صفحات العالمهوشنك بروكا

من يتقتل سورية العراق وتمشي في جنازته؟

هوشنك بروكا
الأزمة الأخيرة التي نشبت بين الشقيقتين، بغداد البعثية سابقاً ودمشق التي لا تزال من البعث إلى البعث، ليست بجديدة، كما أنها ليست بالأزمة اللامتوقعة، أو الأزمة اللامفكرة بها، كما قد يتوقعها أو يحسبها البعض.
أزمة انعدام الثقة بين الشقيقتين العربيتين الجارتين، ليست وليدة الأمس، أو وليدة “مشكلة طارئة”، أو “سوء فهم طارئ”، أو خطأ سياسي طارئ، أو “إرهاب عفوي طارئ”، وإنما هي أزمة سياسية بنيوية قديمة جديدة، أو قديمة، هي في تحولّها الدائم، إلى التجدد الدائم.
هذه الأزمة التي سميت ب”الدبلوماسية”، اشتعلت إثر الإشتعال الأخير الذي استهدف قلب بغداد في القلب من منطقتها الخضراء، وتم التخطيط والتدبير له من “قلب العروبة” سوريا الأسدين، حسب اعترافاتٍ أدلى بها العقل المدبر لذاك “الأربعاء الإرهابي”، وسام علي كاظم إبراهيم، الذي قال أنه المشرف الأول على هذه التفجيرات، وأن قياديين بعثيين يتخذون من سوريا منطلقاً ل”صناعة الإرهاب”، كانوا وراءها.
بناءً على هذه الإعترافات، التي وضعت سوريا في قفص الإتهام المباشر ب”تصدير” الإرهاب و”تطويره”، طالبت الحكومة العراقية سوريا رسمياً، ب”تسليم القياديين البعثيين العراقييَن محمد يونس الأحمد وسطام فرحان، لدورهما المباشر(حسب اعترافات العقل المدبّر) في تنفيذ العملية الإرهابية التي وقعت في التاسع عشر من أغسطس الجاري، إضافة إلى “تسليم جميع المطلوبين قضائياً ممن ارتكبوا جرائم قتل وتدمير بحق العراقيين، وطرد المنظمات الإرهابية التي تتخذ من سورية مقراً ومنطلقاً لها بهدف التخطيط للعمليات الإرهابية ضد الشعب العراقي”.
فالأزمة، كما يقول الماضي وكذا الحاضر من تاريخها “المدمّر”، وكما هو واضح من الطلب العراقي الأخير، الذي يتهم فيه المسؤولون العراقيون سوريا بالإرهاب المباشر والأكيد، هي أكبر بكثير من صفقة “تسليم” دمشق لبعض من رؤوس البعث الذين يخططون من “مزرعتها”، لتدمير العراق متخذين من المعابر السورية المفتوحة على مصراعيها، سبيلاً لتصدير الإرهاب والقتل والتدمير للعراقيين.
هذه ليست المرة الأولى، بالطبع، التي تثير فيها دمشق غضب بغداد، وتتهم هذه الأخيرة الأولى بالتدخل في شئونها الداخلية(أو شئون ديمقراطيتها الفتية حسب بعضٍ مسؤولٍ آخر)، وصناعة القتل واللاإستقرار واللاأمان لأهل الفراتين.
كما أنّ عملية “الأربعاء الدامي” التي استهدفت أكبر الأهداف السياسية والإدارية في قلب العاصمة العراقية وقلب منطقتها الخضراء، ليست الأولى من نوعها(المسجلة بماركة إرهابية ممتازة) كما لن تكون الأخيرة، لإستهداف العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً، وما عليه من بشر وحجر وشجر.
سوريا، لعلم الذين لا يعرفونها، تعلمت من استعمارها الطويل للبنان، وتفكيكها الأطول لقضية فلسطين، تعلمت كيف تلعب بأوراق الآخرين مع الكبار. فتلك هي سياستها العتيدة مع أخواتها الجارات العربيات حصراً: ضرب الجار كي يتربّع الديكتاتور على عرش الدار. أو ضرب الجار، كي ينسى الخارج عما يجري قلب الدار.
هكذا يفعل ديكتاتور دمشق؛ حارس العروبة على البوابة الإسرائيلية وجبهتها النائمة منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ ونصف، بجيرانه العرب.
ولكن الضرب السوري لجيرانه، ليس ضرباً عادياً، كأيّ ضربٍ. هو ليس ضرباً مكشوفاً في العلن، ولا من الأمام، وجهاً لوجه، بقدر ما هو ضربٌ مختلس، سرّي، استخباراتي، يجري في الخفاء، ومن الخلف.
فعلى الرغم من التحوّل الكبير في العراق ونظامه السياسي، ودخوله مرحلةً جديدة، وخروجه على الكثير من تاريخه السابق(تاريخ الديكتاتور)، ودخوله تاريخاً آخر أكثر انفتاحاً على الذات وعلى الآخر، على داخله وخارجه، إلأ أن السلوك السوري “المخرّب” و”المدمّر”، تجاهه بقي هو ذاته، سلوكاً عدوانياً سادياً، دون أيّ تحوّل جدّي يستحق الذكر.
فقبل سقوط “عراق صدام” في 9 نيسان 2003، كانت دمشق تخطط وتدبر وتمارس العداء الحقيقي، وتصنعه في العراق، بحجة دعم “البعث الشقيق”، و”مناصرة الشعب العراقي الشقيق”، وتخليصه من “الديكتاتورية الشقيقة”. أما الآن، فهي تصنع الامر عينه لذات العراق، تحت ذات الحجج، أو شبيهها، من قبيل “دعم المقاومة”، و”وحدة التراب العراقي”، و”الشرف العراقي”، و”تخليص” كل العراق والعراقيين من “رجس الإحتلال”!
وعلى الرغم من الإعتراف السوري المتأخر ب”شرعية” العراق الراهن ودولته ومؤسساته الراهنة، ك”عراق مستقل”، ووجود تبادل ديبلوماسي بين الطرفين على مستويات رفيعة، إلا أنّ دمشق “شرّعت” في المقابل كل ما حدث ويحدث في العراق من أعمال إرهابية وتخريبية، طالت الدم العراقي من شماله إلى جنوبه مروراً بوسطه.
دمشق التي طالما تصف “المعايير الأمريكية والإسرائيلية” التي لا تعجبها، ب”المعايير المزدوَجة”، وتصف سياساتهما ب”سياسة الكيل بمكيالين”، نراها مع جاراتها العربيات(قبل الأعجميات)، اللواتي من لحمها ودمها، تركب معايير أكثر من مزدوجة، وترتكب سياسةً تكيل فيها الأشياء بأكثر من مكيال.
صحيحٌ أنها تبادلت مع العراق، بفتح سفارة مقابل سفارة، ولكن الصحيح أيضاً، كما تشير كل الوقائع على الأرض، و”السياسات المفخخة”، والإتهامات والإتهامات المضادة، هو أنها تبادلت أيضاً مع “دول الشوارع الإرهابية”، وشيوخها، ومنظماتها بفتح “سفارات”، أو أكثر من “سفارة “، وربما فتح وتمويل وتجهيز أكثر من معسكر ل”تخريج المقاومين” .
من هنا، هي لم تسمِّ “الإرهاب” الذي لايزال ينهش الجسد العراقي، في ماكينهتا الإعلامية، للآن، بإسمه الحقيقي، وإنما سمته ب”المقاومة الشرعية والشريفة”.
وهي لا تسمِّ كردستان العراق مثلاً، كما يسميها الدستور العراقي نفسه، وإنما تزاود على بغداد وعربها وعروبتها، والجامعة العربية وأمينها العام، والأمم المتحدة، وتسمّيها ب”شمال العراق”.
الجامعة العربية وأمينها العام “المعطّل”، يحاولان عبثاً “إقناع” دمشق وبغداد، ل”تكثيف الحوار والاتصالات الهادئة بين العاصمتين الشقيقتين توخّياً لحسن إدارة الأمور وتحقيقاً للتعاون ومنعاً للتصعيد حمايةً للعلاقات بين البلدين ومصالحهما»، كما جاء في بيانٍ وزعه مكتب الأمين العام للجماعة العربية “المعطّلة” عمرو موسى.
فلا سوريا، ستعدل عن صناعتها للمعارضين المصنّعين خصيصاً ضد العراق، ولا العراق سيقبل إلى ما لا نهاية، بهذا القتل وهذا الإرهاب المتعمّدَين، الذّين يستهدفان قلب عاصمته، وقلب نظامها السياسي، ويهددان أمنه واستقراره، في وضح النهار، وعلى رؤوس الإشهاد.
فالقضية ليست مجرد “خلاف سياسي طارئ”، أو بسيط، بين بلدين جارين، وإنما هي قضية مصيرية، كلّفت العراق والعراقيين، حتى الآن، الكثير من الدم، والكثير من اللاأمان، واللاثقة واللاإستقرار، فضلاً عن الكثير من الفتنة، والكره والكره المضاد، والثأر والثأر المضاد، والطائفة والطائفة المضادة.
القضية تتجاوز في كونها مجرد صفقة “تسليم” ل”بعثيَين إرهابيَين”، بقدر ما أنها قضية تورط حقيقي في صناعة وتمويل وعشعشة وتخريج وتصدير “إرهاب دولي”، يستهدف بعضه العراق حكومةً وشعباً.
وهذه القضية، التي تبوأت دمشق الأسدين مركزاً متقدماً وخطيراً في سلمها ، باتت أكبر من مجرد “شكوى عراقية مارقة” من بعضٍ ملعوبٍ به، متورط بجريمة مارقة بحق العراقيين هنا وهناك. وإنما هي قضية لعبٍ كبيرة ب”نار دولية” خطيرة، تلعب فيها سوريا بأوراق الآخرين، لعباً إقليمياً كبيراً، أكبر من وزنها بكثير.
فهي إذ تعرف وزنها جيداً، ولا تستطيع اللعب المكشوف ضد إسرائيل في جولان(ها)، تحاول اللعب ضدها مع حليفتها الإستراتيجية الأكيدة إيران، في السر، عبر حدائقها الخلفية، وأحزابها وتنظيماتها ومعسكراتها الخلفية، في كل من “فلسطين الخلف” و”لبنان الخلف” و”العراق الخلف”.
فهي الهاربة من جبهتها الرئيسية(الجولان)، إلى جبهات الآخرين، وذلك عبر تفجيرها للعراق ب”سياستها المفخخة”، و”مقاومتها الإلهية” في لبنان، و تقسيمها لفلسطين إلى فلسطينَين، إنما تريد أن تعوّض بعضاً عن “عقدتها الدونية” تجاه إسرائيل و”ربيباتها”، التي طالما وصفها مسؤولون إسرائيليون كبار، ب”الدولة الضعيفة”، تحت قيادة “الرئيس الأضعف”.
فهي، الخائفة من دولة إسرائيل العلنية وربيباتها العلنيات، واحتلالها العلني لسيادة جولانها، والخائفة من اللعب العلني، ك”دولة علنية”، بسياسة علنية، وجيش علني، ورئيس علني(ك”رجل علني كامل”، بالطبع، لا ك”نصف رجل” كما أراد الأسد أن يسمي البعض من عربه يوماً)، تريد بذلك التعويض عن “ضعفها العلني” أو المعلن والمجرّب أكثر من مرة، ب”جبروت سري”، ودولة سرية، تلعب ب”أوراق إقليمية سرية”،، و”مقاومة سرية”، و”جيش سري”، و”أحزاب وتنظيمات سرية”..إلخ.
سوريا لن تخرج من العراق، طالما إيران باقية هناك ومصممة على أيرنته(أو تشيّعه)، وأيرنة المنطقة برمتها.
سوريا لن تغير موقفها تجاه العراق، طالما هي باقية في اللعب مع إيران، بأوراق الآخرين، وركوب قضايا الآخرين، والتي تمثل فيها لكأنها “فلسطينية أكثر من مسجدها الأقصى”، و”لبنانيةً أكثر أرزه”، و”عراقية أكثر من الفراتين ونخيله”!
سوريا الأكثر من مزدوجة، في كلها(في داخلها وخارجها)، خاصة مع جاراتها وأخواتها العربيات، لن تتخلّى بسهولة عن سلوكها المزدوج، الذي طالما سلكته، وحذت فيه ولا تزال، حذو القاتل الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته.
حسناً فعل العراق، في “تصميمه على المضي قدما في مطالبة مجلس الامن بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاسبة المتورطين في التفجيرات الاخيرة في بغداد والذين يؤكد انهم في سوريا”، حسبما جاء في آخر تصريح أدلى به وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري.
وفقاً لمصادر الجامعة العربية، فإن وزراء الخارجية العرب، قد اعتزموا مناقشة التدهور الأخير في العلاقات بين بغداد ودمشق، وذلك في اجتماعات الدورة العادية ال131 لمجلس الجامعة التي ستعقد في يومي 9 و10 سبتمبر أيلول المقبل.
ولكن الأرجح هو، أنّ الحبوب السياسية المهدئة، والمنتهية صلاحيتها في “صيدلية الجامعة العربية”، والتي سينصح بها “طبيبها” عمرو موسى المسؤولين العراقيين والسوريين تناولها، سوف لن تعالج المرض من أساسه، بقدر ما أنها ستهدئه، أو تؤجله، كعادة كل وصفات الجامعة العربية، ومسكناتها المصعنّة خصيصاً، ل”تأجيل” آلام الأزمات العربية.
“صيدلية” عمرو موسى، قد تسكّن آلام “الإرهاب السوري” في “تشخيصها الروتيني القادم”، لبضع اجتماعات، ولكنها سوف لن تعالج أسبابه، بكل تأكيد، بين كلٍّ من “بغدادٍ المقتولة”، و”دمشق القاتلة، أو المتهمة المباشرة بصناعة القتل”، والتي تقتل العراق من الخلف، وتمشي مع جنازته في الأمام.
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى