التديّن السلطوي و”فقه” الإمارة لكل حارة!
ماجد الشيخ
بين مسلكيات الافتعال والفرض القسري لـ “تديين” الحياة اليومية وأدلجتها، كم هائل ونوع أكثر هولا من تحولات ومحاولات فرض التطابق والتماثل، التي أمكنها أن تخلق كل هذه الدرجات والمستويات من الإيغال النوعي بالتمادي والتحكم بمجريات الحياة اليومية/الكلية للناس. وتلك جريمة يعاقب عليها القانون في بلاد الناس كلها، إلاّ في بلادنا أو في بعضها، ممن تفرض فيها قوانين التأدلج الصارمة، وقد “تتأسلم” ممارسات تضاد القانون، بل وتصادر وتمنع وتقمع كل حقوق الناس الطبيعية منها والمكتسبة. وما يجري تحت ظلال السلطة/السلطات الدينية أو الدينوية، يكاد يقارب ما يجري من ابتناء العديد من مقاربات الالتقاء الذاتي والموضوعي، بادعاءات أو بمزاعم “تديين” الحياة أو “أسلمتها” في الحالة، أو في الفضاء الإسلامي.
هنا تلعب السياسة، وكما كانت منذ البدء في المجتمعات التي “تأسلمت”، الدور الأبرز في الحط من قيمة الحياة لدى الناس، وعدم احترامها، في الوقت الذي يجري فيه الإعلاء من شأن “السلطة الغالبة” الفارضة هيمنتها بفعل الاستبداد المتقنع بالدين أو الناطق باسم السماء، فيما السماء براء من كل ما جرى ويجري باسمها. حتى “النص المقدس” أكثر براءة مما يرتكب باسمه، وتحت عناوين تأويله وتحميله ما لا يحتمل من تفاسير لا تفقه من الفقه سوى اسمه، وهي التي استدعت وتستدعي كل هذا الغلو والتطرف والإظلام والانحراف عن السلوك القويم والسليم لبني البشر.
هكذا أضحى ويضحي التأويل السياسوي المتمذهب طائفيا وعنصريا لـ “النص الديني” مدعاة للحلم بالإمارة، حتى صار يصدق القول عندنا أن لكل حارة إمارة، وأن لكل إمارة حارتها وحارسها المتعبد من أجلها، ولأجلها تجري أدلجة الحياة، بل وتحدي القضاء والقدر سواء بسواء؛ من أجل عيون وسواد عيون السلطة المشتهاة، وهي تذهب في “الساعة الصفر” إلى تحدي “السلطة الأكبر” وكل السلطات القائمة أو المتعارف عليها، واستجرارها للصدام معها، والإيغال في مسيرة متواصلة من القتل والقتل المضاد، والتضحية بالنفس، دونما مبرر سوى دوافع ومبررات وتبريرات القبض على سلطة الأدلجة الصارمة، وتوظيفها واستثمارها بالتحكم برقاب الناس، كوقود دائم لحرب “الأصوليات الشاردة”، الواردة إلينا من خلف الحدود، وتبنّي نماذج شكلانية تبدأ من الزي، إلى تلك النماذج “الجوهرانية” الدخيلة، وهي التي بدأت وتبدأ باستلهام النموذج الطالباني الفاقع، في تخلفه وارتداده عن قيم الحياة البشرية، ومحاولة نشر نماذج كهذه في بلاد لما تنجز بعد مهام تحررها الوطني، أو محاولة النهوض ببناء الدولة، أو الدفاع عن دورها في البناء الاقتصادي والاجتماعي، والتصادم الأيديولوجي الصارم والصادم مع كل الآخرين محليا وإقليميا ودوليا.
قديما.. كان “الإسلام العربي” هو النموذج الذي استطاع أن يغزو العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. صار “الوطن العربي” هو الذي يتعرض اليوم لغزوات النماذج غير العربية، وغير “الإسلامية” بالطبع، بعد أن “تغربنت” واغتربت نماذج “الأصولية الإسلاموية”، فما عادت بطبيعتها وطبعها تنتمي إلى أرض المنطلق، ولا إلى ناس المبتدا. ها هي تتحول الآن إلى إمارات وجزر معزولة عن الناس، وعن الأرض، وعن القضايا، وعن الوطن. صارت نماذج فاقعة للتفكك والتشظي، للعداء لأوطانها ودولها ومجتمعاتها، ولتآمر الإمارات الصغرى على إمارات أكبر، لشرعنة ما لا شرع يغطيه أو يأمر به، أو لتفقهة ما لم يجرؤ أي فقيه على إطلاق فتاوى تحض الناس على قتال بعضها، أو تنصب ذاتها سلطة “إلهية” لم تدانيها أي سلطة في التاريخ الديني، كل ذلك تحت ذرائع ومزاعم سماوية، والسماء أبرأ من كل ما زعموا ويزعمون.
وما جرى ويجري في قطاع غزة، وتحديدا إعلان “إمارة جامع ابن تيمية” في رفح، نموذج فاقع لرواد أو دعاة “الإمارات الإسلاموية” – وما أكثرهم – الذين يتحينون الفرص من أجل الإعلان عن إماراتهم في هذا الحي، أو ذاك الزاروب، أو تلك الحارة، أو هذه أو تلك من مناطق صارت بعد حين، تليق بإماراتهم، كونها “نضجت” أو “أنضجت” لمذبحة جديدة ومجازر استمرأ ويستمرئ البعض “مباركتها”، والتنظير لها “فقهيا” و “شرعيا”، وإعادة نسبها وانتسابها “إلهيا” .. إلخ من تأويلات ما أنزل الله به من سلطان أو نص، تصريحا أو تلميحا، نصا أو وحيا، ناسخا أو منسوخا!.
هكذا نمت وتنمو “الأصوليات” الانتحارية المتذابحة، حتى في ظلال “الأصوليات المعتدلة”، إذا اعتبرنا أن “سلطة حماس” في غزة هي من هذا الصنف الأخير، فليس مستغربا أن يجري استنبات مثل هذا الزرع الطحلبي الطفيلي، وسط أرض مهدت لها “حماس” الإخوانية، وتعهدتها بالرعاية والسقاية، كوليد من مواليد ما يطلقون عليه اسم “المشروع الإسلامي” وقواه المتكاثرة والمتناثرة، العاملة تفكيكا وتذريرا وتشظية؛ لأمة مُدّعاة أو لمجتمعات نخرتها وضربتها بسوس وهوس أدلوجاتها السلطوية/الاستبدادية، تلك المجاميع أو الجماعات المؤدلجة، المتشوقة لإقامة أو إنجاز حد السلطة أولا، ذلك الذي سيفتح أمامها آفاق إقامة حدود ما يعتقدونه “شرع الله” وما هو إلاّ شرعهم وفقههم القاتل، وحين “اشتد” ساعد هؤلاء حاولوا الرمي باتجاه حاضنتهم الطبيعية التي تعهدتهم بشكل أو بآخر، لتنتهي أو لا تنتهي، بل ليبدأ فصل جديد من معركة “الأصوليات المتناحرة” على السلطة. وعلى العموم، فإن كل “أصولية” هي مشروع سلطة، أو مشروع إمارة، أو مشروع انتحار.. وهنا نسأل أين فازت إمارات الانتحاريين، إن لم تفز إلاّ بالقتل؛ قتل الآخرين والانتحار بقتل النفس أو نسفها بما حزمت، أو بأدلوجاتها الناسفة ليس لوحدة “الدين” أو الدولة أو المجتمع، بل ونسف وحدة طوائفها ومذاهبها، وحتى عصاباتها الأصغر، وتذرير مجتمعاتها ووحداتها الأقلوية، وحتى نطاقاتها العشائرية والقبلية.
وإذ لم تستطع الاستراتيجيات القديمة، أو لم يتح لها “ملاحظة” عديد الصراعات الطائفية والمذهبية، حتى بين أتباع الديانة الواحدة، فلأن مثل هذه الصراعات أضحت تنحلّ في وقتنا الراهن، لدى أتباع “الأصوليات المتناحرة” في تذريرات أكثر تفتتا، وها هي تتحول إلى ذرات غير متناهية في الصغر، مبددة مقولة صراع الحضارات أو الثقافات، وكأن لم تكن أو لن تكون. فما يجري في بلادنا وما يجاورها من بلدان متماثلة في درجة “تطورها” ودرجة “تطورنا” الراهن، لا يضعنا في مواجهة أحد آخر سوى ذاتنا أو ذواتنا المتشظية والمفككة، فلا نحن حضاريا في مواجهة حضارة أو حضارات أخرى، ولا نحن ثقافيا بمقدورنا مواجهة ثقافات أخرى.
وفي ظل هذا الاستشراء التجهيلي الجاهل، والإظلامي الظلامي الظالم، لكل هذه اللوحة الفسيفسائية لـ “التديّن الأيديولوجي”، هل يكون هناك من طائل أو عائد لما يسمى “حوار الأديان”، أو لقاءات ومؤتمرات “التقريب بين الطوائف والمذاهب المختلفة” إلخ من أشكال تقارب التلفيق أكثر من مقاربتها أي مستوى من مستويات الجدية، في ظل هذا التفكك والتذرير الذي لا يمكنه أن يصنع أو ينتج وحدة واحدة من ذرة يمكنها أن تكون نواة وحدة شاملة، من شأنها أن تواجه آخر موحدا، يعرف أو يدرك أهدافه ومبتغاه الآن .. وفي المستقبل. فإلى أين من هنا، ومن هذا الواقع ومراراته و “علو كعبه” واستعلاءاته، وفقه الإمارة لكل حارة؟.
شبكة العلمانيين العرب