القومية وأوهام ما بعد الحداثة!
طيب تيزيني
اتسعت الكتابات عن مجموعة من الظاهرات الفكرية والسياسية مع بداية عهد النظام العالمي الجديد. إلى ذلك، راح يبرز فريق من الكتاب العرب الذين نشطوا على هذا الصعيد. فإذا كان الأمر قد وضعنا فيما بعد التاريخ وفيما بعد الأيديولوجيا مثلا، فإن القومية كذلك غدت، بحسب هذا الطرح، حالة ما بعْدية، مُتَجاوَزة. ولعلنا لاحظنا أنه مع سقوط الاتحاد السوفييتي ونشأة النظام العالمي الجديد، راحت ظاهرة جديدة تُفصح عن نفسها بوتيرة قوية، هي ظاهرة الهُويّات الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية… في بلدان كثيرة. وجاء الرد الصاعق على الظاهرة القومية من موقع “ما بعد الحداثة”: لم يعد هنالك من منتجَات “العالم القديم” ما يمتلك المصداقية والحقيقة، لقد خرجت هذه جميعها من التاريخ، بعد أن استنفدت أغراضها وفقدت مسوغات وجودها. وهكذا بدأ خطاب التفتيت بعد التفكيك يُعمل سيفه في القومية وغيرها.
وأرى أنه من المهم أن نبحث في الانعكاس الفكري العربي الذي خلّفه ذلك الموقف المابعد حداثي، من الظاهرة القومية لدى باحثين وكتاب عرب، لأن هذا الأمر يمتلك خصوصية بالغة الحساسية، أيديولوجياً وتاريخياً ومعرفياً. فالعرب لم يحققوا أي إنجاز حقيقي ومستديم على الصعيد القومي، منذ العصور الحديثة وحتى الآن، مع أنهم انشغلوا بهذا الصعيد طويلا، وبذلوا من الجهود كثيراً، ويكفي القول الآن بأن تنظيراتهم في هذا الحقل أخفقت، وتطبيقاتهم فيه أسَفُّت. كأن الإخفاق التوحيدي العربي انقلب، على أقلام مجموعة من الباحثين والكتاب العرب، إلى مَناحة تنقلب إلى تحويل الواقعي إلى وهمي، تعبيراً عن عبثية الجهد الذي بُذل في ذلك السبيل.
وهذا ما يمكن أن نستشعر بعضه في بحث للسيّد ياسين حمل عنوان: “صراع الحضارات أم حوار الثقافات”، ينطلق فيه من “أيتيين باليبار” في دراسة تضمنها كتاب حول “العنصرية الجديدة”، جاء فيها أن “العنصرية الجديدة ترتبط عضوياً بالتعبيرات المفرطة عن القومية”. ويعقّب ياسين على ذلك، مُعلناً أن “القومية تستند الى ثلاثة أفكار تتكرر بصورة دورية، وكل منها ضرورية في السياقات المعاصرة، إلا أنها من الناحية الفكرية لا أساس لها من الصحة”. وحين يأتي على الفكرة الثالثة منها، يقول بأن “الفكرة الوهمية الثالثة عن القومية (تنطلق) من أننا كلنا ننتمي إلى أمة، والانتماء مثلُه في ذلك مثل المجتمع، تعبير قد يحتوي على إجابات خاطئة”. ويلاحظ هنا أن ياسين لا يلتزم بالشاهد الذي يأخذه عن “باليبار”، بل يتجاوزه باتجاه القول بـ “وهمية” الفكرة القومية عموماً، في حين أن ذلك الباحث الأوروبي يحدد مدى ارتباط القومية بالعنصرية الجديدة، في حال تحولت التعبيرات عن القومية إلى صيغ من الإفراط القومي، الذي قد نعبر عنه بمصطلح القوموي.
إن النقد الذي مارسه ياسين حيال القومية والفكرة القومية، يبدو هنا في توجُّهٍ ما بعد حداثي: لقد افتُضح الأمر، فهاتان الفكرتان برأيه وإن سيطرتا طويلا على الفكر العربي، إلا أنهما حالتان ذهنيتان أيديولوجيتان “لا أساس لهما من الصحة”. فهما -وفق ذلك- تعبيران أيديولوجيان عن واقع عربي مُلفَّق. ومن ثم، فهما زائفتان، أو اتضح أنهما زائفتان، بفضل الجهود التي تبذلها ما بعد الحداثة للتشكيك فيما وُجد سابقاً من أنماط أيديولوجية.
وليس معقَّداً أو شائكاً أن نضع يدنا على انتماء الموقف، الذي يأخذ به الأستاذ ياسين، إلى المنظومة الأيديولوجية للعولمة، الطامحة إلى إنهاء التاريخ حتى الآن والبدء بتاريخ جديد وحيد، هو ذلك الذي تحدّث عنه فوكوياما، ثم تحفظ عليه لاحقاً، وهو تاريخ الليبرالية الجديدة المتوحشة.
نعم، حين تكتسب القومية (العربية) صيغة الإفراط في التحدث عن “كائن طوطمي” ثابت يقف في الأصل وعند الجوهر، فإن الأمر يكتسب طابعاً قاصِراً بالاعتبار التاريخي المعرفي، وخطِراً بالاعتبار السياسي الثقافي. ها هنا، يصح القول بأن الدعوة إلى قومية عربية ديمقراطية البنية ومنفتحة على كل العالم، إنما هي تأكيد على حاجة العرب إليها بمثابة إطار قومي حضاري لها في عصر الاستباحة.
الاتحاد