صفحات العالم

من هم قتلة بغدادنا؟

هيفاء زنكنة
يوم عزاء آخر يضاف الى ايامنا. كم هي أيام العزاء والمآتم والمناحات في عراقنا الآن؟ هل بلغنا المائة يوم في العام؟ كل عام؟ وماذا لو بدأنا بقراءة اسماء (بماذا نسميهم؟) الشهداء أو الضحايا او الموتى أو القتلى… كم اصبح عددهم؟ متى ننتهي من قراءة اسماء ما يزيد على المليون قتيل، هل سننتهي وهي تزداد يوميا؟
جاء يوم الاربعاء المصادف 19 آب (أغسطس) الى بغداد المنهكة، قيظا ويأسا، حاملا معه تفجير المفخخات والقصف بالصواريخ والمدفعية، في مختلف ارجاء بغداد: مجمع الصالحية السكني، في منطقة الوزيرية، في منطقة البياع جنوبي بغداد وشارع عمر بن عبد العزيز في الاعظمية بالاضافة الى مباني قلعة المستعمر الحصينة. ولأن المستعمر المحصن منغرز في قلب بغداد، سقط الضحايا من المواطنين. وبدلا من عبير القداح ورائحة التراب في لحظات البلل الاولى بقطرات المطر، وما يتجاوز الزمان والمكان ليبقى متجذرا في داخل الانسان مهما ابتعد، وجدت بغداد نفسها تغسل بالكافور وهي لا تزال حية.
من هم القتلة؟ أصحيح ما يريدون اقناعنا به بانه العنف في داخلنا اتيحت له فرصة النمو فنما، وان القتلة هم ‘نحن’ المتعطشون الى دفن أمنا بغداد وهي حية؟ هل توأد المدن كما البنات كما الامهات؟ هل صحيح اننا نقتل احبتنا ثم نسيرفي عزائهم نائحين، لاطمي الوجوه والصدور، نقرأ الرثاء لألف عام مقبل؟ هل هي الخطيئة الأصلية أم الخديعة ألاصلية نتوارثها ونورثها لان في اعادة تصنيعها، كالأوثان، ربحا مستديما، أم اننا تسربلنا باكاذيب الغزاة وابنائهم عن قسوتنا حتى صار التضليل جلدا ثانيا؟
يوم الاربعاء، وهو لا يختلف عن ايام الاسبوع الأخرى منذ ‘التحرير’ الا بازدياد القتلى ودماء الضحايا، بلغ عدد الضحايا مائة شهيد و700 جريح، حسب ممثلة الصليب الاحمر الدولي (والجرحى في مستشفيات العراق الجديد هم مشروع موت). وبينما تم سحب الضحايا من تحت الانقاض عزف المستعمر الامريكي وابناؤه ونوابه، نياحة ‘أن الوضع في العراق لا يزال هشّاً… لكن تخطي هذه المحنة ممكن والأمل باستقرار العراق لا يزال كبيراً’. ويواصل، حتى اللحظة، سياسيو الاحتلال تكرار الحديث عن هشاشة الوضع كأنه قدر الهي تاريخي لا يقتضي ان يفعل احدهم شيئا ازاءه غير النياحة.
من هو القاتل؟ من هم قتلة الشعوب الذين يصفون شعوب البلدان المحتلة بالهمجية و’انهم يقتلون بعضهم البعض’ ليبرروا جرائمهم؟ هل هم ابناء أمريكا، ذلك البلد الذي وصفه الكاتب الايرلندي اوسكار وايلد قائلا: ‘انها البلد الوحيد الذي انتقل من الهمجية الى الانحطاط بدون المرور بالحضارة’؟ ألكي يغطي حالة العار هذه سارع الناطق العسكري الامريكي، ناسيا انه كان قد انسحب من المدن وسلم السيادة الى ‘الحكومة العراقية’ للمرة الثالثة، ليكون من اوائل المتفوهين بإدانة ما حدث وابداء القلق والتأكيد على ‘حرص’ امريكا على مستقبل العراق؟ وبعد السيد جاء دور الصنّاع. مثل كرة قدم بين لاعبين متنازعين، كل لاعب يمثل فريقا، انبعثت الاتهامات من افواه يعرف اصحابها بانهم يتمتعون بالعصمة من دماء الضحايا وان ما من جريمة قتل او اعتداء على مواطن قد تم التحقيق فيها ومعاقبة المجرمين. وكيف تتم معاقبة مرتكبي الجرائم اذا كانوا هم من صلب العملية السياسية الاستعمارية التي نخرها الفساد والاقتتال على المناصب والحصص والعقود والتغريد بحمد المستعمر؟
فمن هم القتلة؟ أكد الناطق باسم خطة فرض القانون اللواء قاسم عطا في تصريح صحافي له بانهم ‘التحالف البعثي التكفيري’. ومثل طيب الذكر وزير الاعلام السابق محمد سعيد الصحاف الذي وقف متحديا ان تطأ دبابات الغزاة ارض بغداد بينما نقلت اجهزة الاعلام صورتها وهي واقفة وراءه، قال عطا ان تفجيرين فقط حدثا في بغداد وان هناك اجهزة اعلامية تتآمر على العراق الجديد وتبالغ في نقلها الاخبار! واشار البعض الى مسؤولية المجموعات الخاصة العاملة بإمرة اطراف مختلفة داخل بغداد غير ان جميعها مرتبط مع فيلق القدس الايراني. بينما أشار آخرون الى ‘القاعدة’ و’الارهابيين’. واتهم ممثل التيار الصدري ‘ازلام النظام الصدامي’، وان مر أيضا على ‘جهات في الحكومة الحالية’ وكأنه ليس جزءا لا يتجزأ منها. الا ان اقوى الاصوات هو صوت الناس القائلين بان التفجيرات هي حصيلة الخلافات بين سياسيي الاحتلال الطائفيين والعرقيين المتقاتلين على المناصب والعقود ‘المتنازع عليها’ والتي يريدون تثبيت حصصهم فيها للسنوات الاربع المقبلة تحت غطاء الديمقراطية الانتخابية المصدرة خصيصا لبلدنا. ومن بين آلام الناس وجراحهم ينبعث الصوت الاقوى متسائلا عن مسؤولية ‘الحكومة’ وواجباتها تجاه المواطنين الذين رفع بعضهم اصبعه البنفسجي أملا في ان تحقق له الامان والطمأنينة والكرامة، فما هي مسؤولية الحكومة تجاه التفجيرات القاتلة والضحايا وعوائلهم؟
بدا ‘رئيس الوزراء’ نوري المالكي مثل خيال المآتة في حقل أجرد وهو يدعو ‘قوات الجيش والشرطة الى اتخاذ أقصى درجات اليقظة والحذر والضرب بقوة على قوى الشر وبقايا حزب البعث المنحل’. ولعل المالكي يمر بنوبة خرف مبكر حين يذكر بان ‘الحكومة لن تتراجع عن حماية العراق وأمنه وسيادته مهما بلغت التحديات… وان هذه التفجيرات تهدف إلى إعادة البلاد الى مربع الفتنة الطائفية وإعاقة جهود عملية البناء والإعمار في البلاد’. فعن اية حماية وبناء واعمار يتحدث؟ هل هو يتحدث عن العراق الذي ساهم وحزبه بتخريبه واشاعة الطائفية والفساد فيه الى حد استباحة كرامته وحرمة بيوته ومساجده وعرض بناته؟
وأدلى ‘رئيس الجمهورية’ جلال الطالباني بدلوه، مثل عجوز يتأرجح ما بين اليقظة والمنام، مؤكدا على ‘أهمية ترسيخ العمل المؤسساتي في كل مفاصل الدولة والإسراع باتخاذ الإجراءات اللازمة والكفيلة بتثبيت الأمن والإستقرار داخل البلاد’. وهي جملة تشبه علب الطعام الفارغة لا تصلح لغير الرمي جانبا. ومن المضحك المبكي الاصغاء الى تصريحات بقية ‘المسؤولين’، فها هو المفتش العام في وزارة الداخلية عقيل الطريحي، في حديث لـ’راديو سوا’، يقلل من أهمية التفجيرات رافضا اعتبارها دليلا على تراجع المستوى الأمني في البلاد، بل وبلغ به الاستخفاف بعقول الناس حد وصف التفجيرات بالأمر الطبيعي الذي يقع في أية دولة! فيما أكد مستشار المالكي لشؤون المصالحة الوطنية محمد سلمان أن الهجمات الأخيرة كانت متوقعة! وكأن توقعها ينفي عن المسؤولين مسؤوليتهم ويغسل ايديهم من عواقب الجرائم المرتكبة، بينما تنص كل القوانين على ان الجرم المخطط له مسبقا يعاقب بصورة اشد من الجرم غير المخطط له. فاذا كانت الجرائم ضد المواطنين متوقعة، فلماذا لم تقم ‘الحكومة’ بدورها في حماية حق حياة المواطن؟ الا يجعلها الاهمال، وفي احسن الاحوال مراقبة ما يجري وعدم اتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع حدوثها، شريكا في الجرائم، خاصة وان كل مسؤولي الحكومة يزمرون ويطبلون منذ شهور بـ ‘جاهزية القوى الأمنية’؟
ان حق الحياة هو الحق الاول والأهم في كل التشريعات السماوية والقانونية والحقوقية، وواجب حماية حق حياة المواطن تضعه هذه التشريعات على الحكومات الوطنية وكما تؤكد مواثيق الامم المتحدة: ‘ويجب على الحكومات حماية حقوق الأفراد، أي ضمان ألا تُنتهك هذه الحقوق من جانب أشخاص آخرين أو هيئات أخرى. وأنها يجب أن تفي بحقوق الشعوب، وجعلها حقيقة واقعة في الممارسة’. وهذه من بديهيات مسؤولية الدولة والحكومة الوطنية المستقلة التي تمثل ابناء الشعب، على كل المستويات، وتعمل على تحقيق العدالة والمساواة. وقد اثبتت سنوات الاحتلال والاستعمار الجديد ان الحكومات المتعاقبة واحزابها، بسبب طبيعة تكوينها وظروف نشأتها، عاجزة عن القيام بأي عمل مجد لصالح العراق وشعبه، وان ‘هشاشة’ الوضع الأمني سببها وجودها المعجون بالوجود الاستعماري، واذا ما استمر التخريب البشري المتعمد كما هو من قبل المستعمر واعوانه، لن تعود المسألة بالنسبة الى المواطن العراقي (كما قال فرانز فانون عن المواطن الجزائري) مسألة اعطاء معنى لحياته بل اعطاء معنى لموته.

‘ كاتبة من العراق
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى