جلببة العلم على -سنّة- حماس
هوشنك بروكا
“اطلبوا العلم ولو بالصين، فإنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم”، هكذا حثَّ نبي الإسلام المسلمين على العلم، يوماً، كما جاء في أحد الأحاديث النبوية التي رواها البيهقي في المدخل(1/241)، وإبن الجوزي في الموضوعات(1/215)، والذهبي في الميزان(2/335)، والألباني في الضعيفة(416).
فعلى الرغم من “تكذيب” البعض من المدارس والتيارات الإسلامية لهذا الحديث، وتبويبه ضمن الأحاديث “الضعيفة”(حيث وصفه الألباني بالباطل، وإبن باز في “تحفته الكريمة” والسخاوي في “مقاصده الحسنة” بالضعيف)، إلا أن الحديث لا يزال يفعل فعله، في الكثير من الأدبيات الإسلامية التي تتناول العلم بإعتباره فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وطلب العلم في الصين، كما هو واضح من فحوى الحديث ومعناه، ههنا، لا يعني طلب العلم بإعتباره “علماً محجّبّاً”، أو “علماً مجلبباً”(علماً داخلاً في الجلباب أو ذاهباً إليه)، بقدر ما أنه يعني طلب العلم بإعتباره “معرفةً وكشفاً”، أي طلب العلم بلا حدود.
عليه، فالعلم في مفهوم النبي العربي، كما هو واضحٌ من هذا الحديث، ليس محدداً بجغرافيا وحدود وسدود، ولا مشروطاً ب”حجابٍ” أو “جلباب”، لأن العلم، بإعتباره طلباً وهدفاً ومبتغى، هو بيت القصيد في “فريضته”.
ما أصدرته مديرية التربية في “إمارة غزة الحمساوية”، أمس الأحد، من “إجراءات مشددة لفرض ارتداء الزي الإسلامي الشرعي، أي الجلباب، على الطالبات”، لا تتناقض مع حرية الطالبة(أو الطالب)، بإعتبارهما “عقلاً طالباً للعلم بلا حدود” فحسب، وإنما هي تتناقض أيضاً مع العلم بإعتباره “عقلاً مطلباً” فوق كل الحدود، وأعلى من كل السدود.
فالذي “يطلب العلم وإن في الصين”، ليس بالضرورة أن يطلبه مع الحجاب والجلباب أو على طريقتهما، لأن الهدف في النهاية، هو العلم بإعتباره هدفاً، وليس “حجابه أو جلبابه”، بإعتبارهما “طريقاً أو سبيلاً”.
ثم أنّ أكل “عنب” العلم، أهم بكثير من “قتل” نواطيره.
المدرسةُ ليست جامعاً أو مسجداً ل”هندسة” الصلوات. كما أنّ المدرسَ ليس خطيباً أو إماماً، لصناعة “المحللات والمحرّمات”.
المدرسةُ تعلّم طالب العلم علوم الدنيا، التي يستوجب على “أهل التربية” فصلها عن علوم الدين، التي لها أهلها وناسها وطلابها الخصوصيين المتفرّغين.
المدرسةُ تؤسس للإنسان وما حواليه من دنيا ويقينيات، ولا تؤسس لله وما حواليه من دين وسموات وغيبيات.
المدرسة لا دين لها، تماماً مثلما العلم لا يعرف حدوده في دينٍ أو طريقةٍ أو شريعةٍ واحدةٍ لا شريك لها.
المدرسة ليست مصلّى، أو جهةً للعبور إلى هذا الإله أو ذاك، بقيادة هذا النبي أو ذاك، وإنما هي جهة للعلم الذي لا نبي له، سوى العقل، الذي يساوي بدوره كل الإنسان.
المدرسة لا تؤسس لأديان ضد أخرى، ولا تهدم ديناً لتصنع منه أو به وفيه، ديناً آخر.
المدرسة، هي فوق الدين، ليس لأنها “أقدس”، وأنما لأنها أكثر سؤالاً وأكثر فتحاً للإنسان، وأكثر فتحاً للماضي منه وللحاضر، وللمستقبل به وفيه.
المدرسة، ليست حرماً ل”حجب” العلم، أو”جلببته”، أو”تأنيثه”، أو “تذكيره”، وإنما هي أوسع وأكبر وأعلى من كل ذلك، لأنها “بيت للعلم”، الذي تبدأ حدوده بالإنسان؛ كل الإنسان(ذكراً وأنثى)، العابر لكل الأديان وتواريخها.
طالب العلم، برأيي، ليس بالضرورة أن يكون “طالباً للدين”. وطالب الفيزياء والكيمياء والحساب، ليس بالضرورة أن يكون طالباً للحجاب والجلباب أو فيهما، أو ملفوفاً بهما.
العلم، ليس مذكراً ولا مؤنثاً؛ وليس مفرداً ضد الجمع، ولا جمعاً ضد المفرد، كما تقول “سنة” حماس، التي أمرت ب”خطف” حرية الفرد لصالح الجماعة، وب”تأنيث” المدارس، وتنظيفها وتطهيرها من كل ما يمكن أن يؤدي إلى إسمٍ مذكرٍ، أو إلى ظله، أو رائحته، وكأن الله خلق آدم في عالمٍ بلا أنثى للرجال فقط، وخلق حواء في عالمٍ آخرٍ بلا ذكر، للنساء فقط.
“تأنيث” المدارس، و”جلببة” العلم فيها، كما قررت “تربية حماس”، هو قرار “جاهلي”، هدفه “تجهيل” العلم، وإغراقه في المزيد من اللاعلم للعودة بركّابه وطلابه، إلى “جاهليته الأولى”.
زج العلم، بقرار “تربية ذكورية”(كقرار “تربويي حماس” هذا) في “جلباب أو زي فضفاض”، هو قرار “أكثر من جاهلي” خارج على كل العلم، لتفريغه من “حقيقته الإنسانية”، بإعتباره “عقلاً بشرياً”، يساوي الإنسان كله، في كونه ذكراً وأنثى.
إنّ قرار تشطير العقل إلى “عقلين ضدين”، وبالتالي فصل “عقل الأنثى” عن “عقل الذكر”، من خلال تطهير المدارس “المؤنثة” من “العقول المذكّرة”، هو قرار عنصري، يُراد به قتل العقل لحساب ضده، وقتل المدرسة لحساب التكية، وقتل طالب وطالبة العلم لحساب طلاب الجهل.
فهل هناك مثلاً، “رياضيات مؤنثة” وأخرى مذكرة؟
هل هناك فيزياء أو كيمياء “نسائية” وأخرى “رجالية”؟
ما العقل في “تأنيث” العلم أو “تذكيره”، ثم أوليس هذا جهلاً ما بعده جهل بإنسانية العلم، بإعتباره عابراً لكل الأديان وكل الثقافات وكل الحضارات؟
لماذا كل هذا الإصرار على “تديين العلم”، أو تلبيسه الجلباب، وتجهيله، ومسخه بالتالي إلى مجرد “كتلة لحم تتدحرج” وسط تابوهاتٍ تبدأ بالدين ولا تنته إلى أية دنيا؟
إذا كان العلم واحداً من وإلى عقل بشري واحد، فلماذا هذا الفصل القسري بين طالب العلم وطالبته، وشطرهما إلى إثنين ضدين، علماً أنّ كلاهما يدرسان داروين واحد، وفيثاغورث واحد، وأينشتاين واحد، وغاليليو واحد…إلخ؟
هل هناك “رياضيات حرام” أو “رياضيات كافرة” لأنها تلبس الميني روك، و”رياضيات أخرى حلال”، أو “رياضيات مؤمنة”، لكونها تلبس الحجاب أو الجلباب مثلاً؟
قرار “تربية حماس” ب”تأنيث المدارس”، وتشطيفها وتمشيطها من كل ذكر، ذكّرني بإحدى الفتاوى، التي صدرت من بعض الشيوخ المتخصصين المهووسين في صناعة التابو، الذين أفتوا فيها ب”تحريم تداول المرأة للخيار والموز والكوسا والجزر، خصوصاً تلك المقدّمَة إليها من الرجل، حتى لا تستثار جنسياً”، بحسب هؤلاء الفتوَجيين.
ففي الوقت الذي أفتى هؤلاء الشيوخ ب”قتل” الخيار والكوسا والموز والجزر وتقطيع أوصاله، كي لا تثير أشكالها “المغرية” و”طبيعتها الموَسوَسة والمدسوسة” المرأة، نرى شيوخ حماس وفقهاءها يفتون بقتل العلم، وتقطيعه إلى “علم مذكّر من الرجال للرجال فقط”، و”علم مؤنث من الإناث المحجبات المجلببات للإناث مثلهن، في الزي الفضفاض فقط”!
ما أخشاه، هو أن يأتي يوم، ويفتي هؤلاء الشيوخ بقتل “الرقم واحد”، و”الخط المستقيم”، في علوم الرياضيات، لأنهما يشبهان الخيار وأخوانه، أو يفتوا بإعدام مفردة “القضيب”(الشائعة الإستخدام في علوم الفيزياء وعلوم طبيعية أخرى) ومحوها من ذاكرة اللغة العربية، ربما منعاً لأي التباس ممكن قد يؤدي إلى إثارة ممكنة، في “المدارس الشرعية” أو “المدارس الحلال”!