سماح إدريس: دور المثقف الجمعي في كشف المسكوت عنه
مايا جاموس
د.سماح إدريس شخصية على درجة عالية من التنوع والغنى، وأكثر ما يقول عن نفسه إنه يؤمن ويطمح بما يسمى المثقف الجمعي أو المثقف العام. تراه يترك أعماله ويتفرّغ لتقديم أي دعم يستطيعه للشعب اللبناني خلال حرب تموز، أو لمناصرة الشعب الفلسطيني، داعماً في كتاباته كل أشكال مقاومة الكيان الصهيوني، ومكثفاً نشاطه في إصدار أهم نشرة لمقاطعة المنتجات والشركات الداعمة لإسرائيل؟
وغير ذلك هو يرأس تحرير (الآداب) آخر مجلة ثقافية فكرية مستقلة ذات توجه يساري قومي علماني، ويكتب الأدب للأطفال والفتيان. يخوض معاركه على جميع الجبهات: ضد الإمبريالية والصهيونية، والرجعية والتطرف السلفي، والاستبداد والرقابة، والمثقفين الانتهازيين والمتقاعسين.
– أين تريد أن يكون دورك الأساسي؟
أرى أن دوري هو حيث أستطيع أن أشارك، فإذا استطعت أن أشارك في السياسة والأدب وفي الكتابة للأطفال وفي النشاط السياسي المباشر فلمَ لا؟ المشكلة أن العمر ضيِّق، وأن المتطلبات الحياتية كثيرة، كما أنني لست جديراً بأن أقوم بكل هذه المهمات بالسوية نفسها. في السنوات الثلاث المقبلة سأركز نشاطي على إنجاز أكبر معجم عربي – عربي أعمل عليه مع والدي د. سهيل إدريس منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وسأسعى جاهداً كي تستمر مجلة (الآداب) التي تصدر منذ 57 عاماً، وما زلت أعتقد أن دورها مهم، وحتى لو لم يكن دورها مهماً فأنا أعتقد أن دور المجلة كمجلة ودور المثقف كمثقف يجب أن يستمر حتى لو لم يكن هناك حاجة.
أيضاً أنا أكتب للأطفال، وأعتقد أن هذه الفئة مغبونة ولم تنل العناية التي تستحقها على الإطلاق ممّن يسمَّون المثقفين العرب الذين استسهلوا الكتابة للأطفال واستخفوا الكتابة للفتيان والفتيات. أما نشاطي السياسي فقد أضطر إلى التخلي عنه لأنني أعتقد وللأسف أنه ليس هناك حياة حقيقية للسياسة في لبنان في الوقت الحاضر. أعتقد أن المجتمع منقسم انقساماً مخيفاً بين الطوائف وبين أزلامها، ربما قد يكون مفيداً أن أركز على الناحية الثقافية، إلا إذا أحسست أن هنالك توجهات جديدة داخل المجتمع فحكماً سأكون موجوداً.
– هل تعتقد أن هنالك إمكانية لانتعاش موجة اليسار في ظل أزمة الرأسمالية) الليبرالية الجديدة) وربما استقرار الموجة الإسلامية، هل من فرصة تلوح في الأفق؟
إن اليسار برأيي لا يزال يملك قاعدة ما، قد لا تكون شعبية وعريضة وكاسحة كما كانت في السابق في لبنان وسورية وفلسطين وإلى حد ما مصر، ولكنّ الآليات الموجودة حالياً ليست هي الآليات التي تؤهل اليسار لكي يطرح نفسه كمشروع بديل لليمين الحالي. أعتقد أن الآليات التي على اليسار أن يستخدمها مختلفة كلياً عن الآليات المطروحة في السوق، لا نستطيع أن ننافس على صعيد الإعلام الرسمي ولا على صعيد الصحافة الرسمية. يمكن من خلال الفن وعلى صعيد المقاطعة والتحركات الشبابية والتحرر الجنسي والكتابة الجديدة وعلى صعيد محاولة إبراز المسكوت عنه في المجتمع، مثل المرأة والمثليين والمخيمات الفلسطينية المقموعة في كل مكان، هناك مجالات لا يتطرّق إليها اليمين التقليدي، وعلينا أن نغطس فيها لا من قبيل الانتهازية ولكن لأنها جزء أساسي لا يتجزأ من مفهوم اليسار.
أعتقد أن مشكلة اليسار الآن هي أنه يحاول أن يجد له موقعاً داخل مؤسسات اليمين، وهو يعتقد واهماً أنه يستطيع أن يغيّر من الداخل، وهذا وهم كبير، فاليسار لا يستطيع أن يغير من داخل النظام، قد يستطيع أن يغير من داخل مؤسسات الدولة لأن هناك فرقاً كبيراً بين الدولة والنظام. وأنا لا أعيب على اليسار أن يدخل في بعض المؤسسات، أن يُنصت ويقوم بعمل ما، لكن يجب ألا ينسى دوره كأن يحفّز وينشط الآليات المستقلة والآليات الحزبية المختلفة المستقلة عن أجهزة النظام، لأنه مثلما يظن أنه يستطيع أن يغير النظام من الداخل، لكن النظام يستفيد منه بدرجة أكبر بكثير، وعليه فإن على المثقف اليساري والناشط الحالي أن ينتهج أساليب وطرقاً مختلفة عن الوسائل المتاحة الآن التي يكرسها النظام الحالي.
– هل يوجد لديكَ مراجعة على الصعيد الشخصي للفكر القومي واليساري والقضايا القيمية الإنسانية؟
المراجعة واجب كل إنسان يومياً، ولكنَّ هناك فارقاً كبيراً بين المراجعة والنقد الذاتي من جهة، وبين الانقلاب على المفاهيم والأفكار والمبادئ. الآن هناك موجة مخيفة ومخزية ومعيبة تسمى زوراً باليسار الجديد، وبرأيي هي ملحق ديكور لليمين، وهي تبرر الاحتلال تحت أي وهم. والتحرر حتى لو جاء به الاحتلال الأمريكي، لا أستطيع أن أقبله، وأنا أحارب ما يسمى بالمراجعة النقدية الزائفة للقومية واليسار إن كانت في النهاية تصب في خدمة الاحتلال والاستعمار. هذا في الحقيقة ليس إلا ما أسميه مدرعة فكرية لليمين، حين تتحول المراجعة النقدية إلى مدرعة فكرية لليمين فإنها لم تعد مراجعة ويساراً بل صارت ديكوراً أو برغياً إضافياً في المكنة اليمينية.
– هنالك من يعتقد أن اهتمامك بالقضية الفلسطينية وكذلك اهتمام بعض المثقفين العرب مثل عبد الباري عطوان، مبالغ فيه، بمعنى أن هناك الآن وعياً عالمياً مختلفاً أساسه المصالحة مع الكيان الصهيوني وتغيير وسائل المواجهة المسلحة، ما رأيك بذلك؟
أنا منفتح على أي طريقة لمقاومة الصهيونية، ولا أحصر مقاومة الصهيونية في المقاومة المسلحة، بل أطالب بتعميم المقاومة، هناك مقاطعة للشركات والمنتجات الداعمة لإسرائيل، وهذا للأسف لا يقوم به حزب الله. وقد وجّهت إليهم نقداً صريحاً بهذا الخصوص، إذ قلت لهم لا يعقل أن تكونوا تناضلون بالسلاح في اليد اليمنى وتشترون كوكاكولا وبيبسي في اليد اليسرى. هناك ضرورة لبناء وعي متطور ومتنوع للمقاومة. أما القول إنني تطرفت في تأييدي للمقاومة في فلسطين فأردّ بالقول: ليست هناك معارضة عربية أو يسارية أو قومية أو ما شئتِ، معارضة عربية حقيقية لها معنى، إن أسقطت فلسطين. لا إمكانية لتطور خارج فلسطين. لا يمكن بناء لبنان حديث وديمقراطي وحر وسورية حرة وديمقراطية، إن أنا اعتقدت أن الصهيونية حالة استثنائية جانبية أستطيع أن أضعها جانباً، وأن أبني مستقبلي ومجتمعي السوري أو اللبناني أو الكردي وو..، ومن بعد ذلك أن أحارب الصهيونية، فهذه تفاهة.. عملية التحرر الاجتماعي مرتبطة بعملية التحرر القومي، والإمبريالية لا تنتج تحرراً حتى على المستوى الاجتماعي، ولا تحرُّر المرأة، هذا وهم، لذلك أعتقد أن فلسطين يجب أن تعود أو أن تكرَّس جزءاً أساسياً من خطاب أي قوة، يسارية ومعارضة، ولكن علينا أن نتخلى عن الخطاب الرسمي التقليدي، نحن لا نستطيع أن نحمل الشعارات التقليدية التي تستغل اسم فلسطين من أجل أن نمارس القمع الداخلي، هذا مرفوض، وأنا أفهم لماذا هناك الكثير من المقاومات المخلصة والمعارضات المخلصة في العالم العربي التي سئمت من مصطلح فلسطين وتحرير فلسطين، بسبب الخطاب القومي التقليدي الذي يتكلم عن فلسطين ويقمع الداخل. لكن فلسطين وتحريرها يجب أن يكون جزءاً من أي مقاومة ليس فقط في الوطن العربي بل لأي مقاومة في العالم، ليس هناك إمكانية لتكون حراً وديمقراطياً وتغييرياً ويسارياً وتقبل أن يُقمَع الشعب الفلسطيني، وأن تبقى الصهيونية ناشبةً مخالبها في الوطن العربي.
– ما رأيك بتطور العلاقات اللبنانية السورية؟
إلى الآن إن أبرز ما شهدناه من تغير في النظرة السورية إلى لبنان هي ما قاله الرئيس السوري الأسد في أكثر من مناسبة، إحداها في نهاية 2008، والثانية في 19 شباط 2009 في جريدة (لبنان)، حين قال: نحن خسرنا لبنان بسبب أخطائنا. بناءً على هذا أعتقد أنه بدأت تنبت بعض الظواهر الصحية على مستوى القيادة السورية، ومن هذه الظواهر الصحية المؤتمر الذي عقد منذ بضعة أشهر في دمشق (مؤتمر العلاقات اللبنانية السورية). وأنا فوجئت وسررت بأن القيادة السورية قد دعت أشخاصاً غير محسوبين على النظام السوري، ومنهم أنا وعصام خليفة، وكمال حمدان وفواز طرابلسي الذي لم يحضر وآخرون. لكن هل انتشر هذا الوعي في الوسائل الإعلامية السورية وهل عُمم أو أوعز من قبل القيادة الرسمية السورية لأجهزة الإعلام والصحافة بأن عليكم أن تحذوا هذا الحذو؟ لا أعتقد. هذا ما نراه، فمثلاً معظم النقاشات والانتقادات التي دارت في المؤتمر والتي حاولت أن تصوِّب بصدق وإخلاص العلاقات اللبنانية السورية، أهملت إهمالاً تاماً في جميع وسائل الإعلام السورية بما في ذلك الكلمة الافتتاحية التي ألقاها الرئيس سليم الحص التي تحدث فيها عن أخطاء وحقائق وتدخل في الوضع الداخلي في لبنان. وما قاله عصام خليفة وكمال حمدان، هذا لم يُنشر في الصحافة السورية. فإما أنكم تستخدمون ما قاله الرئيس الأسد كجملة من قبيل النقد الذاتي الذي لا يفيد شيئاً، وإما أن تمارسوا بالفعل النقد الذاتي الحقيقي، وتقولوا أين أخطأت سورية في لبنان، وأين أخطأ اللبنانيون تجاه العمال السوريين والعسكر السوري، تجاه استزلام اللبنانيين للضباط السوريين، لأي موظف في أجهزة الدولة السورية وبلا كرامة حتى. أعتقد أن على السوريين واللبنانيين أن يواجهوا المسار وأن ينتقدوا أنفسهم، وأن يقولوا علينا القيام بممارسات جديدة.
وحين نتحدث عن تصويب المسار السوري اللبناني لا أقصد فتح سفارة فهذه تفاهة ولا تعنيني السفارة، أعتقد أن البلدين بلد واحد، وأنا كإنسان أرفض سايكس بيكو، ومن حيث المبدأ ضد السفارات، وحتى ضد ترسيم الحدود. لكن إن كان ذلك جزءاً من مطلب اللبنانيين فلمَ لا؟ هذا لا يصحّح العلاقات، فالعلاقات تُصحح على أساس الاقتصاد أولاً، وكيف نستطيع نحن كلبنانيين أن نستفيد من اليد العاملة السورية دون أن نستغلها، ودون أن نمارس عليها العنصرية بل نعطيها جميع الحقوق المدنية والضمانات الاجتماعية. وكيف تستطيع سورية أن تستفيد من مرافق لبنان وثقافته ومن مطابع لبنان؟ كيف نكسر كل حاجز رقابي لانتقال الكتب والمجلات بين سورية ولبنان؟ والمسائل النقابية والاقتصادية والزراعية والثقافية، وليس الدبلوماسية، بل البنية الحقيقية؟
– مؤتمر العلاقات اللبنانية السورية الذي أقيم في دمشق مؤخراً، هو برعاية رسمية بالمحصلة، ألم يكن ممكناً أن يحدث برعاية مؤسسات مستقلة لبنانية أو سورية؟ ولمَ لم يحدث منذ سنوات، لتصحيح العلاقة أو تأسيسها من جديد؟
في مقالتي التي كتبتها في جريدة (الأخبار) دعوتُ في النهاية إلى أن يكون المؤتمر القادم في لبنان بدعوة من المؤسسات الثقافية اللبنانية، وأن تكون خارج الأطر الرسمية، ودعوت أيضاً أن يشارك المعارضون السوريون فيه. لكن أعتقد أن ليس لديكم إمكانية على المستوى الخاص لإقامة مؤتمرات أو ندوات كمؤتمر العلاقات اللبنانية السورية، لكن أرحِّب بالفكرة وسأذهب إلى أي منبر سواء كان رسمياً سورياً أو معارضاً سورياً لكي أقول رأيي، شرط أن أقول رأيي بكل حرية، وألا يُشوَّه موقفي، وأن يُعرف بتفاصيله، ولكن إن كان متعذراً أن يتم ذلك عن طريق مؤسسات خاصة أو شعبية فأنا أقوم بها عبر أي مؤسسة رسمية.
– أنتَ ومجلة (الآداب) لم تتوانوا عن فضح الاستبداد العربي، لكن يبدو الاهتمام بقضايا الاحتلال أعلى مستوى من الاستبداد، هل الأمر يعود إلى أسباب رقابية وتوزيع المجلة، أم أن الموضوعات تفرض نفسها أحياناً بقوة حضورها في الحياة العامة؟
الهم الفلسطيني همٌ طاغٍ في مجلة (الآداب)، ولا أسمح لنفسي بأن يصدر أي عدد من مجلة) الآداب) دون أن يكون فيه مادة مركزية عن فلسطين. ولكن لا أعتقد أن هناك عدداً لم نتطرق فيه للاستبداد في أي مكان في العالم، والدليل على ذلك هو منع أعداد من المجلة في عديد من الأقطار العربية. مثلاً في سورية الأعوام الأربعة الأخيرة هناك منع لعدد من بين ستة أعداد أو خمسة كل سنة. إذاً نحن لا نتهاون في التصدي للاستبداد العربي ولا نتهاون إطلاقاً. ومنذ آخر 18 عاماً (الآداب) ممنوعة في عدد كبير من الأقطار العربية، حتى إننا بتنا لا نرسلها إلى تلك الأقطار مثل السعودية والكويت، والأردن أحياناً تُمنع فيها. نحن لا نتهاون في مسألة الاستبداد لكن لا نسمح لأنفسنا بأن تكون معركتنا محصورة بمقارعة الاستبداد كما هو حال الكثير من المعارضات العربية، ما هو مشروعهم لمقاومة إسرائيل وما موقفهم من الاحتلال الأمريكي؟ أحياناً تلغى كل المبادئ وتزوَّر ليس فقط القضية اليسارية بل أيضاً النظرة الحقيقية إلى أمريكا والإمبريالية. هذا هو تاريخ أمريكا، في حياتها كلها لم تأتِ لإسعاف بلد إلا من أجل تدميره من أجل مصالحها. وهؤلاء مثقفون يفترض بهم أن يقرؤوا تشومسكي وآخرين من المثقفين الأمريكيين الذين فضحوا الدعاية الأمريكية. الآن بعد احتلال العراق وتدميره، أنا أفهم بعض المعارضة العربية أن تكون عندها أوهام حول الاحتلال بحجة التحرير قبل تدمير العراق وانتهاكه، ولكن الآن بعد قتل أكثر من مليون عراقي وتيتيم وتهجير الملايين، فهل عندكم أدنى ذوق وحياء في أن تقولوا بالتدخل الأجنبي؟ هل تحسّن الوضع في العراق؟ أكبر جرائم الشرف زادت في كردستان أيام الاحتلال، واعتقال الصحفيين، وقتل المواطنين العزّل في بغداد. ما هي أوهامكم ومن أين أتيتم بها حول إمكانية أن يأتي الاحتلال بوضع أفضل؟ إذاً هذا هو أيضاً هاجس (الآداب)، هاجسها ليس فقط هو التعبير عن خط يساري، وإنما أيضاً نقد كل ما هو وهم داخل الثقافات اليسارية واليمينية. وبما أننا منبر قومي عربي يساري علينا أن ننبّه للأخطار التي يتحدث عنها اليسار الجديد.
)-الآداب)، بعد كل الأزمات التي مرت بها ولا تزال، من حيث الأزمة المالية والتوزيع والرقابة ودعوى فخري كريم عليها، لمَ تريد الاستمرار؟ هل ليستمر مشروع شخصي، أم لأنها جزء من مشروع قومي يساري علماني ورمز لهذا التيار؟
مجلة (الآداب ( قد لا تستمر وقد تغلق نهاية هذا العام، قد نضطر إلى الإغلاق إلى حين الانتهاء من إصدار المعجم الذي أعمل عليه، فيتعزز وضعي المادي وأستطيع أن أصرف من مردودي الشخصي على إصدار مجلة (الآداب) بعد عامين أو أكثر، قد تكون مجلة (الآداب) لا ضرورة لها، وهذا أيضاً سؤال مشروع. ما هو مبرر وجود مجلة أو منبر ثقافي إن كان قراؤه أو ممن يفترض بهم أن يدعموه لا يدعمونه؟! أنا بكل سهولة أستطيع أن أواصل إصدار مجلة (الآداب) بتمويل من أي جهة، وهذا أسهل شيء في العالم أن أدبّر مالاً، أستطيع أن أكتب افتتاحية أقول فيها إن البرجوازية الوطنية لعبت دوراً وطنياً وتقدمياً في مسيرة الشعوب، وأرسل هذه الافتتاحية إلى سعد الحريري وأؤمن كامل العام على الأقل، أو أستطيع أن أمتدح النظام الفلاني وأستطيع أن ألجأ إلى فورد أو برنس كلاوس أو غيرها، ولن أشكك بكل هذه المنظمات لنفترض أنها كلها ممتازة، لكن ما حاجة أن تصدر هذه المجلة بتمويل غربي أو نظام عربي حين يكون هنالك ثلاثمئة مليون عربي لا يرفّ لهم جفن إن سقطت مجلة مثل مجلة (الآداب) التي حملت همَّ المثقفين العرب طوال 57 عاماً، ليس هناك مجد شخصي، أستطيع أن أكتب في أي جريدة وأن أعلّم وأكون مشهوراً أكثر ومادياً وضعي أفضل بكثير دون مجلة (الآداب). لماذا يظن بعض الأشخاص أن هذا مجد شخصي لي إن كانت المجلة تعاني وتُمنع وبالكاد يقرؤها بضعة آلاف من الأشخاص، فإن هذا يعني أنها ليست مجداً شخصياً لي. أنا في مقالاتي بجريدة (الأخبار) صارت الناس تقرؤني أكثر من (الآداب)، يجب أن يحسّ المثقفون أن من مهامهم أن يدعموها، ليس هناك مثقف عربي لم تنشر له (الآداب)، ودعمت الخط القومي العربي التحرري الحداثوي، أين أنتم؟ إن كنتم تظنون أن المجلة الثقافية المستقلة تستطيع أن تستمر من الهواء فأنتم واهمون. هذه المجلة التي صار عمرها 57 سنة صار عليكم أنتم أن تفكروا إن كنتم تريدونها أن تستمر مستقلة، فعليكم أن تدعموها، وإلا فلماذا تستمر؟ المهم أن يشعر المثقف العربي أن من واجبه أن تستمر المجلة، إن كان يحسّ أنه يستطيع أن يكتب في جريدة (الحياة) ويقبض 500 دولار، وهنا وهناك مقالة ويعتقد أن حريته وتقدمه قد تأمّنا بهذه الكتابة فليكن، وأنا أغلق المجلة إلى حين أؤمن مالاً فردياً ثم أصدرها.
– في أزمة المجلة في الدعوى التي أقامها عليها فخري كريم، ومستوى تضامن المثقفين معها، خاصة ممن كتبوا في المجلة أو نشروا في الدار، رأيناهم بعيدين عن التضامن معها، فهل تعتقد أن الأسباب انتهازية أم إيديولوجية سياسية؟
أعتقد أن الأسباب الانتهازية هي الأهم، أشخاص يعتقدون أن هذه مشكلة (الآداب)، بمعنى لديها مشكلة فلنترك الأمر للقضاء، وكأن القضاء هو مؤسسة مستقلة عن بنية الدولة والسلطة التي فرضت هذه القوانين.
أعتقد أنهم قالوا هذا منبر لا يشكل أمامنا خطراً إن دعمنا سماح إدريس وإن لم ندعمه، في أقصى الأحوال ماذا يحدث؟ إن لم تنشر لنا دار (الآداب) ننشر في مكان آخر، أعتقد هذا هو السبب. وهناك سبب بأن فخري كريم حوت ضخم في بعض الأقطار العربية وقد يكون من مصلحتنا ألا نستعديه لأننا قد ننشر في داره يوماً ما، وأنا متألم لهذه المواقف الانتهازية، ولكن لا أستطيع أن أجبر أو أعاقب أحداً، كل ما أقوله إن حملة التضامن التي جرت مع (الآداب) كانت حملة ممتازة والأصوات التي تضامنت معنا كانت أصوات خارج مجلة الآداب ومعظمها لا أعرفها، وهذا يسرّني كثيراً، ويعني أن من تضامن معنا لم يتضامن معنا لدوافع انتهازية، وبالمقابل انظري من تضامنَ مع فخري كريم، إنهم من الذين يدعمهم مالياً ويكتبون عنده ويخافون من سطوته وسطوة نظامه الداعم للاحتلال الأمريكي، وهذا لا يشرّفه في أي شيء. في حين أنه يشرفني في كل شيء، وأعتقد أن معركتي انتصرت ولا آبه لقرار المحكمة ولا يهمني لأنني كسبت معركة الرأي العام.
يلاحظ ضعفٌ في حضور الأدب في المجلة مقابل الموضوعات السياسية، هل يمكن أن تكون المجلة بديلاً عن مجلة (الطريق)؟ هل هذا جزء من خطتها؟
الأسباب متشعبة، مجلة (الآداب) منذ أن تسلمتُها 1992 حتى حدود عام 2000 كان الاهتمام الأساسي هو الأدب، لكن اكتشفت أن هناك تراجعاً في الإنتاج النقدي الأدبي العربي، من بين 15 مقالة نقدية أدبية يمكن أن آخذ واحداً. أحد الأشخاص في سورية اقترح أن نقوم وسنقوم في الأعداد القادمة بملف في عدة أجزاء اسمه تقويم الإنتاج الثقافي العربي في العام 2008 و 2009، بأن نأخذ مجموعة إنتاجات أدبية ونكلف نقاداً أدبيين رفيعي المستوى لنقد هذه الأعمال، لم أستطع أن أجد خمسة نقاد يستطيعون أن يتناولوا النتاج الأدبي الثقافي العربي وأن يقدموا نقداً حقيقياً. هناك ضعف في الإنتاج النقدي، وهذا لا ينطبق على النتاج الفكري والسياسي العربي. أعتقد أن الفكر والنقد السياسي متطور بمراحل عن النقد الأدبي العربي في المرحلة الحالية، ربما بسبب تراجع الجامعات العربية وعدم ترجمة النظريات الأدبية الحديثة وانتشار الثقافة السياسية عبر الإعلام. هناك وعي فكري وسياسي متطور عن الوعي النقدي الأدبي، وأعتقد أن كل الناس الذين قابلتُهم هنا في سورية يشاركونني هذا الرأي، لدرجة أن أحد الأشخاص قال: إن أنتَ عدتَ بالآداب إلى مرحلة النقد الأدبي فستنهار المجلة، وإنك لن تجد من يكتب أو يقرأ. ومع ذلك فهذه مهمة علينا التصدي لها وأن نحسّن الأداء الأدبي والنقدي الأدبي.
على الصعيد الشعري هناك أيضاً تراجع في الشعر العربي، فمن يستطيع أن يقول إن المشهد الأدبي العربي الحالي هو في سوية وجودة مشهد الأدب العربي منذ عشر سنواتٍ أو عشرين؟ لا أعتقد أننا نستطيع أن نتحدث عن عشرات أمثال السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وآخرين. هناك بالفعل تراجع، ونحن لسنا مسؤولين في مجلة (الآداب) عن هذا التراجع، نحن أي مادة جيدة ننشرها، كما أعتقد أن دار الآداب تقوم بواجبها وأكثر فيما يخص الأدب إذ لها دور كبير في نشر الرواية ونقد الشعر ونشر النقد الأدبي الروائي، في حين أن نقد الفكر والسياسة شبه منعدم في دار الآداب، ولذلك حاولت أن أعوّض وأن أسدّ النقص في دار الآداب بأن أجعل هذا هو مجال المجلة، هذه هي الأسباب، ولكن أحاول الآن أن أقوّي الناحية الأدبية، لست متفائلاً تفاؤلاً شديداً، ولكن علينا أن نبذل جهدنا.
كلنا شركاء