14 آب والحرب القادمة
سليمان تقي الدين
في اليوم التالي لوقف النار من 14 أغسطس/ آب 2006 بدأ الفريقان (العدو الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية) الإعداد للحرب القادمة. عالجت الدولة العبرية “الفشل” و”العجز” كما وصفهما تقرير لجنة “فينو غراد” من مايو/ أيار عندما قامت بالمناورة العسكرية الشاملة التي أعلنت فيها جهوزيتها للحرب. ذهبت المقاومة الى المراكمة على عناصر نجاحها، فضاعفت من إمكاناتها العسكرية ووسعت من رقعة انتشارها ودفاعاتها وطورت وسائلها من حيث الخطط ومن حيث التقنيات مركزة على نقاط ضعف العدو ونقاط قوتها.
في ما هو معلن، الطرفان جاهزان لمواجهة تصفها الدولة العبرية بأنها “تدميرية شاملة” تخمد المقاومة في أعماق الأرض “بأعمدة النار”. والمقاومة تصف المواجهة بأنها ستغيّر المسار العام بل وجه المنطقة، لأن الفرق “الإسرائيلية” ستدمر على يد المقاومة الباسلة. قيادة العدو تحمّل لبنان وحكومته المسؤولية في حال اندلاع الحرب وتعتبر جميع مرافقه ومناطقه هدفاً لها.
المقاومة تهدد عمق الكيان الصهيوني أكثر وتعد بالمفاجآت. لكن الحرب في جميع الظروف قرار سياسي. يغلب على التوقعات في الجانب اللبناني والعربي استبعادها في المدى المنظور، بينما يبدو الموقف “الإسرائيلي” أكثر رغبة في إشعالها ولو أنه يهدد ويتراجع. الكابح الرئيسي للعدوان هو السياسة الأمريكية “التجريبية” التي تسعى لاستثمار انطواء مفاعيل إدارة بوش وتشكيل إدارة همها الأساس احتواء الفشل السابق على جميع الجبهات. ما يطلبه الأمريكيون الآن وقف التصعيد في وجههم وهم يظهرون كل الرغبة في التفاوض والتعاون. ينطبق هذا الأمر على إيران وسوريا والمقاومات من لبنان الى وسط آسيا مروراً بالعراق. الدولة العبرية التي اعتادت شن الحروب بالرعاية الأمريكية تشعر بوطأة الكابح الأمريكي والمطالب الأمريكية التي تدعوها لمواكبة المرحلة الدبلوماسية وتقديم بعض التنازلات الشكلية من أجل تعزيز مصداقية أمريكا في الأوساط العربية والإسلامية. حتى هذه التنازلات لا تقدمها.
هناك افتراق كبير في النظرتين الأمريكية والإسرائيلية. ما يقلق دولة العدو ان الوقت يعمل في غير صالحها، في المدى الإقليمي من خلال التحدي الإيراني وفي الجوار رؤوس الجسور الإيرانية كما تصفها أي المقاومة اللبنانية “حزب الله” والمقاومة الفلسطينية “حماس”. لا تستطيع الدولة العبرية اللعب بالمسرح الإقليمي من دون أمريكا، لكنها تستطيع ذلك على حدودها كما فعلت في حرب “غزة”. في التقدير ان الحرب على لبنان تساهم في تغيير المعادلة الإقليمية وهذه حقيقة أثبتتها حرب يوليو/ تموز 2006. إذا انكسرت شوكة المقاومة فهذا لا يضير أمريكا في شيء، يساعدها على التفاوض مع الآخرين ويخرج الدولة العبرية من مأزقها السياسي لأنها لا ترغب بتسوية سياسية قبل أن تستعيد قدرتها ووظيفتها بالردع وإضعاف خصومها لتطويعهم لحل فلسطيني باتت مواصفاته معروفة على أنه لا دولة فلسطينية فعلية.
الحرب القادمة على لبنان “تدميرية” و”الشفافية” في منظور العدو. قادة المقاومة يعرفون تماماً معنى “الشفافية”. لعلهم أعدوا لها العدة على حد ما نتوقع ونعلم. لكن المطلوب توسيع إطار الخطة الدفاعية في جميع المناطق وتفعيل دور القوى الوطنية فيها وإعداد منظومة دفاعية مدنية. المقاومة المدنية مسألة مهمة جداً لاحتواء الحرب “التدميرية”.
أما المسألة الأهم، والوقت داهم على هذا الصعيد، فهي شرح معنى الحرب ودلالاتها وأهدافها ومخاطرها الشاملة لبنانياً وعربياً، وتصحيح المناخ الشعبي والسياسي الذي أفرزته الصراعات الداخلية.
الهجوم السياسي باتجاه الداخل لتفكيك الآثار السلبية ملح وضروري. هذه ورشة لا لقاءات مجاملة ومصالحات عامة. لا تستقيم مواجهة مع عدو بهذه الشراسة والهمجية في ظل وجود خلل على الجبهة الداخلية.
الانتصار العسكري نفسه يمكن أن تفسده الأجواء السياسية والعكس صحيح. إن جزءاً مهماً من تقديرات الموقف في الدولة العبرية أو أي عدو هو الحصاد السياسي لأي عمل عسكري. ثمة نقاط يراهن عليها العدو ويعمل على تغذيتها وهي مناخ الحذر بين الجماعات الطائفية ومناخ التخاذل العربي.
وفي الأفق هناك شغل كبير على تشويه صورة المقاومة بالعديد من المواقع والوسائل أكثر من ذي قبل. ثمة ملفات تركّب الآن لتقديم المقاومة في صورة من صور “الإرهاب”. قد يكون من بينها ملف الشبكة الأمنية في مصر، وقد يكون ملف ما أوحت به “دير شبيغل” وربما افتعال حادث إرهابي في الخارج كما حصل في لندن قبل اجتياح 1982.
سمعنا عن “مؤامرة اغتيال سفير إسرائيل في مصر”. وسمعنا عن “دعم حزب الله للحوثيين في اليمن”، بل ان جهة سياسية لبنانية معادية تتعاون مع الأمريكيين أبعد من السياسة تتوقع دائماً الأحداث الأمنية في لبنان.
في ذكرى 14 أغسطس/ آب، نعرف الدرس الأول، انتصرت المقاومة بالبطولة وبالاعداد الجيد وباحتضان جمهورها. لكن زخم هذا الحدث هدر منه الكثير على المستوى السياسي في الداخل. الحرب القادمة تحتاج الى جانب ما أعدت المقاومة عسكرياً، مقاومة مدنية ونزع كل الألغام في الخطوط الخلفية وإزالة كل أسباب الحذر من مختلف الأوساط.
تراجعت اندفاعة الأمريكيين لتحريك المفاوضات السورية – “الإسرائيلية”، وتراجعت المفاوضات مع إيران على الملفات المتعددة وتعطلت محاولات المصالحة الفلسطينية وذهبت أبعد في الانقسام، وما هو دائر الآن من حراك أمريكي تركيز على الوضع في العراق مجدداً ومعالجة مشكلة افغانستان. في هذا الإطار قد تأخذ الدولة العبرية المبادرة من أجل المزيد من تطويع الضغوط الأمريكية وحفزها باتجاه المزيد من التقاطع في تصور معالجة شؤون المنطقة.
من يستبعد الحرب كأنه يتوهم أن دولة الاحتلال الغاصب لفلسطين صارت جاهزة للسلام. تتملص حكومة العدو من الضغوط الأمريكية المحدودة أصلاً، وتذهب أمريكا أكثر نحو الاهتمام بالعراق وافغانستان، ولا يبدو العرب بصدد الضغط على أمريكا حيث أولوياتهم لا أولوياتها هي.