اللبنانيون وحكومتهم: الاحتقار المتبادل
حسام عيتاني
بعد انسحاب وزراء المعارضة اللبنانية من الحكومة عام 2006، وبعد انتهاء الولاية الرئاسية الممددة لإميل لحود في 2007، تفاقمت حدة الاستقطاب السياسي بين فريقي الرابع عشر من آذار والثامن منه. اصيبت الادارة العامة بشلل عام وبدا ان البلاد تتجه الى جولة جديدة من الصدام الطائفي. دارت حرب اهلية مصغرة انتهت بعد توقيع القوم اتفاق الدوحة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. استغرقت عملية تأليف «حكومة العهد الأولى» اكثر من ستة أسابيع بسبب خلافات على فقرة تتعلق بالمقاومة في البيان الذي يفترض ان تنال الحكومة به ثقة مجلس النواب. جرى التوصل الى تسوية للأزمة هي عبارة عن سطر واحد حول حق لبنان في المقاومة.
صرّفت الحكومة التي ترأسها فؤاد السنيورة اعمال الدولة بما تيسر من مناوشات، في انتظار انتخاب مجلس نواب يُظهر توازنات القوى بعد الازمة التي بدأت مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. بيد ان نتائج الانتخابات في حزيران (يونيو) الماضي لم تكن كافية لتسليم السلطة او النصيب الأوزن فيها الى فريق بعينه لعلة في بنية البلد الطائفية وتطلبها حكماً ائتلافياً يقال إنه توافقي، خصوصاً بعد انعطافة وليد جنبلاط وخروجه من تحالف 14 آذار الذي لم تكن تنقصه عوامل التشرذم.
على ان التمرين الذي مر اللبنانيون به لناحية انحسار دور مؤسسات الدولة الى الحد الادنى واعتيادهم على وقوع ازمة سياسية عند طرح أي مشروع يتسم بقدر من الشمول، كالموازنة العامة او كمذكرة التفاهم مع المحكمة الدولية، وظهور استحالة موضوعية لتسوية مسائل يتعين ان تكون بديهية، كمشكلة الكهرباء التي تغيب اثناء الليل وأطراف النهار عن مناطق شاسعة من لبنان، أو الارتفاع الدوري لأسعار المحروقات على رغم انخفاضها العالمي، ناهيك عن السلع الاستهلاكية الاساسية، جعل من الحياة اليومية للبنانيين درساً في كيفية العيش في القرن الواحد والعشرين في بلاد غابت الدولة عنها وبقي ظلها. غابت الدولة بمعنى انعدام اثر المرجعية الناظمة للعلاقات بين المواطنين من خلال قانون متفق عليه وارتقاء الحلول التوفيقية – التلفيقية التي تبتكرها الجماعات او المجتمعات في معازلها، الى مستوى الأعراف المتجاوزة سطوتها سلطات المؤسسة الراعية لعموم السكان (من دون ان تكون الدولة في لبنان قد اقتربت في يوم من الايام من مفهوم «الدولة الراعية»).
رسوخ النوع هذا من الممارسات واكتشاف اللبنانيين ان «القوانين» التي اتاحت لهم نوعاً من البقاء اثناء الحرب الاهلية، قادرة على العمل في حضور الدولة الحالي، الشكلي والمزيف، يجعل الأزمة الحكومية التي يفترض ان لبنان يعاني منها، مجرد عارض عابر يعني، في أول الأمر وفي نهايته، طبقة سياسية محترفة يشبه افرادها بعضهم بعضاً في الاهتمامات التافهة الى جانب العجرفة وصولاً الى إصابة كثيرين منهم بأمراض نفسية ظاهرة ومستترة، شبهاً يورث الملل والسأم.
الحضور الطاغي والسمج لمندوبي الشريحة هذه في أمسيات المواطنين ونهاراتهم، عبر وسائل الاعلام، وضياع القعر الذي يفترض ان ترتطم به مشاحنات ومهاترات لا تبالي بعدم تشكيل الحكومة «كرمال صهر الجنرال»، يقابله تلويح بانتظار مديد الى ما بعد نهاية العام الحالي، ينطوي على احتقار أكيد يتبادله ممثلو أمراء الطوائف وعمّالهم على الشاشات والاذاعات وصفحات الجرائد. لكن الحضور «السياسي» الكثيف يقول باحتقار آخر يبديه الامراء للعاديين من بني جلدتهم الذين لا قيمة لمصالح لهم معلقة في الادارة المجمدة ولا قيمة لوقتهم المهدور على عتبات المؤسسات الخاص منها والعام، في نظر قادة كانوا قد اختبروا ضآلة قيمة دماء مواطنيهم وأعمارهم في ما لا يحصى من حروب اهلية وكونية.
وساهم موسم الصيف الحالي وما شهد من تدفق سياح عرب وأجانب وعودة آلاف المغتربين والمهاجرين اللبنانيين لقضاء الصيف بين اهلهم، وما يحمل ذلك من إنفاق للمال تستفيد منه عائلات وفنادق ومنشآت سياحية، وتخف معه وبه وطأة المعاناة المعيشية لأعداد معتبرة من اللبنانيين، خفف كل هذا من الشعور بفداحة غياب الحكومة وبقائها قيد التأليف منذ قرابة الشهرين.
وكأن من صُنِّفت حياته بالنافلة وبعديمة المعنى والهدف، يرد على الاحتقار باحتقار، فيصر على متابعة حياته بما فيها من خواء، في منأى عن ترّهات تُتلى على مسامع الناس عن أسباب استعصاء التشكيل الذي لم يعد يحتل سوى اقل من القليل من هموم الناس التي فاض كأسها منذ امد ليس بالقصير.
والحال ان السؤال يجوز هنا عن جدوى الاسراع او التباطؤ في اعلان اسماء الثلاثين من دهاقنة السياسة في لبنان وأراخنتهم اذا كان قدرهم ان يصطدموا بحقيقة بسيطة تقول ان النظام الذي سيتولون تسيير شؤونه لم يعد مؤهلاً… للسير. والاغلب الأعم ان وزراءنا القادمين سيكتشفون واقع الأمر هذا في اول اجتماع لهم او في اجتماعهم الثاني على ابعد تقدير، ليعود الشلل الكامل هو الملجأ الذي تقصده صيغة حكم لا تنفع ولا ينفع معها تغيير، فيما العالم من حولنا مرجل يغلي بالتغيرات والأفكار والأخطار.
الحياة