ديمقراطية الترهيب
عبد الوهاب بدرخان
ما الفائدة من انتخابات حرة وواضحة النتائج إذا كانت ستستخدم لتعطيل مسار الحكم، بذريعة أن الأكثرية الفائزة لا تمثل وفاقاً أو توافقاً مؤهلاً لإدارة الحكومة إلا إذا ائتلفت مع الفريق الذي لم يستطع تحصيل الأكثرية من خلال صناديق الاقتراع.
ثمانية أسابيع مرّت على محاولات تشكيل حكومة جديدة في لبنان. ولولا توتر الوضع الإقليمي، والحرص على تمرير الموسم السياحي بهدوء، لكانت الأزمة اتخذت أشكالاً أكثر سخونة وخطورة. فأي تصعيد داخلي سيلقى من هو جاهز في الخارج لاستغلاله، خصوصاً أن لبنان الذي كان سابقاً ساحة للصراعات العربية- العربية، أصبح الآن الساحة التي يمكن أن يلجأ إليها الإسرائيليون والإيرانيون هرباً من أزماتهم الداخلية. لا يعني ذلك أن الصراعات العربية انتهت، لكنها باتت ثانوية.
وعلى رغم أن الانتخابات حصلت، فإن هناك أطرافاً داخلية وخارجية لا تزال تذكر الجميع بأنها لو أرادت لما تركتها تحصل، أو لو أرادت لكانت لديها كل الوسائل للتأثير في مسارها وفي نتائجها. ولا تقول هذه الأطراف لماذا استنكفت أو امتنعت عن تحقيق ما هو في مصلحتها، وهي لا تقول طبعاً إن الوسائل التي أشارت إليها هي بالضرورة من النوع الذي يستخدم العنف والترهيب.
في أي حال، يشكل هذان العنف والترهيب حلقة استقواء داخلي على الجميع، الدولة والحكم، الشعب والمجتمع، المؤسسات والدكاكين، الجيش والميليشيات. هو استقواء داخلي في خدمة الخارج، وخارجي يستعمل لأغراض داخلية شتى، استقواء كان له كل التقدير والاحترام حين كان موجهاً فقط ضد العدو الإسرائيلي ولا يريد أن يعترف بأن طبيعته تغيرت بعدما انبرى للعب والعبث في أرجاء البيت اللبناني. إذ ظن “حزب الله” ومن هم وراءه أنهم وحدهم المؤتمنون على إبقاء اللبنانيين في وضع المواجهة مع إسرائيل، ويتجاهلون ما كان قبلهم ومن دون أي جهد منهم من رفض راسخ لأي احتلال وظلم، ومن حرية متأصلة في دم الشعب وقلبه وعقله لا يمكن أن تقبل للأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل بالقوة والتفوق الناري.
أغرب الاختراعات السياسية التي استنبطت لإخفاء المشروعية على واقع سيطر فريق سياسي واحد بقوة السلاح على جميع الفرقاء هو ما سمي “الديمقراطية التوافقية”. فباسمها جرى تأليف الحكومة السابقة بعد “اتفاق الدوحة” عام 2008، وباسمها يراد اليوم استيلاد حكومة ما بعد الانتخابات. كان يمكن لهذه الديمقراطية أن تكون مستحقة فعلاً لاسمها الترويجي الرنان، إلا أنها باتت عنواناً لتعطيل إدارة البلد. وكان يمكن أن تكون حلاً حضارياً ثابتاً لو أنها تنبهت فقط إلى وجود تناقضين على الأقل: أولهما أن “الديمقراطية” تفترض تساوي أطراف اللعبة السياسية بالوسائل والفرص، لا أن يكون أحدها مهدداً للآخرين بسلاحه. والثاني أن “التوافقية” تفترض وجود وفاق، وفي حد أدنى أن تكون هناك عقلانية في الشروط والمطالب وحتى المطامح. أما أن تنسف “الديمقراطية التوافقية” أساس الديمقراطية ذاتها -وهو ما عبر عنه الشعب في الانتخابات- فهذا ينسف أيضاً الصيغة كلها لمصلحة تسويات وتماحص يصار إلى بلورتهما مع كل استحقاق حكومي.
لا شك في أن هناك من سيصف أي كلام نقدي لـ”حزب الله” بالتخوين أو بخدمة العدو أو بإضعاف المقاومة. لكن هذه الاتهامات لا تخفي واقع أن للشأن الداخلي خصوصية. ومن باب “الخصوصية” هذه فعل سلاح الترهيب فعله لإحداث صدع في تركيبة الأكثرية عبر سحب أبرز أقطابها وليد جنبلاط منها، أولاً لإسقاط صفة الأكثرية عنها، وثانياً لبعثرة معالم الصيغة التي كانت تبنى عليها الحكومة الجديدة وجعل رئيسها أشبه برهينة وسط التجاذبات. ومنذ الآن يمكن القول إن الحكومة ستكون تحت رحمة “حزب الله” الذي حصل على كل التنازلات التي تهمه قبل البدء بمداولات تأليفها. وبات متأكداً من الهيمنة على ثلثيها، ومع ذلك لا يرى نفسه معنياً بتليين شروط حلفائه لتسهيل ولادة هذه الحكومة.
الأرجح أن العرقلة الحالية مفيدة لمن يملك تلك الهيمنة، فإما أن يدفع الرئيس المكلف سعد الحريري إلى الانسحاب للإتيان برئيس حكومة ضعيف، وإما أن يدفعه للقبول بكل الشروط، وإما أن تستمر الأزمة بحكومة تصريف أعمال شبه معطلة. ولا مصلحة للبلد في إخفاق زعيم الأكثرية، ولا في تكبيله بالشروط، ولا بإدامة الأزمة. لا شك في أن زعيم الأكثرية يحتاج، بعد اهتزاز الثقة بينه وبين جنبلاط، إلى حليف آخر يحاول أن يجده في رئيس الجمهورية، لكن هذه قصة أخرى.
جريدة الاتحاد