لمَ لا يجدّد السياسيون اللبنانيون مكتباتهم؟
عظمة إيران وشيطنة أميركا
هل في وسع المرء ان يسمع الضجيج اللبناني وهو يقيم على بعد ألوف الأميال من بيروت؟ الأرجح انه لا يستطيع. ولو انه استطاع فإنه يفضّل أن لا يفهم. ايها اللبنانيون ابقوا كما أنتم، حتى يسهل علينا، نحن الذين نعيش في البعيد، ان نفهمكم. او على الأقل ندّعي فهمكم.
صحيح، الجرح يؤلم في مكانه أكثر. لكن الجرح أيضاً يؤلم تخيلاً. تدّعي أنك لم تعد مجروحاً وأن كل شيء سار نحو نهاياته الجيدة. لكنك تعرف أنك تركت أمامك في تلك البلاد كثيرين يفكرون بالعودة إلى الوراء. الوراء الذي تركته ذات يوم.
في البلد حديث عن العروبة وعن عودة أميركا للبس لبوس الشيطان. حديث متجدد. تكتب بالعربية، وتقرأ بالعربية. اشتياقاً، أولاً، ورغبة في ان تبقى حيث انت. العروبة، وشيطنة أميركا ايضاً. أميركا لا تدافع عن نفسها. في الانتخابات الرئاسية الاميركية، الأخيرة وما قبل الاخيرة وما قبلها ايضاً، لم يكفّ الشيخ نبيل قاووق عن إبداء الرأي في المرشحين الرئاسيين. أوباما أفضل من ماكين، بالنسبة للشيخ القائد. الشيخ لم يكن فريد زمانه ولسانه في هذا الأمر. العالم كله تدخل في الانتخابات الاميركية. في حمى الحملة الانتخابية التي أسفرت عن عودة جورج بوش إلى البيت الأبيض لولاية ثانية في مواجهة جون كيري، نشرت الصحف الاوروبية تقارير تفيد ان جون كيري ربح على بوش في تصويت عبر العالم بنسبة 74 بالمئة إلى 26. لكن كيري خسر في أميركا. جورج بوش المتعصب، جورج بوش الذي سيحاكمه التاريخ بحسب معظم دول العالم، لم يخرج إلى الصحافيين، في حديقة البيت الأبيض، ويطالب بمحاكمة الشيخ نبيل قاووق او الرئيس احمدي نجاد، او حتى الرئيس جاك شيراك لأنهم تدخلوا تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية الإيرانية. هذا امر من حقوق دول العالم الثالث الحصرية! ربما، وربما ان أميركا نفسها لا ترى في التدخل الخارجي بشؤونها الداخلية ما يضير. فليتدخل العالم مثلما يريد، اميركا دولة عظمى. من حق المحكومين التدخل في شؤونها.
في لبنان فريق كبير، وبعضهم من السياسيين والزعماء المزمنين يقولون جميعاً: إيران دولة عظمى. ألم تثبت ذلك فعلاً؟ لكن إيران اليوم، تتهم بريطانيا وفرنسا بالتدخل في شؤونها الداخلية. كيف؟ لقد كتبت أستاذة جامعية فرنسية تعيش في إيران تقريراً، ويقال إنها شاركت في تظاهرات المحتجين. هذا تجسّس، إفشاء أسرار دولة عظمى لصالح دولة أقل عظمة هي فرنسا. كل ما يقال عن إيران هو تجسس. ألم يقل أمين عام حزب الله ذات مرة: على الذين لا يعرفون في دواخل الموضوع الإيراني ان يكفّوا عن إبداء الرأي في ما يجري في إيران. دعوا إيران لحلفائها. طبعاً لم تعتبر القيادة الإيرانية تظاهرات اللبنانيين السيّارة ابتهاجاً بفوز الرئيس احمدي نجاد بولاية ثانية تدخلاً في شؤونها. هؤلاء من العارفين.
لنعد إلى العروبة. في لبنان حديث متجدد عن العروبة. ذمّاً واستذكاراً. الذّم لا يصدر عن الرئيس أمين الجميل. هو نفسه يقول: الموارنة اللبنانيون في أديرة جبل لبنان آثروا الثقافة العربية وحافظوا على اللغة. الهجّاؤون اليوم هم بعض عروبيي الأمس. اما الذين يستذكرون العروبة، فحديثهم طويل. لكن واقعة واحدة ينبغي تثبيتها في هذا المجال: مسيحيو لبنان اليوم أكثر ارتباطاً بالعروبة مما كانوا عليه عشية الدخول السوري إلى لبنان عام 1976. هل ثمة من يستطيع ادعاء عكس ذلك؟ لكننا في نهاية المطاف لا نسأل المسيحيين اللبنانيين لماذا ضاقوا ذرعاً بالعروبة ذات يوم. ينبغي ان نسأل العروبة نفسها: لماذا لم تتسع لدور مسيحي رائد في ستيناتها وخمسيناتها مثلما كانت تتسع في عشرينات القرن المنصرم وما قبله؟ لنخرج بواحدة من البدائه البسيطة: العروبة ليست سوريا، ولو ان الشك لا يطاول عروبة سوريا. العروبة رابطة أشمل من سوريا ومن مصالحها. ثم ما هذا الخلط بين العروبة والمقاومة؟ المقاومة تكون عربية وتكون لبنانية وتكون بورمية. العروبة تكون عربية ولا تكون هندية او باكستانية. اللبنانيون يستطيعون الخلط. ليس كل ما في قلبهم على لسانهم. وهم ايضاً محبو نعيٍّ: ماتت اللغة، ماتت العروبة، ماتت المقاومة، انهارت اميركا. في لبنان أُميتت أميركا وهزمت مئات المرات. إنهار مصرف هنا، وأفلست سلسلة محلات هناك. أين روكفلر؟ بل أين ج. ب. مورغان؟ الدلائل على انهيار أميركا واضحة. لكن أميركا ما زالت دولة عظمى رغم تأكيد اللبنانيين أنها انهارت مع انهيار مصرف ليمان براذرز.
اليوم، عدنا إلى عروبة ما. لقد انهزمت اميركا وزالت الغشاوة عن عيوننا. فلنعد إلى المنبت. محللون كثيرون وسياسيون عريقون أيضاً يقولون لقد ربحت إيران حروبها ضد أميركا. والمأزق الأميركي عميق إلى درجة لا يمكن النجاة منه. في اميركا يقول مساعدو ريتشارد هولبروك، واحد من مساعديه على وجه التحديد: أحداث إيران الاخيرة بالغة التأثير على الدبلوماسية الاميركية حيال الملف النووي الإيراني، لأن أميركا اليوم لا تعرف من تفاوض هناك، فمقاليد السلطة موزعة بين مراكز قوة متعددة، وهذا يجعل اي تفاوض مع أي طرف محفوفاً بمخاطر ان يكون تضييعاً للوقت. في وسعنا ان لا نصدق هولبروك ومساعديه. وعلينا أن نصدق مخاوفنا وهواجسنا أكثر.
في لبنان يقولون: لا مفر من الاعتراف ان سوريا عادت لتفرض على لبنان ما تريده. الأمر واضح. ثمة سفير دوّار من دار إلى دار يطمئن القادة اللبنانيين من كليمنصو إلى بتغرين أن سوريا مستعدة للعفو والمسامحة. عفا الله عمّا مضى، شرط ان يعفو اللبنانيون عن أنفسهم.
في أميركا يقولون: طيّب، ما الذي تريده سوريا بالضبط؟ هل هي ملتزمة فعلاً بحلفها مع إيران؟ هل هي ملتزمة حقاً بخيار التفاوض مع إسرائيل، وتالياً خيار السلام؟ إذا سلّمناها جيشاً جرّاراً، وقلنا لها: هذا الجيش مستعد لتنفيذ سياساتك، إلى أين ستوجهه: إلى لبنان؟ إلى الأردن؟ إلى غزة؟ إلى الضفة الغربية؟ إلى هضاب الجولان المحتلة؟ الأرجح انه سيقف متأهباً في ثكناته في انتظار ان تحزم القيادة في دمشق أمرها في اتجاه ما.
حسناً، نحن في لبنان ايضاً مستعدون للتأهب في ثكناتنا إلى ان يحزم القادة أمرهم. إنما فلنعترف: هذه ليست عودة إلى العروبة، وهذا ليس استثماراً في اليسار.
المستقبل