فلسطين: تراجع عربي .. تقدم دولي
سمير كرم
السمة الأساسية والواضحة الآن لحالة القضية العربية ـ ونعني بها هنا القضية الفلسطينية بالدرجة الاولى ـ هي أنها تتراجع على الجبهة العربية بينما تتقدم على الساحة الدولية.
ويمكن التعبير عن هذه المفارقة الكبيرة بطريقة اخرى ـ او من زاوية اخرى ـ بأن نقول إن إسرائيل تتقدم على الجبهة العربية بينما تتراجع على الجبهة الدولية.
نعم هي مفارقة كبيرة تحكم الوضع القائم المستمر منذ عشر سنوات، او لعلنا نقول منذ توقيع اتفاقية أوسلو.
ما الذي خلق هذه المفارقة؟ ما الذي جعل المجتمع الدولي بمعناه العام وليس بمعنى دوله وحكوماته فحسب، إنما بالإضافة إليها منظماته الدولية والمدنية، وحتى تنظيماته الجماهيرية، تنفتح اكثر على القضية الفلسطينية وتتخذ مواقف أكثر إيجابية بكثير إذا قورنت بمواقف المجتمع الدولي قبل ثلاثين عاماً؟ ما الذي جعل الجبهة العربية ذات الصلة الحميمة بالقضية الفلسطينية ـ القضية العربية الأولى والأَولى بالرعاية ـ تقترب أكثر الى قبول إسرائيل وشروطها ومطالبها من الفلسطينيين ومن العرب عموما.. باستثناء عدد من الدول العربية يعد على أصابع اليد الواحدة ينتهج سياسة الممانعة ويمارسها تحت ضغوط من كل نوع؟
هذه كلها أسئلة تبحث عن تفسير لهذه المفارقة الكبيرة. ولكي تتضح الصورة أكثر فإننا مطالبون بأن نشرح مكونات هذا الوضع الذي فيه تتراجع القضية عربياً وتتقدم دولياً.. تتراجع إسرائيل على الجبهة الدولية وتتقدم على الجبهة العربية.
ليس من شك ـ على سبيل المثال ـ في أننا اذا ركزنا النظر على جبهة غزة نرى بوضوح كيف ان المجتمع الدولي ـ ممثلاً في تنظيماته الجماهيرية وفي جماهيره غير المنظمة على السواءـ قد اظهر بكل التجليات والوسائل معارضته للحرب الإسرائيلية على غزة، بالمظاهرات والمسيرات والاحتجاجات، بينما كان أداء الجماهير العربية اقرب الى التقصير في إعلان هذه المعارضة، فضلاً عن الإعلان ـ بأي صورة جدية ـ عن استعداد حقيقي لمؤازرة غزة بموقف نضالي كفاحي مسلح. وقد اثبت الموقف الجماهيري الدولي استعداداً جدياً لمقاومة الحصار الإسرائيلي على غزة بمحاولات اقتحام هذا الحصار بسفن المساعدة وكسر الحصار مرة بعد اخرى بعد ثالثة وحتى عاشرة، فيما كان الموقف العربي من هذا الحصار موقف الداعم والمؤيد لمحاصرة غزة والتضييق على سكانها وعلى قياداتها بشتى السبل، حتى لقد بدا في بعض الأوقات أن تنفيذ الاتفاقات والعهود مع إسرائيل يتقدم على اي رابطة دم عربية تربط مصر بغزة وغزة بمصر.
ونبقى على جبهة غزة لنرى كيف ان جبهات دولية عديدة ـ رسمية وجماهيرية ـ تتصدى لما ارتكبته اسرائيل خلال حربها على هذا القطاع فتوجه الاتهامات صريحة وقوية لجيش الدفاع الاسرائيلي وقادة اسرائيل، عسكريين ومدنيين، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حربهم على القطاع. ولا تزال هذه الجهود ماضية في طريقها تؤرق إسرائيل وقياداتها. في حين ان المؤسسات العربية الرسمية والاهلية تقاعست ـ نكاد نقول تماما ـ عن أداء مثل هذا الدور، مع العلم بأن بعضها قريب قرب الحدود المشتركة مع غزة، بل تعمق التقاعس ليأخذ صورة التواطؤ في إحكام خناق الحصار على غزة بعد الحرب، اكثر منه قبلها.
لم يعد النفوذ الصهيوني على اوروبا مطلق القدرة على منع أي اتهام من ان يوجه الى إسرائيل، بل اصبح يتمترس في خنادق دفاعية بحتة يحاول منها ان يصد هجمات الاتهام والنقد والمساءلة والمحاسبة عن حكومة إسرائيل. اصبح من الممكن ان نقرأ في عناوين الصحف الأوروبية والاسرائيلية ـ والعربية نقلا عنها ـ ما يصف استقبال رئيس الوزراء الاسرائيلي في لندن الاسبوع الماضي بأنه «استقبال مجرم حرب».
الحركة العالمية ـ الأوروبية المنشأ ـ الرامية الى ممارسة مقاطعة تجارية ومهنية وسياسية ضد اسرائيل، تزداد اتساعاً، وتصل بأكثر من أصدائها الى الولايات المتحدة لتجد مؤيدين في بلد لا يزال يعد المرتع الخصب للصهيونية وأنصار إسرائيل ظالمة ومعتدية. اما على الجبهة العربية فإن دعوة التطبيع الآتية من تل ابيب ومن واشنطن في تنسيق واحد ـ تجد لدى حكومات هذه الجبهة في معظمها استعداداً للاستجابة لهذه الدعوة، الأمر الذي يعني ـ بطريقة مباشرة احياناً وغير مباشرة احياناً اخرى ـ عرقلة حملة «مقاطعة إسرائيل» وتوجيه الضربات اليها. مع ذلك لا يزال يبدو ان الداعين الى مقاطعة اسرائيل يواصلون حملتهم بزخم بصرف النظر عن استعداد نظم الاعتدال العربية لقبول شروط التطبيع ورؤية حتمية التوقيع على معاهدات سلام مع اسرائيل على أنها حتمية تاريخية لا مفر منها.
غير بعيد عن غزة نستطيع ان نلاحظ تراجع حظوظ حزب الله اللبناني على الجبهة العربية، بعد أن أيدته الجماهير العربية كما لم تؤيد نضالاً او مقاومة منذ زمن عبد الناصر. وبدلاً من الدعم والتأييد لدور حزب الله باعتباره دور المقاومة اللبنانية في مواجهة شراسة اسرائيل، وباعتباره القوة التي برهنت على قدرتها على التصدي لإسرائيل وإرغامها على التراجع استراتيجياً وأمنياً، اصبح نصيب المقاومة اللبنانية ـ ممثلة في حزب الله ـ هو المحاكمة بتهمة التآمر على أهداف اسرائيلية، هكذا بصريح العبارة.
يحدث هذا في الوقت الذي يكسب فيه حزب الله مواقع رسمية وغير رسمية اوروبية وأميركية تتفهم اهمية التواصل معه بدلاً من إغفاله. لم يكن من المتصور حتى وقت قريب ان تفتح ابوابها لممثلي الحزب للتفاوض والتباحث معهم بشأن مستقبل لبنان ومستقبل المنطقة ومستقبل العلاقات مع اوروبا والعالم.
وتمتلئ الصحافة الإسرائيلية ـ كل يوم اكثر من اليوم الذي يسبقه ـ بأدلة الغضب على ما يمكن ان يحدث لإسرائيل تحت وطأة حملة المقاطعة ـ التي يعتبرها بعض الإسرائيليين الذين لا يدينون بالصهيونية بل يعارضونها، الوسيلة الممكنة الوحيدة لإنقاذ اسرائيل من حكومات صهيونية متعاقبة، مرة ذات طابع يميني متطرف ومرة ذات طابع يساري مزيف.
ولعل اهم ظواهر تقدم القضية العربية ـ الفلسطينية تحديداً على الجبهة الدولية اتساع دائرة التأييد بصورة غير مسبوقة لفكرة «الدولة الواحدة الديموقراطية في فلسطين يعيش فيها الفلسطينيون واليهود جنباً الى جنب» على حساب فكرة «حل الدولتين»، واحدة نعرفها وعانينا منها ما عانينا على مدى ستين عاماً، ودولة فلسطينية منزوعة السيادة قبل ان تكون منزوعة السلاح.
كان تأييد فكرة «الدولة الواحدة الديموقراطية» لفلسطين موقف أقلية صغيرة من اليسار الاوروبي والأميركي..والآن تسود نزعة مراجعة للنفس بشأن فكرة الدولتين حتى بعد ان اصبحت اكثر رواجاً على ألسنة رؤساء اميركا والدول الاوروبية. ان الدولة الواحدة تتحول الى بديل اكثر واقعية وأشد مدعاة للأمل بالنسبة للفلسطينيين وبالنسبة لليهود غير الصهاينة. إنها الفكرة المستقبلية الأكثر إشراقاً ولمعاناً الآن في أذهان المفكرين التقدميين الذين يعرفون ان حل الدولتين لن يجلب الا التعاسة والعبودية للشعب الفلسطيني والمشكلات والرغبة في الهجرة العكسية لدى اليهود.
يحدث هذا فيما يزداد الترويج ـ على الجبهة العربية ـ لحل الدولتين مع القبول بالشروط الإسرائيلية لهذا الحل ـ ابتداء من نزع سلاح الدولة الثانية (الفلسطينية) وتركها بغير حدود مرسومة وتركها تغير قواعد ممارسة السيادة على ارضها وشعبها، وبغير قواعد تحدد العلاقات بينها وبين الدول العربية، مع فرض حدود وقيود وحواجز من كل نوع على طبيعة العلاقات بينها وبين فلسطينيي 1948 داخل اسرائيل، ورفض كل علاقة مع فلسطينيي الشتات.
ومن الواضح ان فكرة الدولة الفلسطينية الديموقراطية الواحدة للفلسطينيين واليهود معاً لا تلقى اهتماماً في الجبهة العربية. حتى من اليسار، وحتى من الدارسين الأكاديميين، وكأن الحكومات العربية استطاعت ان تفرض ـ كما هي عادتها ـ حظراً على هذا المشروع الأكثر حيوية ونبلاً ووعداً بمستقبل افضل في فلسطين بجاليتيها. ويبدو ان الحكومات العربية ـ في منظومة الاعتدال ـ وصلت الى قناعة «نهائية» باستحالة عالم بلا إسرائيل…بينما الفكرة قائمة وحية ومطروحة للنقاش في اطار حل الدولة الواحدة الديموقراطية لدى مفكري العالم وتنظيماته الجماهيرية (..)
يضاف الى هذا كله ان الترسانة النووية الإسرائيلية (كما أوضحنا في مقال سابق) اصبحت مصدر انزعاج عالمي ملحوظ في كثير من بلدان العالم المعنية بحظر الانتشار النووي.. فيما لا تزال الجبهة العربية قابعة على موقع السكوت عن هذه الترسانة استسلاماً لفكرة استحالة نزع سلاح إسرائيل النووي، حتى بينما تطرح الولايات المتحدة ـ باقتراح رئيسها باراك اوباما ـ فكرة تخليص العالم كله من الاسلحة النووية، بما في ذلك الأسلحة النووية الاميركية.
اما ان الجبهة العربية تبدو غير مستعدة على الاطلاق لاستغلال كل هذه التغييرات التي طرأت على الجبهة العالمية لصالح قضية فلسطين العربية..فهذا مدعاة لألم بلا حدود، ربما لأن هذه التغيرات العالمية حدثت بلا نضال وبلا مجهود حقيقي من جانب العرب، انما استجابة لمعاناة الشعب الفلسطيني وقدرته الخلاقة على الاستمرار في الدفاع عن قضيته وحقوقه وبذل تضحيات الدم من اجلها. لقد توقفت الجبهة العربية عن النضال الحقيقي من اجل فلسطين منذ ستة وثلاثين عاما ـ منذ حرب تشرين/اكتوبر1973ـ فانقطعت صلتها الحيوية بالقضية الفلسطينية كساحة نضال لتتحول الى ساحة سجالات كلامية في المنظمات الدولية والإقليمية وفي مؤتمرات القمة الدورية وغير الدورية. ثمة شعور لدى حكومات المنظومة العربية المعتدلة بأنها تقترب من نهاية القضية، في حين انها تقترب من نهاية مرحلة منها، حتى على فرض ان حل الدولتين سيجد طريقه الى التنفيذ. ولهذا فإنها تتصور ان المرحلة التالية ستكون مرحلة استرخاء في ظل سلام تعاهدي مع اسرائيل. وهي ابعد ما تكون عن الحقيقة.
والحقيقة يعيها بعمق المجتمع الدولي الذي يقف الآن ضد إسرائيل الصهيونية وضد حل الدولتين وضد الترسانة النووية الاسرائيلية باعتبارها جميعاً مكونات مأساة كبيرة تلح على الاستمرار.
قد يكون من المناسب ان نتذكر ان المجتمع الدولي ـ بما فيه المجتمع الاميركي ـ التقى على رفض الحرب الاميركية على فيتنام في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، حتى حينما كان «الوفاق الدولي» يأخذ طريقة الى تشكيل العلاقات الاميركية ـ السوفياتية والاميركية ـ الصينية. مع ذلك لم يتأثر مسار المقاومة الفيتنامية بهذا الوفاق، فلم ينلها الضعف ولم يقترب منها الانشقاق. كذلك فإن النزاع الأيديولوجي الحاد الذي وقع بين التيار السوفياتي والتيار الصيني ـ وكلاهما كان سنداً مباشراً للمقاومة الفيتنامية ـ لم يؤثر في هذه المقاومة ولم يدفعها في طريقه، انما ظلت متمسكة بمبادئها الايديولوجية وأهدافها القومية، وتمتعت باحترام الطرفين السوفياتي والصيني وهما في اقصى درجات الاختلاف.
هل من تفسير لمفارقة ابتعاد الجبهة العربية عن طريق تأييد المقاومة الفلسطينية واللبنانية واقتراب الجبهة الدولية من طريق تأييد هذه المقاومة؟
يكمن التفسير الوحيد لهذه المفارقة في بقاء الجماهير العربية ـ على الرغم من كل شيء ـ على إخلاصها للقضية العربية. لم تتأثر بسياسات الحكومات ومواقفها..وتراجعاتها..ان النظم العربية التي اختارت طريق التسوية مع إسرائيل تزداد اقتراباً من إسرائيل كلما ازدادت انفصالاً عن جماهيرها.