دمشق تنتقل من موقع المراقب إلى موقع الدفاع، لا ثمـن تدفعـه سـوريـا فـي لبـنان بسـبـب العـراق
جورج علم
تأثر لبنان بارتدادات الهزّة الأخيرة التي أصابت العلاقات السوريّة ـ العراقيّة، إلاّ أن المعلومات المدققة غير مكتملة، لأن الصورة لا تزال ضبابيّة، خصوصاً ما يتعلق بالأمن والسياسة، أما على المستوى الاقتصادي وحركة الترانزيت، فهناك الكثير من التجار والصناعييّن الذين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً من انزلاق العلاقات بين دمشق وبغداد نحو الأسوأ، وما قد يترتب على ذلك من تدابير صارمة على الحدود مع تخوف من احتمال إقفالها إذا ما تبيّن أن هناك مخططاً خارجيّاً يتجاوز إرادة البلدين الجارين.
وفي موازاة القلق الاقتصادي المكبوت، والذي لا يزال في حدوده المتدنيّة، يبرز قلق سياسي نابع من واقع الحال الذي يعاني من عجز محبط يتمثل في عدم القدرة على تشكيل حكومة تعكس اطمئناناً في الشارع، وعدم القدرة على ترويض الخطاب السياسي الجامح وعقلنته، وعدم القدرة على الإمساك جيداً بزمام الأمن الاقتصادي ـ الاجتماعي، وحماية لقمة العيش من المضاربات العشوائيّة.
وفي ظلّ مساحة الفراغ التي تتسع يوماً بعد يوم، ومعها الانتظار الممل، كان التعويل على الأشقاء العرب، وعلى المصالحات التي كانت مغمورة برهانات محليّة عن إمكانية تفعيلها وتطويرها كي تشكل سنداً للوضع الداخلي المتداعي، ورافعة قادرة على انتشال الوطن الصغير، ومنعه من الغرق في لجج حساباته الشخصانية، وكيدياته الطائفية والمذهبية.
وليست المخاوف الأمنيّة ببعيدة عن المشهد السياسي، ويكفي أن تكون التفجيرات الانتحاريّة الداميّة في العراق، هي السبب المعلن لتفاقم الأزمة مع سوريا، حتى تستعيد الذاكرة المحليّة وعيها حول ملفات مفتوحة قد تفرض نفسها من جديد كأولويات متصلة بشبكات الإرهاب المتنقلة، والحدود المفتوحة، والمعابر غير الشرعيّة، وعمليات التسلل، والعودة إلى مطالعات تيري رود لارسن حول القرار 1559، وعدم تطبيقه بالكامل، وما أورده في وقت سابق، وفي معرض تقاريره من اتهامات ضدّ سوريا.
ويرى بعض الدبلوماسييّن العرب أنه من الصعب جدّاً التكهن حول ما ستؤول إليه الأمور بين سوريا والعراق، وهل الأزمة الناشئة مرشحة إلى التفاقم، أم سيتم احتواؤها قبل أن ينعقد الاجتماع الدوري لمجلس وزراء الخارجية في دورته العادية في مقر الجامعة العربية في القاهرة يومي التاسع والعاشر من أيلول المقبل، لكن أيّاً تكن النتائج، او الخيارات فإن العلاقات السورية ـ اللبنانية أمام معطيات جديدة وحسابات مختلفة عن السابق، من عناوينها أن دمشق ترفض ان تكون بين «فكي الكماشة الأميركيّة» والتي تحاول ان تضغط عليها من الساحة اللبنانية من جهة، والساحة العراقيّة من جهة أخرى، وإن اختلفت الظروف والمعطيات في كلّ من الساحتين، وترفض أن تترك لإسرائيل المجال كي تستفيد من الفرص المؤاتية لتملي شروطها وخياراتها.
وتنطلق النظرة السورية الجديدة من الواقع اللبناني الماثل، وهي الملمّة جيداً بتفاصيل ما يجري، وحقيقة الأسباب الكامنة وراء تعذّر تأليف حكومة وحدة وطنيّة، على الرغم من التسهيلات التي حاولت تأمينها في مرحلة سابقة بالتنسيق والتعاون مع الرياض، وخلفيات وأبعاد الدور الأميركي الناشط على الساحة المحليّة ومن دون أي كوابح او معوقات، وتدخله السافر في كل شاردة او واردة، وتخطيطه المستمر للتوجهات التي يفترض اتباعها من قبل فريق واسع من اللبنانييّن، والمكائد التي يحاول نصبها للإيقاع بحلفاء سوريا وتالياً بسوريا في لبنان.
أما الدور الإسرائيلي المعطّل فلا يحتاج الى دلالات وقد كشف بنيامين نتنياهو النقاب عنه عندما حذّر لبنان من مغبة تأليف حكومة يكون «حزب الله» شريكاً في عضويتها، وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى حجم التنسيق الأميركي ـ الإسرائيلي، وعلى عملية توزيع الأدوار لكي تكون في لبنان حكومة، لكن وفق المعايير والمواصفات التي ترتاح لها واشنطن، وتل أبيب.
وأمام هذا المنعطف يختلف الاجتهاد، إذ يرى فريق من الدبلوماسييّن أن من مصلحة لبنان الرسمي أن يمدَّ يد التعاون قوية مع دمشق لتحصين ساحته المستهدفة أمنيّاً، ولمواجهة التحديات الخارجيّة الهادفة إلى اجتياح الحدود والساحات والأنظمة في المنطقة خدمة للمشاريع الاستيعابيّة ـ التوسعيّة المستوردة، وفي هذه الحال يترتب على الرئيس المكلّف سعد الحريري أن يطور خطابه السياسي الانفتاحي الذي بدأه ليل السابع من حزيران الماضي، عندما أطلّ على ماكينته الانتخابية في قريطم معلناً عن استعداده لفتح صفحة جديدة مع سوريا قائمة على الاحترام المتبادل، وربما عليه مراجعة الكثير من الحسابات المفتوحة، وقراءة الواقع بلغة موضوعيّة، والتطلع نحو المستقبل بنظرة ثاقبة حتى ولو أدى الأمر إلى البحث عن تموضع سياسي جديد مختلف تماماً عن التموضع الحالي إذا كان يريد أن يكون فعلاً على رأس حكومة فاعلة ومنتجة وقادرة على جبه التحديات الكثيرة والكبيرة التي تواجه لبنان إن في الداخل او من الخارج.
ويرى الفريق الآخر ان تسارع الأحداث والتطورات، يضيّق من باب الخيارات المتاحة أمام المسؤولين اللبنانيين، وتحديدا أمام الرئيس المكلف، بمعنى ان المبادرة لا تزال في بيروت، لكن إذا ما استمرت الأمور كما هي عليه، فهذا من شأنه أن يعززّ المخاوف والشكوك السورية، وعلى قاعدة ان الفريق الأكثري بزعامة رئيس تيار المستقبل ـ الرئيس المكلّف بتأليف الحكومة ـ سعد الحريري لا يزال يضع كامل بيضه في السلّة الأميركيّة، ولا يزال يراهن على الدور الأميركي والسياسة التي ينفّذها جيفري فيلتمان، وعلى بناء المزيد من مداميك الجفاء والكيدية في العلاقات اللبنانية ـ السوريّة، وهذا ما سيدفع بدمشق الى ان تنتقل من موقع المتابعة والمراقبة عن بعد، الى الموقع الذي يسمح لها بالدفاع عن مصالحها والوقوف بقوة بوجه التمدد الذي يستهدفها في نهاية المطاف ويستهدف مرتكزات صمودها في وجه التحديات، خصوصا إذا ما تأكد لها ان الأميركي من خلال ممارساته وتكتيكاته إنما يحاول محاصرتها، ووضعها أمام سياسة الأمر الواقع وفرض شروطه عليها، وإفساح المجال أمام إسرائيل كي تفرض بالمقابل شروطها.
وما بين هذه القراءة وتلك يجمع الرأي على قواسم مشتركة منها ان الفريق الأكثري برئاسة الحريري مدعو الى قراءة تحديات المرحلة بروح عالية من المسؤوليّة انطلاقا مما يجري في اليمن بين السلطة والحوثيين في صعدة، والتدخلات الدوليّة ـ الإقليميّة ـ العربيّة المتصادمة هنالك، مروراً بما يجري في العراق من تفجيرات وحمامات من الدم، أرخت بثقلها على العلاقات العراقيّة ـ السورية المتوترة، وصولاً الى الساحة اللبنانية المفتوحة على كل الاحتمالات بين من يريد ان يكون في المحور الأميركي ومن معه، وبين من يتشبث في ان يكون الى جانب المحور السوري ومن معه، فيما عامل الوقت لم يعد لمصلحة الاسترسال في الفراغ الذي «يولّد القلّة، والقلّة التي ستولّد حكماً النقار؟!».
السفير