صفحات العالمقضية فلسطين

بين جلباب تلميذات غزة وبرنامج حكومة فياض

نهلة الشهال
تغرق فلسطين اليوم في ما يقصد منه أن يكون رمزيات، وهي مما لا غنى عنه لأي مجتمع حتى يتماسك، ولأي كيان سياسي حتى يشرعن سلطته. تكثر هذه، ولكنها من الخواء بحيث تصبح رمزاً مضاداً، وابتذالاً محضاً، أو مسخرة. وهذه واحدة من علامات لا تخطئها بصيرة عن طبيعة المأزق وعمقه وإحكامه الذي تعيش فيه المسألة الفلسطينية.
حين أعلن أبو عمار في الجزائر عام 1988 ولادة دولة فلسطين، كان يمارس، ويقدم للعالم، فعل تحدٍ. يقول الخبثاء إنه ظاهر الأمور، وأن ياسر عرفات كان مذاك يمهد لما سيولد على شكل اتفاقيات أوسلو. لكن الخوض في صحة هذا الافتراض أو خطئه لا يهم. فمعنى ما أُعلن كان يتوافر على أفق مضاد لما بدا أنه واقع مطبق بإحكام. أعيد استحضار فلسطين بقوة وبزخم يحفز الخيال والأمل، بعد الخروج المذل من لبنان الذي احتلت القوات الإسرائيلية عاصمته، وبعدما تشرذم المقاتلون في معسكرات صحراوية تتشظى على امتداد العالم العربي، يبعد الواحد منها عن الآخر آلاف الكيلومترات، وكذلك عن فلسطين، بلا حول، رهائن – هم وقياداتهم – لرضا هذا وذاك من البلدان المضيفة، ومساعدات راحت تشح حتى كادت تنقطع.
ما آلت إليه تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني كان مأسوياً، ولا تلغي المأساة البعد البائس، أو الكارثي إن شئتم، في التجربة نفسها… ليس ذلك هو الموضوع الآن، بل مقارنة ذلك الفعل الرمزي (كمثال من ضمن غيره)، بالممارسة التي يفترض أنها تحمل شحنة رمزية اليوم، لتبيان الفارق النوعي، والاستدلال به في تحليل الموقف.
فمحمود عباس لم يكتف بمؤتمر فتح، الذي ولّد فأراً، بل ها هو يستقبل من رئيس وزرائه وثيقة ليست أقل من «فلسطين: إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة». وهذا عنوانها الرسمي وليس تشنيعاً من الحسّاد. والرجل ينوي انجاز ذلك في مهلة عامين! بحيث لا يدري المرء لماذا جرى الانتظار حتى الآن، طالما ان ذلك ممكن. أما كيف هو ممكن، فبند سري في الوثيقة. وفي حقيقة الأمر، فالعنوان الفخم يتقلص ليطابق تصور نتانياهو عن الحل الممكن للمسألة الفلسطينية.
فمن المعروف أن رئيس وزراء إسرائيل الحالي يدافع عن نظرية «الحقوق» الاقتصادية للفلسطينيين، وهي في عرفه أُم كل الحقوق وبديلها في آن، إذ يعتقد أنه إذا ما وجد الفلسطينيون أنفسهم في رخاء، يسهل عليهم الاستغناء عما عدا ذلك. وسلام فياض يريد إنشاء مطار في غور الأردن (حيث تزدهر المستوطنات الزراعية الإسرائيلية)، ويريد من المستثمرين العرب والعالميين أن يُقبلوا على فلسطين التي تعدهم بكل التسهيلات. ها قد طار من المشهد جدار الفصل والطرق الالتفافية والمستوطنون ومصادرة القدس وإخلاؤها من سكانها، وأرتال دبابات جيش «الدفاع» وطائراته المغيرة… وتصريحات نتانياهو نفسه عن الحقوق الأبدية لإسرائيل. أن يكون برنامج الحكومة الثالثة عشرة يخوض في تفاصيل عمل الوزارات كل على حدة، فأمر لا يلام عليه المسؤول، لا سيما إذا كان يعتد بأنه تكنوقراطي رفيع. ولكان في إمكانه أن يفعل مع أقل قدر ممكن من السياسة. وهذا، على رغم ما يثيره من إشكاليات واقعية، قد يكون مفيداً لتوفير الحد الأدنى من حسن اشتغال تلك الإدارات. أما الإطار الذي أدرج فيه فياض برنامجه، فطمح للانتماء إلى سوية توليد الرمز: سماه «وثيقة»، ورسم سراباً.
والبشع في الأمر أن السلطة الفلسطينية ومعها ساسة العالم، والعرب، وجدوا ذريعة توفر تبريراً مسبقاً للفشل المتوقع تماماً: الانقسام الفلسطيني! فتعفى هكذا إسرائيل من كل مسؤولية. والفكرة متداولة بمقدار من القوة والوثوق ببداهتها، مع أنها تزوير صاف، ولكن من يأبه، طالما ان الوضع الذاتي الفلسطيني يمنحها كل الحيثيات.
وعلى المقلب الآخر من الحالة الفلسطينية، تمعن «حماس» في العناية بكل ما من شأنه صون العفة الجنسية للغزاويين الواقعين في قبضتها. وهي تجيد التعاطي مع طقوس هذا الميدان ورمزياته وفق مفاهيم بدائية، بسيطة ومباشرة. وبالطبع، فالعُصاب المعتاد في هذا المجال يتمظهر في كل ما يتعلق بالمرأة.
ولعل مناسبة بدء العام الدراسي تمنحها فرصة تأكيد إسلاميتها الصارمة بعدما صفت دموياً تنظيم «أنصار الله» الذي كان يزايد عليها لهذه الجهة. ولكن الأخطر من الجلباب الكحلي وغطاء الرأس الأبيض ولون الحذاء المناسب لهما، صرف الأساتذة الذكور من مدارس البنات: بعض الجهد يا سادة وتصلون إلى إبقاء البنات في البيوت، فهذا أحفظ لهن، وأيسر في مساعدة الذكور على عدم الوقوع في الفتنة.
وحين ينتقد هذا القرار، تعتمد «حماس» في الرد منطقاً ذا دلالة قوية: تلقي بتبعة القرار على مديري المدارس (يا للشجاعة!)، وتصغّر من شأنه فيغدو تدبيراً عادياً اختاره الغزاويون بكل حرية، وهم أبناء مجتمع مسلم ومحافظ. ثم تحاجّ بأن من المعيب التصدي لهذه المسائل بينما كل حقوق الفلسطينيين منتهكة، وأنه أجدر الالتفات إلى حق التنقل الحر بينما معابر غزة مقفلة الخ.
وتنهي بأن رد الفعل الناقد «مغرض». ويحار المرء: هل المطلوب ترك غزة وأهلها تتدبرهم «حماس» وحدها، وفق ما ترى، وإلا كان التدخل غرضياً بل مشبوهاً في شكل من الأشكال، إذ يركز على مسائل لا علاقة لها بالاحتلال، بينما «حماس» لا تملك من أمر فعلها السياسي سوى ترداد شعارات عمومية ضد إسرائيل، لا تصوراً لكيفية مقارعتها، ولا قراءة للحظة التي توجد فيها المسألة الفلسطينية برمتها.
الإفلاح الوحيد يتمثل بالتركيز على مثالب السلطة، وهي أصلاً عارية. فإن لم تكن هذه ممارسة لـ «الحرتقات»، عوض السياسة، واستكانة لتقاسم العيش في المستنقع الآسن الذي يغرق فيه الوضع الفلسطيني برمته (والمقصود في جانبه الذاتي)، فما الاسم المناسب لها؟ لا يقوى جلباب البنات على توليد رمز لما تريد «حماس» أن تكون صورتها عليه. أما الرعب، فأن يُدفع الغزاويون يوماً، من الإنهاك ومن اليأس، إلى رفع رمز شهير عبر الزمان والمكان، هو ذلك المربع الأبيض.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى