مأزق لبناني وعربي أصلاً
سليمان تقي الدين
يقودنا الإسلام السياسي في المنطقة إلى مأزق كبير. النظام الرسمي العربي هو مسؤول أيضاً عن هذا المأزق بل هو وجهه الآخر. المواجهة بين الإسلام الحركي والأنظمة السياسية ومع مجتمعاتها أيضاً تنشر الفوضى في كل مكان. تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان ومشاريع «الشرق الأوسط الجديد»، والهجوم الغربي الذي لم يوفر بلداً، تعصف باستقرار المجتمعات. لا شيء الآن يمكن فهمه في كل النشاط السياسي إلا في ضوء مشاريع إعادة تفكيك المنطقة وتركيبها بين مصالح إقليمية ودولية متنازعة.
علينا ألا نستهين بأزمة لبنان السياسية. استسهلت القوى السياسية الانخراط في لعبة الأمم والمحاور ولم توفر لهذا البلد الصغير حداً أدنى من المناعة تجاه العواصف. على الناس أن يدركوا الترابط بين المشكلات والأزمات لعلها تساهم في ترجيح خيارات هي الأقل ضرراً.
في المناخ الإقليمي بدأت الإدارة الأميركية الحرب ولكنها عاجزة عن إطفائها، مهما قيل في سياسة أوباما ورغباته. محاولة احتواء النزاعات التي فجّرتها أميركا لم تعد ممكنة بالعودة إلى «التعاون مع الأنظمة الدكتاتورية» كما يقول المسؤول الأميركي السابق في إدارة بوش الابن (ولفووفيتز). التقاطع الظرفي بين مصالح أميركا في إنهاء طالبان وصدام حسين مع الدول المجاورة تجاوزته الأحداث. طالبان الآن تعيد بسط سلطتها على الوسط والجنوب وتتوسع في باكستان ما يقلق إيران وما يعمّق الفرز المذهبي والإثني في تلك المنطقة.
العراق لا يمكن أن يستعيد وحدته واستقراره إلا بتوافقات إقليمية كبرى. العنف المتجدد، محاولات تغيير المعادلات من داخل المكوّنات المذهبية لا مستقبل لها. المسألة المذهبية باتت أكثر عمقاً والمسألة الكردية باتت أكثر انفصالية. تركيا وإيران والمملكة السعودية وسوريا تحتاج إلى توافقات عميقة لإنقاذ العراق. فإذا كانت المملكة أو سواها من يرعى الحضور السني في «المقاومة» فإن إيران ترعى في خاصرة المملكة «شيعة اليمن» هذه على الأقل قراءة المملكة لحركة «الحوثيين» وقراءة القيادة اليمنية.
في لبنان الذي استورد التوتر المذهبي من فتنة العراق والصراع الإقليمي المكشوف فيه تنمو الأصوليات المذهبية بأسرع ما تلطّفها الأجواء الليبرالية والتعددية الطائفية، ولو على حساب المواجهة المباشرة المستمرة مع إسرائيل.
تختلف النزاعات المذهبية من بلد إلى آخر في حدة الخطاب وأشكال التعبير والمواقع المتباينة من السلطة، بين تكفير ظاهر كما يحصل في العراق وبين توتر متصاعد في اليمن وبين حذر في العلاقات بين الفرقاء اللبنانيين. لكن المسألة هي أن لكل مذهب روايته التاريخية المختلفة ورؤيته المستقبلية المتناقضة. يغرق العالم العربي والإسلامي في التديّن الطقوسي على حساب الثقافة الدينية المتسامحة. في الأفق مشاريع متناقضة عند المسلمين بين «خلافة» و«حاكمية» و«إمامة» ذات ولاية في الحاضر والمستقبل. هناك دول عدة أو سلطات تجسّد هذه الأفكار ولو بنماذج مختلفة. لم تعد هذه المشاريع مجرد طموحات وتمنيات. المنطقة كلها تنعطف نحو الإسلام السياسي بتواطؤ كبير من جميع الدول بدرجات مختلفة. بعض هذه الدول ترعى «الإسلام الجهادي» من كل المذاهب وتجعل منه مادة الصراعات السياسية. الإسلام السياسي الموروث هو المرجعية الشرعية لكل السياسات العربية، وهو ما يضع المقدس في قلب الحياة اليومية ويعطل كل احتمالات التفكير خارج قوالبه وشعاراته، لا مكان لأجوبة عقلية على احتياجات إنسانية، ولا مكان لوعي إنساني من تجربة معاصرة.
تحت هذا السطح السياسي هناك المكبوت والمستور، الذي يشكل ثقافة الناس ووعيها ويأخذها إلى رؤى دينية عادة ما تكون الملاذ الأخير وقت الشدائد. أزمات الإنسان المعاصر ليس عليها أجوبة لا في الشرق ولا في الغرب. حجم المشكلات المُستَلِبة لوعي الإنسان وقدرته على صنع مصيره ومستقبله تعزز الحاجة الإيمانية. لكن الناس لا تخرج على الحياة بأسئلة الفلاسفة بل بتفاصيل حياتها اليومية. يتكوّن وعيها في شروط اجتماعية هي في المجتمعات العربية، الطائفة والمذهب والقبيلة والعائلة والمؤسسة الدينية بكل ثقلها والتعليم بكل تشوهاته، والأنظمة السياسية وثقافتها وإعلامها وسلوكياتها والمظالم الاجتماعية على أنواعها.
لقد أنتجت الثقافة الغربية الحديثة ظاهرة الصهيونية وظاهرة الفاشية والعنصرية وظاهرة الإنجيلية الأميركية أو الصهيونية غير اليهودية (أو المسيحية) وهي ما زالت تنتج أفكاراً معاصرة عن صراع الحضارات والثقافات والأديان، فلن يكون حال الشرق المستضعف أكثر صحة وحيوية وأكثر إنسانية.
ليست هذه من باب الترف الفكري، هذه هي مشكلاتنا اليومية التي منها نلج إلى التعامل مع مسائل السياسة والاقتصاد والحرب والعلاقات الدولية. لبنان والعرب جميعاً هم في شبكة أو شباك هذه النزاعات وليس من حلول لا بإجراء من هنا وتدبير من هناك. لا يجب أن تستغرقنا اللحظة السياسية على حساب التفكير بمواجهة تحديات تفكك المجتمعات وإعادة تشكيلها على أسس النزاعات الإثنية والمذهبية. ولن نعطي حكم قيمة على هذا المسار أو الاختيار بل نؤكد أنه أنهار من الدماء تجري وزلازل من الفوضى والانهيارات والعنف، كأننا نقدم أضاحي بشرية لأصنام الفكر الذي أنتجه وينتجه «فقهاء» أو بشر مثلنا لم يعرفوا تجربة أنسنة الدين التي بها نخرج من منطقه القبلي أو بالأحرى من «الطائفية» التي هي الوجه القبلي من الدين ومن المذهبية تخصيصاً.