أسطورة قدرات أمريكا غير المحدودة
ميشيل كيلو
لم يعرف التاريخ نظاما إلا وحاول إيهام رعاياه بأنه يمتلك قدرات غير محدودة، وأنهم بالمقابل على درجة من الضعف يجب أن تدخل اليأس إلى نفوسهم وتدفعهم إلى الاستسلام له.
ولم يحدث أن سيطرت دولة على سواها إلا وسعت إلى إقناعه بأنها ذات قدرات لا تنضب، بينما هو ضعيف لا حول له ولا طول، تتطلب الحكمة ومصلحته أن يضع أمره في يدها.
ومع أن التاريخ لم يعرف بعد نظاما نجح في تخطي حقيقة أن لكل كائن سياسي أو بشري عمرا لا يتجاوزه، ولم يعرف دولة تخطت فترة الانحدار الحتمي من تطورها، ونجحت في أن تبقى مسيطرة أو مهيمنة، فإن أسطورة القدرات غير المحدودة، التي تروجها السلطات المختلفة داخل أراضيها، والدول المسيطرة خارجها، ظلت حية.
كررت الولايات المتحدة، بعد انهيار السوفييت، فكرة لطالما رددها في القرن العشرين هتلر، حين زعم بصورة يومية أنه يقيم إمبراطورية جرمانية ستعيش ألف عام، ورددها ستالين، الذي ورث نظامه الأرض ومن عليها، وقيل إنه يفتتح تاريخا جديدا، أبديا، هو آخر نظم البشر على الأرض. قال قادة أمريكا: إن بلدهم يملك إمكانات غير محدودة، بينما يملك الآخرون جميعهم إمكانات محدودة إلى حد الضآلة، وأضافوا بثقة شديدة بالنفس: إن أمريكا هزمت كل من عاداها أو عادته، وستتحكم -من هزيمة السوفييت فلاحقا- تحكما كيفيا بالبشرية، وستعين مصير ودور كل من يقيض له العيش في زمانها، وستتمكن بسهولة من خوض حربين متوسطتي الشدة في مكانين متباعدين من العالم، دون أن تتعب نفسها أو تفقد القدرة الميدانية على ردع أية قوة أو دولة تظن في نفسها القدرة على تحديها. قال هؤلاء أيضا: إن بلدهم فرد فوق الكرة الأرضية شبكات علاقات ومصالح ستحدد طابع العلاقات الدولية إلى زمن غير محدود، وإن ثقافته الشعبية غدت عالمية إلى درجة لم تصل إليها أية ثقافة أخرى خلال التاريخ، ومثلها طريقته في العيش، التي صارت ببساطة طريقة عيش البشر في كل موقع ومكان، مهما كان موقفهم منها، وسواء قبلوها أم رفضوها، وإذن:
– على الآخرين الاستسلام لما تقرره واشنطن، ليس لأنهم لا يستطيعون مقاومته وحسب، بل لأنه في صالحهم أيضا، فأمريكا، التي ستكون أول حكومة عالمية في التاريخ، لا يعقل أن تفعل ما يضر برعاياها، دولا كانوا أم أفرادا، ومن واجب هؤلاء إظهار الولاء لها باعتبار أن لها أولية على حكوماتهم الوطنية، التي صارت مجرد حكومات محلية، بينما أمريكا هي حكومتهم الكونية، المسؤولة عن إدارة العالم وتوزيع أرزاق البشر وتحديد مصائرهم. ومن لا يستسلم لها سيعد عاصيا يتمرد على حكومته الشرعية، وسيعاقب دون رحمة، على أن ينال المطيع ثواب طاعته.
– لا يجوز أن تتوقف قدرات أمريكا عند أي حد، وطنياً كان أم أجنبياً، وأن تقر بأية مصلحة لا تنبثق من مصلحتها، أو تحترم قانونا غير قانونها، أو إرادة غير إرادتها، بما أن الحقبة القادمة من تاريخ البشرية تختلف اختلافا نوعيا عن الحقب، التي انتهت إلى بلورة الدولة الوطنية فالقومية، ونجحت، بعد محاولات كثيرة فاشلة تواصلت على مر التاريخ، في إقامة دولة/ عالم تجب ما قبلها، فمن الطبيعي والضروري أن تفرض سلطانها وسطوتها ومصالحها عليه، باسمه ولصالحه.
والآن: إذا كانت أبدية الإمبراطورية الرومانية قد دامت قرابة ألف عام، وأزلية الإمبراطوريات الأقدم والأحدث قد استمرت بضعة قرون، فإن أبدية السيطرة الأمريكية على العالم شرعت تتهاوى بعد عقود تعد على أصابع يد واحدة، كذبت ادعاء قادتها بأن العالم صار ذا قطب أوحد. والطريف، أن هذه النهاية السريعة لم تأت على يد إمبراطوريات أو دول امتلكت من عناصر القوة ما جعلها تفرض نفسها ندا أو وريثا لأمريكا، بل أتت على يد شعبين متخلفين اقتصاديا واجتماعيا وتقنيا وسياسيا، هما شعب العراق وأفغانستان، اللذان نجحا في مناطحة جيش أمريكي جبار أقوى منهما بكثير، وصمدا في وجهه إلى أن أحس بالإعياء، وبدا منهكا لا يقوى على مواصلة ما بدأه، ناهيك عن كسب الحرب، فأخذ يبحث عن تسويات وحلول وسط كان قد أقام سياساته وخططه العسكرية على رفضها، وعجز عن إخافة قوى إقليمية صغيرة ومتوسطة، تحدته فتجاهل التحدي، بدل أن يسدد لها ضربات قاصمة لطالما ادعى القدرة على توجيهها إلى أي كان، ومهما كانت قوته.
لماذا تخلى أوباما عن سياسات بلده السابقة؟ أعتقد شخصيا أنه كان مجبرا على التغيير، فأمريكا استنزفت قوتها العسكرية في العراق وأفغانستان، وقوتها الاقتصادية في أزمة مالية طاحنة استهلكت جزءا كبيرا من مواردها، وزادت مديونيتها وحاجتها إلى استثمارات أجنبية ذات أحجام غير مسبوقة، وقلصت قدراتها السياسية بعد تورطها في صراعات عبثية مع بقية العالم، وحتى مع دول حليفة لها. لقد كان على أوباما أن يرجع عن طريق الضعف والاستنزاف والمغامرة، الذي لو واصل السير فيه لانهار بلده، فهو يقوم بمحاولة إنقاذية في ربع الساعة الأخير، ويريد رد دولته إلى وضع يعبر عن قدراتها الحقيقية، لا ينبع من اعتبارات أيديولوجية وحسابات جنونية، رغم بؤس الواقع الأمريكي. ألم يقل قبل أيام: إن اقتصاد أمريكا كان على حافة الانهيار؟
لن يواصل أوباما طريق بوش، ولن يأخذ بسياسات مجنونة تريد إركاع العالم. أما الرادع الذي سيمنعه من العودة إلى سياسات سلفه فليس أمريكيا بالدرجة الأولى، بل هو خارجي يضم بقية العالم، ومنه نحن، العرب الذين تضع حكوماتهم ثقتها في غيرها، وتتجاهل وتحتقر وتكبت قدرات شعوبها، متجاهلة درس العراق وأفغانستان، حيث بين شعبان متأخران، لكنهما مكافحان يدافعان عن استقلالهما وكرامتهما، حدود القوة الأمريكية وأثبتا أنها محدودة، وأن باستطاعة أي شعب مصمم على حماية نفسه التصدي لها. السؤال الآن: هل يتعظ حكامنا ويفهمون هذا الدرس الثمين، ويعاملون أمريكا معاملة الند للند، أم سيستمرون في خطب ودها ويلتزمون بها مرجعية شرعية لهم، فيفوتون الفرصة على أمتهم عامة، وفلسطين خاصة، للمرة الألف في تاريخنا الحديث والمعاصر؟
الخليج