تفجيرات بغداد: النفط مقابل الأمن… النفط مقابل« البعث»
حازم الأمين
حين يُنظر الى التحالف السوري – الإيراني من لبنان، لا يساور المرء شك بأن تبادلاً للمصالح والنفوذ يجري بين الطرفين، وتقاطعاً في المصالح والأدوار يُعطل قيام دولة ويعوق السلم الأهلي. اما في العراق فنتيجة نفوذ كل من الدولتين مشابهة لنتيجته في لبنان، ولكن مع مفارقة مختلفة. فهناك، في الشكل على الأقل، لا تقاطع في المصالح، بل ان ما يطلبه من العراق النظامان السوري والإيراني لا يلتقي عند نقطة ولا عند منعطف. ففي اللقاء الأخير بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والقيادة السورية، والذي سبق تفجيرات المنطقة الخضراء في بغداد، أشار مشارك عراقي في اللقاء الى ان مسؤولين سوريين نصحوا نظراءهم العراقيين بإشراك البعثيين في العملية السياسية، وهم لم يستجيبوا طلباً عراقياً بوقف استقبال رموز بعثية وغير بعثية لها علاقة بتدهور الوضع الأمني في العراق.
أما الإيرانيون، فهم يستضيفون قوى سياسية عراقية مبالغة في توجهها نحو «استئصال البعث»، ويسعون الى إنتاج تحالف انتخابي عراقي عماده التحفظ على خطوات المالكي تجاه بعثيين «غير ملوثين بالدماء».
لكلا التوجهين السوري والإيراني نتائجه الدموية، والمالكي يتلقى صفعاتهما بصفته واقفاً في نقطة وسط. فالبعث الذي يتحدث عنه المسؤولون في سورية هو غير البعث الذي يرغب المالكي في استدراجه الى العملية السياسية. فالبعث، عند الأخير، بعث الداخل، او بالأصح البيئة البعثية بعد سحب الجهاز الحزبي منها، في حين تتحدث دمشق عن الجهاز الحزبي المقيم عندها، والمتورط بأعمال عنف وقتل، قبل سقوط النظام وبعده. أما البعث الذي تسعى طهران عبر حلفائها العراقيين الى «استئصاله»، فلا يقتصر على الجهاز الحزبي الذي كان حاكماً، إنما أيضاً يشمل البيئة البعثية في العراق، وهو ما يعني حرباً أهلية جرب العراقيون بعض نُذرها.
وإذا أجرينا عملية حسابية لما تريده كل من سورية وإيران في ملف البعث في العراق، حصلنا على نقطة مشتركة. فسورية غير مكترثة بالبيئة البعثية، وتطالب باستيعاب الجهاز الحزبي، وإيران غير مكترثة بالجهاز الحزبي المقيم في دمشق، وتطالب بإقصاء «مجتمع البعث». إذاً، الحرب الأهلية في العراق هي ما يلتقي عنده كل من النظامين الجارين للعراق.
لكن هذه النتيجة حصيلة عملية حسابية، أو رياضية، وليست حصيلة معادلة سياسية. فالحرب الأهلية العراقية ليس ما يشعلها الخلاف على البعث وحده. ثمة حسابات أخرى تعوقها. فإيران ترى فيها إجهازاً على تصدر الشيعة تجربة الحكم على نحو لا يضمن عودتهم اليها، وسورية لن تكون بمأمن من النار العراقية في حال اشتعالها. وهنا نحصل على نتيجة حسابية ثانية يلتقي فيها كل من النظامين في سورية وإيران.
أما الحصيلة الثالثة، فتتمثل في أن عراقاً قوياً وهادئاً لا يمثل من دون شك مصلحة لكلا الجارين، وهي الحصيلة الأقوى والأوضح، وهي سياسية وأمنية واقتصادية بامتياز، ولا مكان فيها لوهم الحسابات الرياضية.
الأوراق الإيرانية في العراق واضحة، وطهران تجيد لعبها، بدءاً من ضغطها لإعادة إحياء الائتلاف الشيعي وصولاً الى إيوائها قيادات تنظيم «القاعدة» العاملين على خط كابول – بغداد. أما الأوراق السورية فهي، وإن كانت اقل تأثيراً، أكثر طموحاً. فزيارة المالكي الأخيرة الى دمشق لم تُخلف ارتياحاً سورياً بسبب شعور المسؤولين في دمشق انهم حيال ممثل لدولة بدأت تتحسس الطريق الى مصالحها. فالسوريون سعوا الى انتزاع موافقة عراقية على إعادة الحياة الى أنبوب نفط كركوك – بانياس الذي يمكن عبره تصدير 600 ألف برميل يومياً، وهم عرضوا حمايته داخل الأراضي العراقية. كذلك طالبوا بمعاملة نفطية عراقية مشابهة لمعاملة الأردن (أسعار مخفضة). ويبدو أن الاستجابة العراقية لم تكن في مستوى الطموحات السورية.
الرد السوري على اتهامات الحكومة العراقية دمشق بإيواء من يقف وراء تفجيرات بغداد، وهو ان القرينة على حرص دمشق على الدم العراقي تتمثل في إيوائها مليوناً ونصف مليون لاجئ عراقي، هو أيضاً جزء من الأوراق التي تُلعب في العلاقة بين البلدين، خصوصاً أننا على أبواب انتخابات عامة في العراق. وهذا العدد من اللاجئين يساوي انتخابياً عدد سكان دائرة انتخابية، والتلميح السوري هنا يشمل القدرة على التأثير في اللاجئين قبل توجههم الى صناديق الاقتراع في السفارة العراقية، وعددهم يساوي بين 10 و15 نائباً في البرلمان. علماً ان ثمة رقماً مشابهاً في الأردن أيضاً.
أما اكثر ما لفت في سياق تفجر الأزمة بين العراق وسورية، فتمثل بعبارة على لسان المالكي لم تُبرزها وسائل الإعلام، يقول فيها: «لدينا القدرة على الرد على التفجيرات بالمثل… لدينا الخبرات والمعلومات، ولكن ليس لدينا النية». إنها المرة الأولى التي يصدر فيها كلام عن مسؤول عراقي بحجم المالكي يلوّح فيه بأعمال أمنية خارج الحدود رداً على أعمال مشابهة في بغداد. والأرجح ان كابح هذا الميل، المتأصل في التقاليد السياسية للمنطقة، كان أميركياً، إذ ان للولايات المتحدة حسابات أخرى على هذا الصعيد. لكن مفعول كلام المالكي مختلف اليوم، فهو اكثر تخففاً من الشروط الأميركية، لا بل انه متحفظ عما جرى بين الجيش الأميركي وسورية من اتصالات سبقت زيارته دمشق، وتناولت البحث في إمكان استدراج وجوه بعثية مقيمة فيها الى العملية السياسية على نحو اعتبره المالكي تجاوزاً للحكومة العراقية. وتلويحه الخجول بالمعاملة بالمثل لم يكن رسالة الى سورية فحسب، إنما أيضاً الى واشنطن المستمرة في التعامل مع بغداد بصفتها دولة الوصاية.
عندما نظم المالكي حملة «صولة الفرسان» ضد تيار الصدر، والتي اعتبرت في حينه حملة على النفوذ الإيراني في العراق، أعقب انتهاءه من الحملة بزيارة الى طهران خلع خلالها ربطة عنقه، وهو ما فسر بأنه رغبة في الإيحاء للإيرانيين بأنه لم يبتعد عن موقعـــه منهم. السوريون يطلبون اليوم اكثر مـن التخلي عن ربطة العنق، فمع الأميركيين يسعون الى المفاوضة الأمنية والسياسية، ومع الحكومة العراقية يطلبون نفطاً.
المالكي يقول: أريد الملفين، ولن أعطي نفطاً ليأخذ الأميركيون السياسة والأمن، وقد يأتون، فوق هذا، بالرموز البعثية الى بغداد.
إنها لـــوحة علاقات مختلفة تماماً عن 2003 وما أعقبــه. التفجيرات فــي بغداد لم تعــد لـ «مقاومة الاحتلال»، بـل صـــارت جـــزءاً من العلاقة مع الحكومة العراقية. هذا ما يُفسر تلويح المالكي بالرد.
الحياة