صفحات مختارة

“الاسلام، نزوات العنف واستراتيجيات الاصلاح” الصرخة حققت غايتها العقلية

خالد غزال
في كتابه الصادر عن “دار الطليعة” في بيروت و”رابطة العقلانيين العرب” بعنوان “الاسلام، نزوات العنف واستراتيجيات الاصلاح”، يقدم محمد الحداد تلخيصا للاطروحة التي دافع عنها في كتابه بالقول: “كل المجتمعات الاسلامية فاقدة للقوة التي اصبحت قائمة على العلم والتكنولوجيا. غياب القوة مع استمرار ثقافة القوة (الجهاد، الثورة، المزايدات والشعارات بمختلف اصنافها…) يؤدي الى تنامي انتاج العنف الذي هو غير القوة. ممارسة العنف تتخذ ذريعة للاقوياء لمزيد من اضعاف فاقدي القوة الحقيقية”. انطلاقا من هذه الاطروحة يعرض الحداد لقضايا تتصل بواقع المجتمعات العربية والمعضلات التي تبدو مستعصية على الاصلاح وخروج هذه المجتمعات من اسار التخلف الذي تقيم فيه.
في نظرة ولو كانت سطحية الى حال المجتمعات العربية، تظهر اعراض الضعف بادية على مجمل الميادين. وخلافا للنرجسية العربية التي تسقط دوما الماضي الذي كان يعرف فيه العرب قوة وبأسا لقرون مضت وخصوصا في العصور الوسطى، تقبع المجتمعات العربية اليوم في الدرك الاسفل بمقاييس التطور والقوة في الزمن الراهن. يكمن مصدر الضعف في عجز هذه المجتمعات عن الدخول في العصر والافادة من الثورة العلمية والتكنولوجية التي تشكل وحدها مصدر قوة الدولة حاليا. لا يعني ان المجتمعات العربية بعيدة كليا عن مصادر التكنولوجيا، فهي ادخلت الكثير منها، ولكنه ادخال في الشكل من دون اقرانه بالفكر الذي انتج هذه التكنولوجيا في موطنها الاصلي، وهو فكر اساسه الثورة الفكرية وسيادة العقلانية والتغلب على الاساطير والخرافات التي وقفت طويلا حاجزا امام التقدم العلمي والفلسفي في الغرب.
يرتبط فقدان مصادر القوة في المجتمعات العربية والاسلامية بنمط الثقافة السائدة، والتي اتخذت ذروتها اليوم من خلال صعود الاسلام السياسي ومعه الحركات الاصولية التي تعتبر ان الثقافة التي تستحق ان تسود وتسيطر انما هي ثقافة الجهاد. يجري تسخير وسائل الاعلام وتتجند مؤسسات دينية في استخراج آيات الجهاد من النص الديني وتوجيه الاجيال الشابة الى الجهاد في سبيل الله بوصفه العامل الرئيسي في استعادة الاسلام القوة. نجم عن تغليب ثقافة الجهاد وصم الاسلام بالعنف، واعتبار انه يكمن في جوهر الدين الاسلامي، وما الاعمال الارهابية سوى التعبير المنطقي عن الايديولوجيا الكامنة وراء ممارسة الحركات الاصولية.
لا يمكن انكار ان الاسلام يحوي في نصوصه الدينية ما يدعو الى العنف، وهي آيات قليلة في مقابل العدد الاكبر الذي يدعو الى التسامح والرحمة والمحبة. نزلت آيات العنف في مراحل محددة في تاريخ الدعوة النبوية وكانت متصلة بالصراعات الدائرة حول نشر الدين الاسلامي، وفي مواجهة خصومه. يتمسك الخطاب الاصولي بهذه الآيات انطلاقا من مقولة لا تزال سائدة بأن النص القرآني صالح لكل زمان ومكان، وتالياً فإن هذه الآيات تكتسب مشروعية في اعتمادها، وهو أمر تجد فيه الأصولية منطقا يغطي ممارستها، مستندة الى ان قراءة غير ظاهرية للنص الديني لم تجر في المؤسسة الدينية، ولم يجرؤ احد على القول بتقادم زمن هذه الآيات وعدم صلاحيتها لعصرنا الراهن.
اذا كان النص الديني يعطي مشروعية لـ”العنف الاسلامي”، الا ان عوامل اخرى قد تكون هي الأفعل في اندلاع هذا العنف. اولها ما تعانيه المجتمعات العربية من معضلات بنيوية تتصل بالتهميش والفقر والبطالة والتخلف والامية وغيرها من عوامل تصبّ كلها في تأجيج عناصر التمرد لدى اجيال شابة فاقدة الامل في مستوى من الحياة الفضلى. صحيح ان السلطات الحاكمة تتحمل مسؤولية مركزية في هذا العجز عن تأمين مستوى لائق لشعوبها، الا ان السياسات الاستعمارية التي امعنت استغلالا ونهبا للثروات العربية تلعب دورا اساسيا ايضا في تصدير هذا العنف. تشكل السياسات الاستعمارية والسيطرة على الموارد العربية العامل المكمل لتخلف البنى العربية. ولعبت الهزائم التي مني بها العرب امام الاستعمار والمشروع الصهيوني دورا كبيرا في تصعيد العنف الاصولي الذي قدّم نفسه جوابا عن الهزائم وأملا في اعادة مجد الاسلام والحاق الهزائم بهذا المستعمر المباشر وغير المباشر.
يخلص محمد الحداد الى تأكيد اعتبار قضية الاصلاح الديني في الاسلام من القضايا المتصفة بالاستعجال والالحاحية. واذا كان هذا الاصلاح يتطلب حكما مراجعة للفكر الديني وللمواقف والاحكام السائدة، الا انه يتطلب بشكل اكبر مراجعة حقيقية لوظائف الدين في العصر الحديث. “فبدل ان ينظر الى الاصلاح الديني في علاقة بتجارب ماض مختلف، يجدر ان ينظر اليه في علاقة بالعلم الحديث ومثله. والاصلاح الديني الحقيقي ليس الذي يواجه المثل الحديثة بالمثل الدينية بل هو الذي يعيد صياغة المثل الدينية لتشارك ملايين البشر كل التقاليد الدينية في ذلك الطموح. اما اذا ظل الكثيرون يتحدثون عن الاصلاح الديني وهم يعملون على الدعوة الصريحة او المتخفية الى السيطرة واقامة الدولة الدينية على نمط العصر الوسيط، فلن يكون سعيهم سبيلا لاستعادة القوة والمنعة بل طريقا للطائفية ولمزيد من اضعاف المجتمعات وتمزيق وحدتها لتسهل سيطرة الاجنبي عليها”.
هكذا تبدو صرخة محمد الحداد في مكانها تماما لجهة أخطار تجاهل الدعوة الى تحقيق الاصلاح الديني، فهذا الاصلاح يبدو اليوم واحدا من الشروط الضرورية لاعادة الاسلام الى جوهره الحقيقي بوصفه رسالة سموية تدعو الى التوحيد الالهي وتتسم بأبعاد روحية واخلاقية وانسانية. وحده الاصلاح الديني ينفي عن الاسلام ما تصر الحركات الاصولية على اعتباره دولة وحكما وتسخّر عملها لإقامة هذه الدولة الدينية. كما ان الاصلاح الديني يشكل الشرط الضروري لنهضة المجتمعات العربية وخروجها من العصور الظلامية التي يجري تكريسها بشكل متواصل والاصرار على البقاء داخل جدرانها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى