هدف تفجيرات بغداد: نسف العملية السياسية
كامران قره داغي
تشكل التفجيرات الإرهابية الأخيرة في مدن عراقية، خصوصاً التفجيرات الستة المتزامنة في بغداد الأربعاء الماضي والتي أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى، إضافة الى سقوط قذائف هاون عدة قرب مكاتب الأمم المتحدة داخل المنطقة الخضراء، نقلة نوعية مقلقة في مسلسل العمليات الإرهابية المتزايدة منذ انسحاب القوات الأميركية من المدن الى خارجها في 30 حزيران (يونيو) الماضي، تنفيذاً لاتفاق وضع القوات بين العراق والولايات المتحدة.
كيف بغير ذلك يمكن وصف أحداث الأربعاء الماضي في بغداد؟ إذ إن التفجيرات هذه المرة لم تكن عشوائية تستهدف مسجداً أو حسينية أو كراجاً أو سوقاً أو موكباً خلال عزاءات شيعية. تفجيرات الاربعاء استهدفت في آن، وللأسف بنجاح، مواقع حساسة توصف بأنها سيادية في قلب العاصمة، وتحديداً وزارتي الخارجية والمال ومقر مجلس المحافظة وجامعة المستنصرية وجسراً رئيساً يربط اثنين من أحياء بغداد المهمة، اليرموك والبياع.
لكن قنابل الأربعاء تحديداً لم تفجر مواقع وأبنية وتزهق الأرواح فحسب، بل فجرت أيضاً أوراماً في جسد السياسة الأمنية للحكومة. طبعاً لو ان مثل هذه الكارثة وقعت في بلد اوروبي لأطاحت رؤوساً عدة أقلها رأس وزير الداخلية، وربما استقال رئيس الحكومة نفسه، من دون ان تجنب الاستقالات مساءلة الجهات المسؤولة عن الأمن امام البرلمان أو امام لجان متخصصة تشكل فوراً للتحقيق في المسؤولية. نقول هذا استدراكاً، إذ الأرجح ان شيئاً من هذا لن يحدث في بلد لا تنطبق عليه بعد صفة دولة القانون.
في اي حال بدا واضحاً ان تفجيرات الأربعاء أثارت ارتباكاً وتخبطاً في صفوف الأجهزة الأمنية المعنية. ففي أول تعليق لمسؤول أمني بارز اعتبر الناطق باسم قيادة عمليات بغداد اللواء قاسم عطا ان وسائل الاعلام سعت الى تضخيم الأمر، مشيراً الى ان ما حدث لم يكن سوى انفجارين وليس أكثر. ولم يمض سوى وقت قليل حتى عاد الناطق نفسه ليعترف ضمناً بحجم الحدث بإعلانه أن تحقيقاً عاجلاً سيفتح في شأن الاختراقات الأمنية التي أدت الى التفجيرات الدموية. أما وزير الأمن الوطني شروان الوائلي فوصف الانفجارات بأنها «بائسة ومتوقعة ومحاولة من قيادات الجماعات المسلحة لرفع معنويات الذين ينتمون اليهم». يا له من عزاء للمفجوعين من ذوي الضحايا؟ ثم لم تمض ساعة اخرى حتى أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي، المسؤول الأول عن الملف الأمني في العراق بصفته القائد العام للقوات المسلحة، وجوب اجراء مراجعة كاملة للخطة الأمنية.
اسئلة كثيرة تطرح نفسها. لماذا سمحت الحكومة لنفسها بأن تضخم قدراتها في السيطرة على الوضع الأمني الى حد انها أقدمت على إزالة الجدران الكونكريتية والغاء نقاط التفتيش والسيطرة في مناطق وشوارع أمكنت حمايتها بفضل تلك الجدران والنقاط الأمنية؟ لماذا أقدمت الحكومة على اجراءات كهذه قبل الأوان والتأكد من انها قادرة فعلاً على ضبط الأمن من دون حاجة الى الجدران العازلة ونقاط السيطرة الأمنية، ولو انها كانت تثير الازعاج وتعرقل حركة الناس ووسائل النقل؟ كيف سمحت الأجهزة الأمنية لنفسها بالمبالغة في قدرتها على ضبط الأمن ومنع الاختراقات واستباق تحركات جماعات، مثل حزب البعث، تمتلك القدرة على التخطيط والتنظيم، بينما هذه الأجهزة ما زالت تفتقر الى القدرات الاستخباراتية التي تصعب من دونها مواجهة العمليات الإرهابية؟
الشاحنة التي انفجرت أمام وزارة الخارجية كانت محملة متفجرات تزن طناً ونصف طن، الأمر الذي يطرح السؤال: كيف أمكن تمرير هذه الكمية من المتفجرات في الشاحنة التي رُكنت قبالة الوزارة قبل تفجيرها لتلحق كل ذلك الدمار المادي والبشري بالبناية؟ الاحتمال الوارد هو ان ذلك لم يكن ممكناً لو أن الجدران والحواجز الكونكريتية ظلت في مكانها.
وقد وجه مسؤولون حكوميون وأمنيون وأعضاء في البرلمان أصابع الاتهام الى حزب البعث وتنظيم القاعدة، علماً ان اي جهة لم تتبن مسؤولية التفجيرين، ويُشك في ان تفعل ذلك. يُقال هذا من دون استبعاد ان يكون هذان الطرفان، البعث والقاعدة، مسؤولين حقاً عن التفجيرات، خصوصاً انها لم تتم عشوائياً، بل تمت بالتزامن وبطريقة تميزت بالدقة واستهدفت مواقع مهمة، موجهة رسالة واضحة مفادها ان الحكومة لا تملك القدرة على فرض الأمن وأن الجهات المنفذة للتفجيرات قادرة على أن تضرب كما تشاء.
قبل انسحاب القوات الأميركية من مدن العراق، كان كثيرون يؤكدون ان وجود هذه القوات عامل مساعد في إثارة الاستفزاز واستدعاء العمليات الإرهابية. ما حدث يكاد أن يكون العكس. ففيما انحسرت العمليات الإرهابية الى حد كبير خلال الاشهر التي سبقت انسحاب القوات الأميركية من المدن، عادت هذه العمليات الى التصعيد بعد الانسحاب، الأمر الذي لا يدعم هذا الافتراض.
والخشية هي انه في حال استمر التدهور الأمني قد يأتي يوم تضطر فيه بغداد ان تطلب عودة القوات الأميركية الى شوارع العاصمة ومدن عراقية أخرى فيأتيها الجواب بالرفض.
في اي حال حسناً ستفعل الحكومة بإجراء مراجعة جدية للخطة الأمنية. لكن ما لا يقل اهمية عن ذلك هو مراجعة الأجهزة الأمنية نفسها إن على صعيد هيكليتها او على صعيد المسؤولين عنها. مهم أيضاً ان تأخذ القيادة السياسية المسؤولة عن الملف الأمني في الاعتبار القدرات والامكانات الواقعية للأجهزة الأمنية وتتجنب المبالغة في حجم هذه القدرات.
يُقال هذا كله مع تأكيد ان الخطر الأكبر يظل متمثلاً في ان تفجير الوضع الأمني بالقنابل سيقود في النهاية الى تفجير العملية السياسية برمتها. وتجنب حدوث ذلك هو التحدي الأكبر الذي تواجهه القيادات السياسية في العراق.
الحياة