صفحات العالم

فلنقارب عقلانياً ضبابية المنطقة وتموضعاتها المرتبكة

حسن شامي
قد لا يكون مستهجناً أن يغلب على العلاقات الدولية، من حيث المبدأ، وجه القراءة المعيارية ولغتها. ذلك أن العلاقات بين الدول تفترض تعريفاً، وجود كيانات سيادية ناجزة أو شبه ناجزة تتمتع على نحو متكافئ بصفة سياسية وحقوقية، مما يستدعي اقامة قواعد ومعايير لتنظيم وضبط العلاقات بينها على أسس عقلانية، بغض النظر عن منطق (أو عدم منطق) التمثيل السياسي وطرائق حيازته في هذا البلد أو ذاك.
يمكن القول، في هذا المعنى، ان الدول المنتظمة والممثلة في هيئة الأمم المتحدة تتمتع كلها بحقوق متساوية مبدئياً في مجال التمثيل والسيادة القانونية، كما يتوجب عليها، بالتساوي أيضاً، احترام المرجعية الدولية والتصرف مفترضة رسوخ معاييرها وصلاحية هذه المعايير للتحكيم بين الدول في الحرب والسلم أو لدى اضطراب العلاقة بين دولة وأخرى، بل حتى لدى بلوغ الاضطرابات الداخلية في بلد ما حد تهديد العلاقة مع بلد مجاور أو أكثر.
يبدو هذا التوصيف، للوهلة الأولى، مثالياً، ويمكن لفقهاء السياسة وخبرائها أن يعتبروه مغالياً في المثالية ما دام يستبعد أو يغفل وجه القوة ويفترض التكافؤ حيث تنعدم شروطه وعناصره. والحال أن واقع العلاقات الدولية، قديماً وحديثاً، لا يسعه فحسب أن ينقض التوصيف النظري المعروض أعلاه، بل يسعه تقديم ترسانة من الشواهد والأمثلة التاريخية والراهنة التي تجيز لدى أنصار الواقعية الشائعة والمتداولة في أيامنا، اعتبار مثل هذه النظرية ثمرة مخيلة مريضة تكافئ الضعف والعجز وقلة الحول بادعاء التسامي والتشبث بلاغياً بعالم أثيري تنمو فيه المثل من دون أن تتوافر مادة النمو.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. ويستحسن، قبل الخوض في الملابسات والتعقيدات، أن نشدد على أن التعارض أو التقابل، بين النظرتين، ليس مطلقاً. فما يحسبه البعض تعارضاً قد يكون في الحقيقة حصيلة تباين في زاوية النظر واختلاف في مواقع القراءة.
ومن المعلوم ربما أن الوجه الأبرز للحداثة كعنوان لديناميكية فكرية ومجتمعية يقـــوم علــى ادخال تمايزات بين مستويات القراءة والتناول والبحث وتطوير أدوات المعالجة البحثية الى حد الاختصاص ومناسبته للغرض وللنصاب الذي تندرج فيه الظواهر والوقائع، بل حتى احتمالات قراءة وتأويل ظاهرة معينة أو موضوع معين من زوايا وفي مناظير مختلفة. فلا تقرأ السياسة بمفاهيم النقد الأدبي وأدواته، كما لا يقرأ الاقتصاد بمفاهيم ومصطلحات الفن التشكيلي الا على سبيل التمرين البلاغي والأسلوبي.
باختصار، لكل موضوع نصابه المخصوص، على أن اختصاص كل حقل أو نصاب بأدوات ومفاهيم تناسبه لا يقفل الباب أمام تلقف العاملين في حقل معين، تلقف تأثير أو استلهام أو تطويع، لمفاهيم ناشئة في حقل آخر.
هنــاك بطبيعــة الحال ظواهر أو مواضيع عامة تحتمل غير قراءة، كالدولة مثلاً. فرجل القانون يقرأ ويدرس نشاط الدولة وطريقة عملها لمعرفة مدى اتصالها، قرباً وبعداً، بالمثال المعياري لشخصيتها القانونية والحقوقية. أما عالم الاجتماع فيقرأ النشاط ذاته من زاوية اتصاله وتأثيره بالتنظيم الاجتماعي وبأنشطة الفئات الاجتماعية. وينطبق هذا على العلاقات الدولية.
وقد سبق لأحد شيوخ علم الاجتماع، وهو الألماني ماكس فيبر، أن ميز قبل قرن تقريباً بين نشاط عقلي من حيث القيمة، ومنه الدين مثلاً، وبين نشاط عقلي من حيث الغاية، ومنه استراتيجيات السيطرة والمصلحة في الدول الحديثة. ولم يفت العالم الألماني أن يشدد على أن الحدود بين نمطي النشاط هذين تبقى في الواقع مطاطة ومتحركة. فمن الصعب أن تلتزم الممارسة والسلوكات بمقتضيات كل نمط بالكامل وحصراً. على أن ارتسامهما كنموذجين مثاليين، من بين نماذج مثالية أخرى عزيزة على ماكس فيبر، يسمح بقياس، وبتقدير حظوظ انتشار ونمو كل نمط مما يتيح امكانية فهم الظواهر والممارسات والتبدلات التي تشهدها أو تتعرض لها.
قد يكون هذا المدخل مفيداً لفهم ولمقاربة الانطباع العريض عن دخول منطقة الشرق الأوسط في طريق يلفه الضباب والغموض. ويستدل على هذا من حالات اعادة التموضع المتعلقة بسياسات بلدان أو بتيارات وشخصيات سياسية ذات وزن محلي، وأحياناً اقليمي، هذا بغض النظر عن حكم القيمة الذي يمكن اطلاقه على هذه الحالات، بالجملة أو بالمفرق.
ففي لبنان تكاد تتفق تصريحات المسؤولين السياسيين وتعليقات الاعلاميين على أن تأخر الاعلان عن تشكيل الحكومة يعود الى اضطراب التموضعات الاقليمية، وان كانت العوائق المحلية تلعب دوراً في التأخير.
زيارة الرئيس المصري حسني مبارك الى واشنطن حملت هي الأخرى اشارات الى تموضع لا يخلو من مقايضة. فعلاوة على التقائه واجتماعه مع ممثلي ثماني منظمات يهودية بينها «ايباك» التي تمثل اللوبي المؤيد لإسرائيل في واشنطن، لمح الرئيس المصري في مقابلة مع شبكة «بي بي اس» التلفزيونية الأميركية الى أن سورية ساهمت في عرقلة الجهود التي تبذلها مصر لتحقيق الوفاق بين «حماس» والسلطة الفلسطينية،
وقال ان هناك صلات بين جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر و «حماس» و «حزب الله». وانتقد الدور الإيراني السلبي في لبنان وفلسطين. أما موضوع المقايضة فهو أقرب الى المسكوت عنه اذ يتعلق بتوريث الرئاسة الى ابنه، الأمر الذي حرص مبارك وبعض مرافقيه على استبعاد ان يكون من بين اهداف زيارته الرسمية.
الاضطرابات التي شهدتها إيران أخيراً بين الاصلاحيين، والمحافظين هي من مفاعيل الضباب وعوارضه أكثر مما هي من مسبباته. وكذلك التصريحات الاسرائيلية حول لبنان والاستيطان، والمفاوضات مع الفلسطينيين، واتسام هذه التصريحات بقدر من التضارب والتباين، والضباب يلف أيضاً أوضاع العراق وافغانستان وباكستان.
لنقل ان الضباب هذا، يجد مبدأه ومداره في التبدلات الاستراتيجية – السياسية التي تسعى ادارة الرئيس الاميركي الجديد الى ادخالها من دون أن تتضح مادتها وحدودها. بعبارة أخرى، ما كان اركان الادارة السابقة ومحافظوها الجدد يسعون الى ترسيخه كنشاط عقلي من حيث القيمة في العلاقات الدولية، أي اشبه بعقيدة دينية وخلاصية، تعرضت لمراجعة تحاول جعله نشاطاً عقلياً من حيث الغاية.
وهذه المراجعة يشوبها قدر من التردد والمــراوحــة، مما يبث ضباباً في العلاقات الدولية ويحض على تموضعات مضطربة ومرتبكة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى