بالمشاركة ولا بحكومات الوحدة الوطنية، وإن جازت هذه فهي ليست فرضاً. كما ان الدستور حين تناول ميثاق العيش المشترك في مقدمته لم يحدد بأنه إنما يعني رضا المعارضة بحصتها. ولم يشرّع المشترع الدستوري موقعاً مميزاً او خاصاً للمعارضة في لبنان، فلم ينشئ منصب زعيم للمعارضة ويمنحه صلاحيات محددة على ما هي الحال في بعض البلدان، ولم يشترط نسباً معينة للمشاركة، ولم يعتبر أصلاً أن المعارضة لن تكون معارضتين أو أكثر من الجبهات، فضلاً عن الوسطيين المتكاثرين، فإلى كم ثلث ينبغي حينها تقسيم الحكومة: ثلث للرئيس، ومثله لكل معارضة، ونصف تقريباً للتحالف الحائز الغالبية، فضلاً عن تمثيل نسبي للخاسرين في الانتخابات التشريعية وللمستقلين والوسطيين!؟
سوريالية هذا الفهم للدستور وللمشاركة، تنبع بالطبع من الطمع وسوء النيات، إلا أنها تمر عبر قنوات طائفية، كما هي حال كل شيء في لبنان الفريد. فهذا النظام المقترح، تحت اسم “الديموقراطية التوافقية” المزعومة – أي بوصف آخر، الابتزاز المتواصل واللاديموقراطية – إنما تعني اشتراك كل طائفة تحسب نفسها كبيرة (في بلد من الصغر بحيث أن طائرة تخترقه من اقصاه إلى أقصاه في خمس دقائق) في حق اسقاط الحكم أو اقامته. لقد بدا أن مجلس النواب فائض عن الحاجة، فتم اختزاله إلى “طاولة حوار” تقوم بمهمة جمع “ممثلي الامة” الفعليين، كما تمت محاصرة الرئاسة بالتوافق عليها بدل المطالبة بالانتخاب الشعبي المباشر، ولم يبق من معاقل النظام الديموقراطي الذي يعني حكم الغالبية في ظل ضوابط قانونية ومعايير حقوقية واضحة، والحكم المختزل في حكومة سوى هذه الأخيرة التي ينبغي الآن مواصلة تفكيكها من الداخل. وقد بدا من اقامة اللبنانيين المتواصلة على حافة الحرب الاهلية، ووقوعها احياناً في هاويتها منذ 2005، أن هذه الاقتراحات لا تعني سوى الانقضاض على اتفاق انهاء الحرب الاهلية، الذي بات جزءاً لا يتجزأ من الدستور.
إن رفض تحريف الدستور يكون اليوم برفض فكرة الديموقراطية التوافقية (التوافق بين أي اطراف ومن اختارهم؟)، وبرفض طاولات الحوار التي تختزل المؤسسات الدستورية وتحل بديلاً منها، وبرفض فكرة الأثلاث جميعاً كما برفض اعادة صلاحيات الرئاسة التي اتفق على منحها الى مجلس الوزراء “مجتمعاً”.
أما تطوير الدستور لارساء دولة أرسخ واعدل فيتم أولاً باحترامه وعدم التذاكي عليه، وثانياً بالبناء عليه وتنفيذه، أي الذهاب في اتجاه انشاء مجلس الشيوخ والغاء الطائفية السياسية على خطى تدريجية ليست المشاريع المفصلة فيها ما ينقصنا، ولاحقاً بتعديله لإدخال خطوات أكثر عدالة وتقدمية عليه، كالنصوص على حصص محفوظة للنساء في الدولة لفترة موقتة والانتخاب المباشر لرئاسة الجمهورية، وكذلك لإنشاء آليات لمراقبة ما ينص عليه من احترام لحقوق الإنسان ومن مساواة بين كل البشر، على اختلاف جنسهم أو لونهم.
احترام حقوق الفلسطينيين
في الأسابيع الاخيرة تمت اعادة احياء “فزاعة” التوطين، في ظل دعوة اوباما العرب إلى المبادرة والواقعية، والإسرائيليين إلى السلام، وفي ظل بحث الأسلحة عن مبررات لها وبحث حلفاء أصحابها عن استنفار طائفي يعيد اليهم بعض ألق خبا. فحقيقة الخوف من التوطين هي في الخوف من اختلال الديموغرافيا اللبنانية الهشة وليس الخوف على حقوق الفلسطينيين في أرضهم السليبة. فمن يخاف على حق الشعب الفلسطيني الشقيق لا يطالب باستمرار انتهاك ابسط حقوقه الإنسانية يومياً!
بعيداً من القبول بالاستغلال السياسي المشين لهاتين القضيتين الإنسانيتين النبيلتين (حقوق الفلسطينيين في أرضهم، وحقوق الفلسطينيين الإنسانية خلال تهجيرهم إلى لبنان)، ينبغي التفكر في ثلاثة محاور: معنى التوطين، مآل استمرار الحال على ما هي عليه، وكيفية دعم حق الفلسطينيين في العودة، وهو حق، لا فرض، وينبغي ألاّ يكون تهجيراً جديداً بدوره!
في معنى التوطين أنه، في ظل عدم المساس بنهائية الكيان والوطن اللبناني، يقتصر على منح الفلسطينيين جنسية لبنانية، ما يغيّر موازين الطوائف في لبنان، بالنظر إلى ان غالبية الفلسطينيين من المذهب السني. إلا ان اجترار شعارات الستينات والسبعينات من القرن الماضي في هذا الشأن، فضلاً عما يثيره من ملل، ليس يجدي. فالموازين الطائفية التي كانت دقيقة وهشة قبل أربعين عاماً، إنما تناثرت إرباً اليوم، وسيتفاقم اختلالها مستقبلاً. تجنيس الفلسطينيين، وهو ما نرفضه قطعاً، لن يغير في اختلال المعادلة المسيحية – الإسلامية التي لم يتبق شيء من توازنها، بل حصراً في اختلال الموازنة
السنية – الشيعية، وهو سبب كاف لرفضه في طبيعة الحال. إلا أن استمرار اقامة الفلسطينيين في لبنان لا يشكل “توطيناً” ولا يخلّ بأيٍّ من هذه الموازين، مثلما أنه لم يخل بها في ستين عاماً.
اما وأن التوطين مرفوض، ولا يستطيع احد اكراه اللبنانيين على تجنيس أبناء فلسطين بجنسيتهم، واما وان اقامة الفلسطينيين في لبنان وتهجيرهم إليه قائمان إلى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإن اللبنانيين أمام خيار من اثنين: إما احترام مبادئ حقوق الإنسان، وإما الاستمرار في انتهاكها. ومثلما كان قمع الفلسطينيين حافزاً لتضامن بعض اللبنانيين معهم، وأحد مسببات الحرب الاهلية الساخنة، فإن استمرار حرمانهم من ابسط مقومات الحياة الكريمة، من تعليم وحق عمل وحتى اسمنت للمقابر، فسيؤدي إلى تحويلهم إلى اصوليين وقنابل انتحارية موقوتة، فضلاً عن احتمال عودة التضامن اللبناني السابق إلى دعمهم، حد تفجير الوضع اللبناني الداخلي. أما منحهم حقوق الإنسان الأساسية في احترام انسانيتهم وحقوقهم في المسكن والتعليم والاستشفاء وحق العمل والزواج، فيعني أولاً تلافي المحاذير المذكورة آنفاً، وثانياً تمكين جزء منهم من العمل بدلاً من اليد العاملة السورية، وفي ذلك منفعة كبيرة للاقتصاد اللبناني، وثالثاً تمكين جزء آخر منهم من رفع مستوى معيشته وتعليمه بحيث يجري عليه ما يجري على اللبنانيين من السفر للعمل والدراسة والهجرة، وفي ذلك ما قد يخفف من وطأة الموضوع الديموغرافي الطائفي. قبل هذا كله، احترام حقوق الإنسان الفلسطيني، يعني ارتفاع اللبنانيين إلى سوية زعمهم التقدم والحداثة واحترام المعاهدات الدولية، ويعني بدء تكوينهم لصدقية تعينهم حينما يطالبون بمعاملتهم شخصياً بمثل هذا الاحترام وهذه الحقوق في مختلف بلدان العالم.
اخيراً، إن دعم حق الفلسطينيين في العودة لا يمكن ان يتم من خلال دفعهم إلى احضان الأصولية والجماعات الانتحارية، بل يفرض اولاً تمكينهم من ابراز حقهم في الانتساب إلى الانسانية وقدرتهم على المساهمة بفاعلية في العيش والمعارف والفنون والاقتصاد، ما يكشف فداحة الكارثة السابقة وضرورة تعويضها وقدرة الفلسطينيين على البناء الفاعل لدولتهم المستقبلية، ويفرض أيضاً منح صدقية للبنانيين المطالبين بإرجاع الحقوق إليهم.
الفصل بين العدالة والحقيقة والفتنة
لا ينفصل الموضوع الفلسطيني عن مسائل الحق والقوانين. غير أن مسألة التأريخ وكشف الحقيقة ينبغي أن ينفصلا عن هذه المسائل، وذلك رداً على قضيتين: القضية الاولى إن اللبنانيين يفوضون محكمة خارجية كتابة حقيقة تاريخهم، وتالياً صوغ علاقتهم بسوريا، والقضية الثانية أن المطالبة بالعدالة تعني القبول بوقوع الفتنة او باحتمال وقوعها. والقضيتان واهيتان.
فالمحاكم لا تكتب التواريخ ولا الحقائق، بل تصدر احكامها بناء على تعالق مادتين: دلائل الاثبات من جهة، وقواعد القانون المطبقة من جهة أخرى. أي ان ما تأتي به أي محكمة، آخر الأمر، ليس الحقيقة الكاملة، التي يتطلب كشفها احياناً جهود مؤرخين كثر على مدى عقود وكشف الوثائق السرية للدول واعترافات الشخصيات الفاعلة في الشأن ومذكراتها. ما تقول به المحكمة، آخر الامر، هو الحقيقة المقبولة قانوناً، وهي قد لا تكون إلا الجزء الضئيل، المثبت والمعترف به قانوناً، من جبل جليد الحقيقة الفعلية. اما العدالة القانونية، لا الالهية، فهي حسن تطبيق القانون، على ما ثبت بالأدلة في هذا الحين من الزمن، وحسن تنفيذ قرارات القضاة.
يتبدى من ذلك أن لا علاقة بين المحاكم والعدالة وموضوع الحقيقة بمعناها الشامل أو التاريخي. أما افتراض ان صوغ العلاقة بسوريا أو بـ”حزب الله” محكوم بقرار المحكمة، إذا لم تتوجه شبهاتها في اتجاهات أخرى، فيتجاهل أن الحقيقة، القانونية الضئيلة، ليست ما يرسم علاقات الدول أو الأحزاب بعضها ببعض، كما أن المسؤوليات في القانون الجزائي هي دوماً مسؤوليات فردية محددة، ولا يمكن المسؤولية الجزائية، في الوضع القانوني المعاصر، أن تطال دولة بأكملها، ولا أن تطال حزباً أو مجموعة بصفتها تلك. المسؤولية الفردية، فضلاً عن احترام قرينة البراءة، تعني ان أي اتهام يوجه إلى فرد فقط، ولا يحمل ذلك مسؤوليةً، لا لنظامه ولا لحزبه. واذا تمت اشاعة الوعي بذلك والقبول به من جميع الأطراف، فإن آثار أي اتهام، سواء لشخصيات سورية، أو لبنانية، أو اسرائيلية أو سواها، ستكون مضبوطة بشكل أوفى مما إذا ترك للشك ولمخيلات البشر أمر الظن والعمل به، وبعضه إن لم يكن جله سوء.
ذلك أن غياب العدالة لا يعني، ولا يمكن ان يعني في مثل ثقافتنا، سوى حضور الثأر، ولو بعد حين. أما العدالة فهي وحدها ما يكسر دائرة العنف، لأنها تعني قبول كل الاطراف بالاحتكام إلى ثالث ذي قوة معنوية، لا بالاحتكام إلى الحرب العارية، أي الفتنة الحقة. لا مجال لمنع أن تدور دوائر الثارات إلا بالقبول بحَكَمٍ من خارجها، وفي ظل الانقسام اللبناني المشهود، كانت المحكمة المختلطة ولا تزال خير الحلول.
المصالح الحيوية للبنان في سوريا
يبدو أن شعوراً ينتشر وسط الزعماء اللبنانيين الحاكمين بضرورة احترام المصالح الحيوية للنظام السوري، وخصوصاً مع تكاثر الوافدين إلى قلب العروبة جساً للنبض او استئناساً بالمودة والترحيب المشهورين، وتكاثر عدد الموعودين او الواعدين بزيارتها. إلا أن أحداً بين الحجيج إلى دمشق لا يكلف نفسه سؤالاً عن طبيعة المصالح الحيوية للأمة السورية في لبنان. ولا أحد يكلف نفسه عناء السؤال عن المصالح الحيوية لـ”الأمة اللبنانية”، بحسب نص الدستور، في سوريا.
والحق أن عبارة “المصالح الحيوية” قد ابتذلت من جراء التبريرات الأميركية، والفرنسية أحياناً، والتهديدات باللجوء إلى العنف دفاعاً عنها. لذا ينبغي التوقف عندها. فالمصالح الاقتصادية والتجارية هي من صلب حياة الأمم، إلا أنها لا تعتبر بجميعها حيوية. وحده النفط وامدادته إلى الولايات المتحدة التي تستهلك ربع الانتاج العالمي، يلوح فعلاً مصلحة حيوية، بعد الانتصار على التهديد السوفياتي. وقد تبدو مصالح فرنسا في مناجم الأورانيوم الافريقية وفي امدادات الغاز من الجزائر ومن آسيا الوسطى، جديرة بهذا المصطلح. أما فتح السوق الصينية أمام المنافسة أو تعديل قيمة الين أو اليوان فهي على خطورتها لا تشكل مصالح حيوية.
أي ان المصالح الحيوية تتعلق، بادئ الأمر، بممارسة السيادة وحماية الشعب والأراضي الوطنية من العدوان الخارجي، ومن ثم بضمان استمرار الامدادات الاستراتيجية من المواد الضرورية للطاقة وللغذاء والانتاج الاقتصادي. أخيراً، ان احترام هذه المصالح الحيوية ينبغي أن يظل تحت سقف احترام القانون الدولي والتعاون بين الدول. في هذا السياق، يمكن التساؤل عن حقيقة المصالح الحيوية للأمة السورية في لبنان، وللأمة اللبنانية في سوريا.
فلا يمكن أن يتطلب احترام المصالح الحيوية السورية في لبنان مثلاً مخالفة لبنان المواثيق والمعاهدات الدولية، وقوانينه الداخلية، لجهة احترام الحريات وبخاصة الصحافية منها. كما لا يمكن ان يتطلب ذلك انتفاء دور الدولة اللبنانية على أراضيها واحلال السلطة السورية أو سلطات ميليشيوية مكانها.
ينبغي تالياً بناء حوار جدي ورصين، يبدأ بالطلب إلى السلطات السورية تقديم لائحة بما تعتبره مصالح حيوية بالفعل، وهو ما قد يتناول مسائل حصص المياه، ودعم الوجود العسكري الرسمي اللبناني في البقاع لحماية خاصرة دمشق الغربية، كما قد يتناول مثلاً اعتماد الاقتصاد السوري على قطاع المصارف والتأمين اللبناني في شطر وازن من نشاطه، وما يعنيه ذلك من ضرورة ابقاء هذا القطاع منفتحاً على رجال الأعمال السوريين. المسائل الأمنية، في ما خص الجماعات المسلحة والجماعات الإرهابية، القريبة من الحدود السورية، ينبغي أن تظل في اطار التعاون مع السلطة اللبنانية المخولة حصراً التصرف على أراضيها. يعني ذلك تبادل المعلومات والخبرات بشكل ندّي متساوٍ يعزز قدرات الأجهزة اللبنانية ولا يستبيحها، وهذا التعاون الأمني المؤسساتي هو أيضاً من المصالح الحيوية للبنان وخصوصاً أن الحدود السورية المستباحة لطالما شكلت المصدر الرئيسي للشق غير الداخلي من الارهاب في لبنان، وهو شق وسيع.
في المقابل، ينبغي للبنانيين تحضير لائحة مماثلة، وربما أطول، لهذه المصالح. فأولى المصالح الحيوية اللبنانية انما تكمن في الاعتراف بلبنان كدولة سيدة على أراضيها، أي ان يتم التعامل الرسمي حصراً عبر أجهزتها، ومنع تدخل بعض الأجهزة السورية وسعيها إلى السيطرة على مفاصل القرار السياسي اللبناني.
ثم ان الخاصرة السورية للبنان أكثر ارتخاء من الجانب الآخر للحدود، ففي غياب مثيل للمقاومة اللبنانية في الجنوب على حدود الجولان، ووقوع العاصمة السورية على مرمى حجر من الهضبة، فضلاً عن ضعف تأهيل الجيش السوري بالمقارنة مع الاسرائيلي، ما قد يغري باختراق الحدود السورية والالتفاف على معاقل “حزب الله” في الداخل اللبناني مثلما فعل الألمان في بلجيكا في الحرب العالمية مثلاً. فهل من ضمانات سورية على هذا الصعيد؟ أم ان هنالك من يعتقد أن بعض الفلول التنظيمية الفلسطينية على الحدود تشكل مثل هذا الجدار الرادع؟ قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية بتهم سياسية أو من دون تهم، هي أيضاً مصلحة حيوية تتعلق بدفاع الدولة عن مواطنيها ضد التعدي الخارجي، حتى الأخوي منه.
كذلك مسائل المياه والحدود أيضاً في حاجة للبحث والحوار على أساس جدي، فترسيم الحدود ولو على الخرائط يوضح مجال الأراضي التي ينبغي الدفاع عنها ضد العدوان الأجنبي، ناهيك بفائدته في قضية مزارع شبعا تحديداً التي تشكل الأرض اللبنانية المحتلة التي يشكل استردادها مصلحة حيوية في طبيعة الحال، وعاملاً على طريق احلال السلام الذي يشكل أيضاً مصلحة حيوية لكل البلدان. ولم يتبرع أحد إلى الآن بشرح أسباب وصف مثل هذا الترسيم الموقت والنظري بأنه خدمة لاسرائيل! أم ان الانسحاب من جنوب لبنان كان ايضاً مؤامرة؟
على الصعيد الاقتصادي، للبنان مصالح حيوية في ضمان إمداداته الاستراتيجية مستقبلاً من النفط الخليجي والعراقي خصوصاً، ومن الكهرباء عبر الشبكة العربية، وينبغي ان يشكل ذلك مادة أساسية للحوار المأمول بين مؤسسات الدولتين، فضلاً عن ضمان الدولة السورية عدم اقفال الحدود أمام النشاط الاقتصادي مع لبنان، بالنظر إلى مخالفة مثل هذه الخطوة للقانون الدولي في تطوراته الأخيرة، وبالنظر إلى كونها الحدود البرية الوحيدة المتاحة للبنان في ظل قيام اسرائيل على حدوده الجنوبية.
على صعيد آخر، إن حجم العمالة السورية بالنسبة إلى عدد السكان في لبنان، وحجم تحويلاتها المالية، يجعلها هذه العمالة قضية حيوية ديموغرافية واقتصادية مشتركة للبلدين، مما ينبغي أن يزيد الاهتمام بتشريع أوضاعها وتحسينها مع قوننتها بعيداً من الفوضى الحالية الخطيرة.
لكن المصلحة الحيوية الأهم ربما تكمن في احترام الدولة السورية لمعنى لبنان ككيان. فلها كل الحق في المنافسة الاقتصادية والسياسية والثقافية. إلا أن تشجيع النظام فيها لبعض اللبنانيين على نقض مواثيق الكيان وتوازناته ومحاولاته ضرب معناه كبلد للحريات (وليس للأقليات كما قد يفهم البعض خطأ) وللاتصال بالحداثة ووصل العرب بها وتهديم بنيته كدولة، تشكل أفدح الخروق لمصالحه الحيوية، سواء أقامت السلطات السورية بذلك عبر مد بعض التنظيمات بالأسلحة في خرق لسيادة الدولة، أم حث بعض الجماعات على الخروج على القواسم المشتركة لبنانياً بالاعتماد على دعمها، أم عبر محاولة فرض هيمنتها على اتصاله السياسي بالخارج وقراره الديبلوماسي وحتى التقني (العسكري مثلاً)، أم عبر المطالبة المستمرة بإسكات الأصوات الحرة المختلفة والمتناحرة أحياناً فيه، أم عبر محاولة السيطرة على قطاعات اقتصادية وعلمية فيه، كما حصل ابان عهد الوصاية. واللفظ تلطيف للواقع.
لائحة المصالح الحيوية اللبنانية المشروعة طويلة، وأولى الخطوات لتحقيقها ينبغي أن تشكلها المصارحة بها والمطالبة باحترامها، بدل الاكتفاء بالشك في النيات او بمديح النظام السوري وبطمأنته إلى حرص اللبنانيين على مصالحه، مشروعة أم لا، على أرضهم وعلى حساب حقوقهم. غير أن من يستطيعون حمل مثل هذه اللائحة قلائل، اذ وحده من يحمل صفة رسمية “دولتية”، لا من يمثل أو يحسب تمثيل جماعته وطائفته فقط، يستطيع الدفاع عن مصالح وطنية جامعة. على اللبنانيين اذاً واجب تعيين موفديهم الرسميين إلى الحوار الصعب والجدي مع الدولة السورية. على اللبنانيين بادئ ذي بدء أن يبدأوا بإنتاج موظفين ومسؤولين تتجسد فيهم المواطنة حيث الانتماء إلى لبنان يسبق كل انتماء آخر، ويفوقه إذا ما اختلت المصالح ¶
النهار