الزعماء لا يحمون الطوائف بل يستخدمونها
سليمان تقي الدين
أفلت اللسان الطائفي من عقاله. صرنا نقرأ كل الأحداث السياسية بلغة الطوائف كأنها كتل بلورية صافية. فلان يدافع عن مصالح طائفته ويطالب بحقوقها، وآخر يدافع عن أمن طائفته ووجودها. مَن ينكر حقيقة وجود الطوائف الطاغي المسيطر على الحياة الوطنية كمَن ينكر الشمس في وضح النهار. لكن تاريخ لبنان يؤكد أن الزعماء يستخدمون الطوائف في مشاريعهم السياسية وليس العكس. مَن يصنع مشاريع الطوائف هم نخبها السياسية والاجتماعية. الطوائف بحد ذاتها مجموعات بشرية قابلة للتكيّف. العالم كله مليء بالتنوّع الديني والمذهبي والعرقي واللغوي والثقافي والاثني على تقاطع هذه المصطلحات. لبنان شيء آخر.
كيان ودولة وُجدا لحالة طائفية تجاوزتها وقائع الحياة. نظام سياسي قام على فرضية سوسيولوجية لم تعد موجودة. معادلة عفا عليها الزمن. ما كان صيغة لتدبير التوتر بين الجماعات وضمانة لشراكتها، صار آليات للصراع على السلطة. في التجربة كان هذا النظام يستنزف قدرات اللبنانيين، يهددهم بدورات العنف وبتدمير مقوّمات الحياة المادية وبالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الامتيازات والحرمانات التي يصنِّف بها اللبنانيين.
الزعماء والمؤسسات السياسية الطائفية لم توفر لهذه الجماعات الأمن والاستقرار والتقدم الاجتماعي. في إطار الصراع الطائفي يقوم الزعماء بإدارة هذا الصراع، لكنهم لا يقدّمون حلولاً لمشكلاتهم.
خلال السنوات القليلة الماضية عاش لبنان أزمة وطنية شاملة. لم تشعر أي طائفة بأنها في أمن وأمان. دارت اللعبة السياسية كلها على محاولة إيجاد توازنات واقعية وليس على إيجاد صيغة حل للصراع والتوتر والمنافسة وأحياناً لمنع التعديات الأمنية.
تصرّف الزعماء على أساس البحث عن وسائل للدعم سياسية ومعنوية ومادية من أجل تثبيت سلطتهم على جماعاتهم. لم يتصرف أي طرف كأنه يبحث عن وسيلة لإنهاء قواعد النزاع. في تلك السياسة زادت المخاطر على الجماعات الطائفية ولم تتراجع. لم يعد هناك مواطنون أصلاً في منأى عن تأثير هذه الحالة التصادمية. جرى تصنيف الناس في خانة انتمائهم المذهبي. لم يعد للإنسان الحر أي وجود، هو ابن القبيلة الطائفية شاء أم أبى، بنظر أبناء قبيلته وخصومها. صار الخروج عن هذا التصنيف مدار الهزء والسخرية، نشأت جماعة من البشر «لا مكان لها في هذا البلد». كلمات نسمعها في جميع المنتديات والمحافل والصالونات. يلغي فريق سياسي فريقاً آخر معنوياً، ثم هما معاً يلغيان أي وجود إنساني وليس فقط سياسيا، بينهما. ثنائية الخير والشر اغتالت كل وجود حر. هذا واقع لا يمكن أن يشكل حماية لأي طائفة أو جماعة، بل هو يلقيها في متاهات الصراعات السياسية والدموية. استعدنا بعضاً من ممارسات الحرب الأهلية فقُتل الناس لهويتهم المذهبية.
في مثل هذه الأجواء لا وجود للإنسان على أي مستوى كان، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. هناك فقط كائن قبلي طائفي أو مذهبي ترتبط علاقاته بالآخرين عبر هذه القناة. لا معنى لكل وسائل عيشه ما دام أمنه مهدّدا ووجوده موضع بحث. الزعيم لا يحميه إلا في بيئة مغلقة، في موقع جغرافي محدّد وفي ظل استنفار غريزي لا قيمة له إلا بالبحث عن وسائل القوة المادية التي تردع خصومه، على فرض أن الحدود بين الجوار ثابتة ومحترمة من الآخرين.
في هذه الصورة الزعماء يستخدمون الطوائف لتحقيق أهداف سياسية سلطوية ولا يبحثون عن نظام لجعل الأمن والسلام والاستقرار حقاً للمواطن تستوفيه الدولة ولا يرتبط بنفوذ هذا أو ذاك من القادة والزعماء، أو من عناصر القوة التي تمتلكها الجماعات نفسها. هنا يكمن الخط الفاصل بين مجتمعات «الأمر الواقع» ومجتمعات الدول. هنا الفرق الكبير بين القبيلة والدولة.
كلما تمسّكنا بمنطق الاحتماء بالزعيم أفقدنا أنفسنا إمكانات تحقيق وجودنا الإنساني المستقل وكرامتنا كبشر. كلما راهنا على «قوة الجماعة» فقدنا القدرة على التطلّع لبناء الدولة كإطار ناظم لحقوقنا. إذا نحن أسلسنا قيادنا إلى هذا الزعيم أو ذاك، وضعنا أنفسنا مادة للاستهلاك في دوره السياسي. من هذه النقطة بالذات يتأسس الاستبداد. الاستبداد لاغ للكرامة الإنسانية. نضع في الزعيم كل ما نملك من قدرات وإمكانات. عملياً نحن نلغي وجودنا لصالح وجوده، حتى أننا نلغي «الجماعة» أياً كانت تلك الجماعة لمصلحة الفرد. أحد أهم مصادر إخفاقاتنا كشعب أن مصيرنا مرتبط بمصير الزعيم، ننتصر فيه ونهزم معه. المجتمعات التي تلقي مسؤولياتها في يد زعيم تلغي نفسها، سواء أكانت شعباً أو جماعة دون ذلك.
قاد الزعماء حتى الآن الطوائف إلى التصادم والتنابذ والفرقة، وحكموا عليها بأن تبقى في طموحات أمنها ووجودها المادي، ونزعوا منها كل آفاق الحرية والتقدم. فهل نبقى في حمى الزعماء، أم نلوذ بالدولة؟ تلك هي المسألة.