صفحات العالم

الغـزو المضـاد

ساطع نور الدين
هي الملامح الاولى لما يبدو انه منعطف حاسم في تاريخ العراق والعالم الإسلامي كله:
ليس ضرب بغداد ومؤسساتها الحكومية بأطنان من المتفجرات حدثا أمنيا عابرا، ولن يكون مجرد حلقة من سلسلة العنف المستمر منذ الاحتلال الاميركي في العام 2003. ثمة دولة عراقية تتشكل من جديد، بعدما قرر الأميركيون الخروج من الصورة والمسؤولية وترك العراقيين يتدبرون أمورهم بأنفسهم وعلى طريقتهم الدموية. وثمة موازين قوى وتحالفات إقليمية جديدة تتبلور في ضوء ذلك القرار الاميركي المركزي.
وحسب اللغة المذهبية الدارجة هذه الايام بين السنة والشيعة فإن إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما، التي اجرت مراجعة شاملة لسياسة الرئيس جورج بوش العراقية خلصت الى الاستنتاج بضرورة التخلي عن حلفائها الشيعة العراقيين، والسماح بسقوط حكمهم المبني على فرضية الغالبية السكانية، التي ساهمت في تضخيم دور ايران ونفوذها الاقليمي على حساب الحلفاء العرب المتوجسين من خطر اقلياتهم الشيعية.
ومثل هذه المحصلة تعتمد على رد فعل شيعة العراق وما اذا كانوا سيتصرفون كميليشيات تخرج للانتقام من السنة ام انهم سيلتزمون بفكرة الدولة وأحكام السلطة التي يحاولون بناءها. وفي الحالتين لن يكون الاميركيون سوى مراقبين يحبذون الخيار الاول، لكنهم يمكن ان يسلموا بالواقع اذا ما ظهرت مؤسسات عراقية منضبطة، تعرف حدودها وتدرك التحديات التي ستظل تواجهها اذا ما ذهبت بعيدا في اتجاه ايران، والتحالف معها او الاعتماد عليها.
لا مبالغة ابدا في القول ان الهجوم الرهيب الذي تعرضت له بغداد هو غزو مضاد للعراق، كما هو في جانب منه ايضا ضربة موجهة الى طهران التي تمردت ولا تزال على الاميركيين والغرب عموما، والتي طالبت ولا تزال بموقع الشريك في العراق وفي اكثر من بلد عربي آخر امتد اليه النفوذ الايراني في السنوات الست الماضية، وصارت تعتبر نفسها قوة اقليمية عظمى، يديرها الآن رموزها الاكثر تشددا وتحديا، ويدعمها برنامج نووي طموح وضعها في مواجهة العالم كله.
الهجوم على بغداد هو أشبه بحرب جانبية على طهران، او ربما بمقدمات الحرب الفعلية التي باتت اقرب من أي وقت مضى، بعدما حسم الايرانيون امرهم في اعقاب الانتخابات الرئاسية الاخيرة، وأقفلوا جميع ابواب التفاوض مع الاميركيين والغرب. ثمة مجال للافتراض ان ما جرى في العاصمة العراقية هو الرد الاولي على التحول السياسي الجوهري الذي شهدته طهران في مؤسسات الحكم الدينية والامنية، في اعقاب التحدي الاستثنائي الذي مثله الاصلاحيون.
انها حرب العراق الثانية او الثالثة، التي يتوقع ان تغير وجه المنطقة كلها، ربما اكثر مما فعلت الحربان السابقتان اللتان كانتا بمثابة زلازل مدمرة شعر بها العرب والمسلمون في كل مكان. هذه المرة ستضطرب جميع خطوط التماس بين السنة والشيعة في مختلف بلدان التعايش بين اتباع المذهبين اللذين عثرا مؤخرا على ابشع الطرق وأشدها التواء للوصول الى الجنة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى