صفحات العالم

مآسي العراق ولغاته الاتّهاميّة

حازم صاغية
هناك ما هو أسوأ من الأعمال المجرمة الفظيعة التي ارتُكبت حديثاً في العراق: إنّه اللغة الاتّهاميّة في انقسامها المذهبيّ. فهذا، والحقّ يقال، أحد أسباب تلك الفظائع.
فلنلاحظ لغات اتّهاميّة ثلاثاً تهبّ في وقت واحد وتصطدم واحدتها بالأخرى على نحو رأسي:
فهناك، أوّلاً، من يتّهم تنظيم «القاعدة» و «حزب البعث» أو «فلول البعثيّين». لكنّ مصدر الاتّهام لا يخفي هويّته الشيعيّة الصريحة أو المداورة، علماً أن «القاعدة» و «فلول البعثيّين» مرشّحون دائماً، بالتعريف وبطبيعة الحال، لتنفيذ ارتكابات كهذه.
وهناك، ثانياً، من يتّهم أطرافاً أمنيّة داخل السلطة، أو يلمح إلى النظام الإيرانيّ. ومصدر الاتّهام، هنا، سنّـيّ، أتجسّد في أحزاب أم في شخصيّات عامّة، علماً أن إيران وبعض القوى المتغلغلة في السلطة ببغداد مرشّحة، هي الأخرى، وبطبيعة تركيبها، لتنفيذ تلك الارتكابات.
بل ربّما كانت «القاعدة» و «فلول البعثيّين» و «الأطراف الأمنيّة داخل السلطة» ومعها نظام إيران، كلّها مشاركة، ولو لأهداف مختلفة، في الجرائم، الأخيرة منها والتي سبقت.
إلاّ أنّ المعادلة التي تكاد لا تخطئ، حيث السنّة يتّهمون قوى شيعيّة، والشيعة يتّهمون قوى سنّيّة…، تقول إنّ كلاًّ من الطرفين يرى في الآخر سبب موته الجماعيّ. ولنا أن نستنتج، بعيداً من كلّ تزويق «أخويّ»، أن كلاَّ من الطرفين يتمنّى توجيه سهم الموت إلى صدر الآخر.
وسط هذه المأساة المتمادية، والكاشفة حجم اهتراء المجتمع العراقيّ ومدى تخلّعه، تواظب اللغة الثالثة، المؤدلجة، توجيه نداءاتها المحمومة: إنّهم الأميركيّون الذين فتّتوا العراق بعدما كان موحّداً ومنسجماً على نحو يضاهي فيه وحدة الفردوس وانسجامه!
وهذا مردّه، بالطبع، إلى الشرّ الأصليّ والمتمكّن والجوهريّ الكامن في الأميركيّين الذين لا يريدون للعراق أن يتوحّد ويتقدّم ويصير ديموقراطيّاً، وهم طبعاً لا يريدونه أن ينتسب إلى «أمّته العربيّة والإسلاميّة». لا بل يُستبعَد، والحال هذه، مجرّد التفكير في أن تقتضي المصلحة الأميركيّة سلم العراقيّين!
وهؤلاء النقّاد لا يستوقفهم واقع ولا تعنيهم وقائع كان آخرها أن الجرائم الفظيعة إنّما حصلت بعيد انسحاب الأميركيّين وإقدام السلطة العراقيّة على إزالة الحواجز والسواتر من مكامن الخطر. ولنا، ولو بين مزدوجين، أن نضيف أن الحكومة نفسها، ولو من موقع مختلف، شريكة في هذا الضلال الإيديولوجيّ: يصحّ هذا خصوصاً في استعجالها التبشير بفجر وطنيّ ساطع وموحّد يتمّ الإيحاء بأنّها هي التي أطلعته. لا بل أتت الإزالة المستعجلة للسواتر والحواجز تعكس مثل هذا الضلال الإيديولوجيّ ولو ضمناً. فالفعل المذكور يفترض أن العنف كان ردّاً على الوجود العسكريّ الأميركيّ، ولهذا لا بدّ من أن يفضي انكماش الوجود ذاك، تمهيداً لانتهائه كليّاً في 2011، إلى تقلّص العنف الإرهابيّ، ومن ثمّ انتهائه، المرفق بانبلاج صبح الوطنيّة العراقيّة!
هكذا يلتقي الجميع عند رفضهم إخضاع المجتمع العراقيّ وثقافته (قل: مجتمعاتنا وثقافاتنا) للاتّهام. ذاك أن عملاً كهذا يقود حكماً إلى استقالات طوعيّة وجماعيّة من مهمّات وأدوار كثيرة كلّها، بالطبع، جليل ومصيري! ويمضي الموت والدم في سيرهما محاذيين تعصّباً قاتلاً وتأويلات هي إمّا سيّئة النيّات أو عمياء، إضافة الى سذاجة وطنيّة مفرطة. ويبحر العراق وسط محيط يختلط الدم فيه بأمواج موحلة، ويروح يوالي الغرق فيما تتكاثر الأوصاف التي تُغدَق على برّ الأمان الموعود.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى