الساحة الفلسطينية إلى أين؟
لم تصبح الساحة الفلسطينية أفضل حالا في ظل قيادة (أبو مازن)، الذي تربع على قمة هرم القيادة فيها (أي قيادة فتح والسلطة والمنظمة) منذ حوالي خمسة أعوام، بعد رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.
هكذا، تعرضت فتح في ظل قيادته، لخسارة فادحة في الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، وبعد ذلك انهار وضعها في قطاع غزة، وباتت حركة حماس تنازعها الشرعية والقيادة والمكانة. وسبب هذه الانهيارات أن (أبو مازن) ورث وضعا صعبا في فتح، ولكن مسؤوليته تكمن تحديدا في أنه لم يستطع تعزيز الإجماع في حركته فتح حول قيادته، ولم يعمل خلال السنوات الماضية على استنهاض هذه الحركة من ركودها، ولم يبذل جهدا في سبيل إعادة تنظيم أوضاعها، ما أبقى هذه الحركة فريسة للفوضى والتفكّك والتآكل، بمعنى أنه ساهم في إعادة إنتاج الأوضاع التي أدت إلى تدهور دور فتح وتآكل مكانتها.
تحولات فتح بعد مؤتمرها
ولعل ما حصل في مؤتمر فتح السادس يؤكد تماما ما ذهبنا إليه، ولا ينفيه، ذلك أن هذا المؤتمر عقد فقط بعد أن تمكّن أبو مازن -مستغلا موقعه في السلطة طوال ما يقارب خمسة أعوام- من تجميع معظم الأقطاب الفتحاويين حوله، كونه بات يملك منفردا سلطة القرار والمال (بعد أن تم تجفيف موارد فتح)، وكونه يملك الشرعيتين العربية والدولية، ما يفسّر سبب عدم انعقاد المؤتمر بعد رحيل مؤسس فتح ياسر عرفات، أو قبل عام أو عامين.
فوق ذلك فقد عقد هذا المؤتمر بدون أية معايير للعضوية، وتمت إضافة سبعمائة عضو فيه بشكل مفاجئ، وفي اللحظة الأخيرة، وأيضا من دون توضيح المعايير ومن دون أي تفسير مقنع، علما أن عديدا من أعضاء اللجنة المركزية الفائزين نجحوا بأصوات تقل عن سبعمائة عضو. وبيّنت وقائع هذا المؤتمر أن معظم الاهتمام انصب على الصراع على المواقع في اللجنة المركزية والمجلس الثوري، على حساب الصراع على المفاهيم والتوجهات السياسية.
أيضا، فما يدل على فوضى فتح، وعدم انتظام أوضاعها، وعدم وجود شبكة علاقات تفاعلية داخلها، أن حوالي سبعمائة من أعضاء المؤتمر رشّحوا أنفسهم للهيئتين القياديتين الأولى والثانية في الحركة، من أصل 2300 عضو، أي أن كل واحد من ثلاثة من أعضاء المؤتمر يعتقد بأحقيته بالقيادة، في ظل هذا الانفلات، وغياب المعايير والهيئات التنظيمية المؤسسية، وتدني مستوى الثقافة التنظيمية والسياسية، وانقطاع التواصل بين الفتحاويين الذين تربطهم بحركتهم على الأغلب علاقات أبوية، وعلاقات التفرّغ -أي تشغيل- أكثر مما تربطهم بها علاقات تفاعل سياسية ونضالية.
وعلى الرغم من أن هذا المؤتمر تم تركيبه بحسب معايير وحسابات وتوجهات (أبو مازن) ومن معه، وأيضا بحسب التوازن بين الأقطاب النافذين في فتح، فإن (أبو مازن) فضّل انتخابه بصورة علنية، وبرفع الأيادي، على الطريقة العشائرية. وكان الأولى به أن يقبل الخضوع لانتخابات سرية أسوة بغيره.
واللافت أن (أبو مازن) حصل على أغلبية 99% (برفع الأيدي!)، في حين حاز أبو ماهر غنيم (وهو من القيادة المؤسسة) على حوالي 55% فقط (في الاقتراع السري)، ولم تكن يوما شعبية (أبو مازن) أعلى من شعبية (أبو ماهر) في فتح.
ومن المعروف أن (أبو مازن) وقبل أعوام قليلة فقط جرى عزله، وكان طوال عام (قبل رحيل الرئيس ياسر عرفات في أواخر العام 2004) بمثابة مستقيل من كافة مناصبه لخلافه مع الزعيم الراحل، الذي أثار الشكوك بتوجهاته السياسية، وأطلق عليه أوصافا سلبية، ناصره فيها كثيرون من الأعضاء الحاضرين في المؤتمر السادس بالذات.
كذلك فإن نتيجة الانتخابات بيّنت أن ثلاثة أعضاء فقط في اللجنة المركزية وبضعة أعضاء فقط في المجلس الثوري استطاعوا حيازة أكثر من 50% من أصوات أعضاء المؤتمر، في حين أن عديدين من الفائزين في عضوية اللجنة المركزية والمجلس الثوري حازوا على ربع الأصوات وحصل غيرهم على ثلثها. فأية قيادة هذه لا تحظى بأغلبية النصف زائد واحد؟ وأية حركة تلك التي يقودها أشخاص لا يحظون باحترام وإجماع غالبية أعضائها؟
وأخطر من كل ذلك أن حوالي 80% من أعضاء المؤتمر هم من فتحاويي الضفة الغربية، وأن الفائزين في الانتخابات حوالي 90% منهم، حيث لم يحظ أعضاء فتح من القادمين من مناطق اللاجئين، خصوصا في الأردن ولبنان وسوريا ومصر وغيرها من مناطق الشتات، سوى ببضعة أفراد في عضوية الهيئتين القياديتين في الحركة أي اللجنة المركزية والمجلس الثوري (شخص واحد في اللجنة المركزية وعدة أفراد في المجلس الثوري فقط).
كما أن مجمل الفائزين هم من المحسوبين بشكل عام على خط القيادة، أي على خط القيادة القديمة، وليس ثمة صوت معارض أو مخالف في اللجنة المركزية ولا في المجلس الثوري. وهذا يعني أن فتح في هذا المؤتمر خسرت صورتها المؤسسة كحركة تعددية متنوعة، وكحركة تعبر عن الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وبكافة ألوانه السياسية.
القصد هنا أن نبين أن (أبو مازن) ومنذ استلامه قيادة الحركة، لم يعمل من أجل إعادة بناء فتح، وتركها للفوضى والتآكل، وهو إنما عمل على عقد المؤتمر فقط من أجل تنظيم أوراقه، وتجديد شرعيته في القيادة، للتعاطي مع الاستحقاقات السياسية المقبلة، ولتكريس تحول فتح من حركة تحرر وطني إلى مجرد حزب للسلطة أو احتياط لها. وكان الأولى بـ(أبو مازن) في السنوات الماضية العمل على تنظيم أوضاع فتح، وإصلاح بناها، وتنظيم علاقاتها الداخلية، ثم عقد المؤتمر بعد كل ذلك وكتتويج له.
جدير بالذكر أيضا أن (أبو مازن) كان يطالب بإصلاح الوضع الفلسطيني إبان وجود الرئيس ياسر عرفات، كما كان يطالب بالفصل بين المناصب، وعدم الجمع بين قيادة فتح والسلطة والمنظمة، ولكنه حين وصل إلى السلطة تخلى عن هذه المطالب.
ومثلا، وعلى الرغم من أن مؤتمر فتح اتخذ قرارا بعدم جواز الجمع بين عضوية اللجنة المركزية والمناصب في المنظمة والسلطة، فإن (أبو مازن) احتفظ لشخصه بقيادة فتح ورئاستي السلطة والمنظمة. وعليه فإن المطلوب منه قبل أي شيء وفي سبيل الإصلاح أن يقوم بالتخلي عن رئاسته للجنة التنفيذية للمنظمة، وعدم طرح نفسه رئيسا للسلطة في الانتخابات القادمة، إن حصلت.
التركيز على السلطة
وعلى صعيد منظمة التحرير، وهي البيت الجامع للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، فإن الوضع ليس أفضل حالا، فبعد أن جرى تهميش المنظمة وتغييبها، لصالح السلطة في الضفة والقطاع، يخشى أن (أبو مازن) وبعد أن رتب الأوضاع في فتح لصالح توجهاته السياسية، أنه سيعمل على ترتيب الأوضاع في المنظمة في هذا الاتجاه أيضا، وبالطريقة نفسها.
وهذا ما يفسّر الدعوة المستعجلة لعقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في الداخل، قبل إنجاز التوافقات السياسية في الساحة الفلسطينية، وفي ظل الانقسام الحاصل فيها. وهذا يعني أن الغرض من هذا الاجتماع ليس تفعيل المنظمة وليس إصلاحها، وإنما الإبقاء عليها كوظيفة استخدامية، أي كورقة في الصراع الجاري على السلطة في الساحة الفلسطينية.
علما أن هذه المنظمة ذاتها تكاد تكون غادرت الحياة أصلا، أو أنها في حالة موت سريري، منذ زمن، بسبب السياسات التي انتهجتها قيادة فتح، وتحويلها السلطة إلى مركز العمل الفلسطيني، كبديل من المنظمة.
وكان الأولى بـ(أبو مازن) أن يدعو لمثل هذا الاجتماع كما لغيره لمناقشة الخيارات والتحديات السياسية الراهنة، بعد انسداد خيار المفاوضات وفشل خيار الانتفاضة والمقاومة (بالطرق التي تمت وأديرت بهما)، ولاستنباط الدروس اللازمة من خبرات السنوات الماضية. وأيضا لوضع حد لانقسام الساحة الفلسطينية، وإصلاح البيت الفلسطيني، وضمن ذلك إصلاح المنظمة والسلطة.
وتؤكد كل هذه التطورات أن مركز ثقل العمل الفلسطيني للمرحلة القادمة سيكون السلطة، أي ليس الفصائل (وضمنها فتح ولا المنظمة)، وهذا ما يفسر البيان الذي قدمه سلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية مؤخرا، والذي تحدث فيه عن بناء مؤسسات السلطة، والإعلان عن دولة فلسطينية في غضون عامين (!) أنجحت المفاوضات أم لم تنجح. وهو حديث يتناسب مع بعض الأطروحات الأميركية والإسرائيلية بشأن إقامة دولة فلسطينية من تحت إلى فوق بشكل تدريجي، على أساس ترتيبات اقتصادية وأمنية وسياسية.
كما يتناسب ذلك مع الدعوة إلى ُإقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، وفق “اتفاق رف” (اتفاق مؤجل) بشأن قضايا الحل النهائي، ولاسيما بما يتعلق بمصير قضيتي اللاجئين والقدس.
تكييف الخطاب السياسي
وما ينطبق على البيت الفلسطيني ينطبق أيضا على الخطاب السياسي الرسمي، حيث يجري تحويره وتكييفه كي يكون أكثر ملاءمة مع التطورات الحاصلة. هكذا باتت القيادة الفلسطينية تتحدث عن فوضى المقاومة، ومراجعة نهج العمليات المسلحة، واعتماد المفاوضات كطريق لجلب الحقوق الوطنية.
وعلى رغم مشروعية حديث (أبو مازن) عن تنظيم المقاومة، ووضع حد لفوضى السلاح، والتزام المقاومة المشروعة، فإن هذا القول يبقى ناقصا، على طريقة “ولا تقربوا الصلاة..”. وفي الواقع فقد أخفق الفلسطينيون في استثمار بطولاتهم وتضحياتهم التي بذلوها في المقاومة المسلحة، بسبب فوضاهم وضعف تنظيمهم وعدم وجود إستراتيجية سياسية ونضالية واضحة ومتفق عليها بينهم.
لكن (أبو مازن) يحاول توظيف أطروحته للترويج لعدم جدوى المقاومة بكل أشكالها، وللتأكيد فقط على انتهاج طريق المفاوضات، وهو ما عبر عنه في تصريح أدلى به مؤخرا بشأن أن المفاوضات هي الطريق الوحيد لإقامة الدولة الفلسطينية. علما أن هذه المفاوضات لم تجلب الدولة، ولم تجلب السيادة للكيان الفلسطيني الناشئ منذ العام 1994 أي منذ 15 عاما.
والقصد من هذا الكلام التوضيح أن المراجعة النقدية للخيارات الفلسطينية يجب أن تكون مراجعة شاملة وموضوعية وعميقة ومسؤولة، وأن هذه المراجعة يجب أن تشمل خيار المفاوضات، وخيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، لاستنتاج الدروس والعبر المناسبة، ولصوغ معادلات أو بدائل سياسية وطنية مناسبة.
كما أن هذه المراجعة يجب أن تشمل وجود السلطة بشكلها الراهن، بعد أن باتت مجرد سلطة تغطي على الاحتلال، وتخضع لسيطرته، وتطمس طابع السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية على الفلسطينيين، وتشيع الأوهام في العالم بشأن وجود استقلالية وكيانية فلسطينية.
والمعنى أنه مع عدم الاستهانة بقيام كيان للفلسطينيين، فإن الأمر يتطلب عدم المبالغة بذلك أيضا، واختزال الشعب الفلسطيني إلى الفلسطينيين في الضفة والقطاع، واختزال قضيتهم إلى مجرد كيان في هذه الأراضي، وهذا وذاك يفترض اجتراح المعادلات السياسية والنضالية التي تؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني، وعلى جوهر قضيته المتعلقة بالتخلص من السيطرة الاستعمارية والعنصرية الإسرائيليتين، وإعادة تعريف وبناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أساس أنها حركة تحرر وطني، لا حركة سلطة تحت الاحتلال.
استنتاجات سياسية
على ضوء ذلك يبدو أن الغرض من كل هذه الترتيبات للبيت الفلسطيني وتكييفات الخطاب السياسي إنما يتعلق فقط بترتيب الساحة الفلسطينية استعدادا للاستحقاقات السياسية في المرحلة المقبلة.
فمن المعلوم أن ثمة مشروع تسوية جديد تعتزم إدارة أوباما طرحه في مؤتمر دولي يعقد خصيصا لهذا الغرض، في الأسابيع القادمة، وثمة مقاربات وتوافقات سياسية عربية مع هذا المشروع. ويبدو أن القيادة الفلسطينية برئاسة (أبو مازن) كانت معنية بإعداد الساحة الفلسطينية للتأقلم مع هذه المسارات والمقاربات والتوافقات، ما تطلب منها ترتيب البيت الفلسطيني، وهو ما تم على صعيد فتح، ثم على صعيد المنظمة.
أما على صعيد السلطة، فيبدو أن الأوضاع تتجه نحو تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية (على الأرجح في يناير/كانون الثاني القادم) مع الانقسام أو من دونه، بحماس أو من دونها.
وفي هذه المرحلة يبدو أن الحل المتاح والقادم لا يستوعب قضية الشعب الفلسطيني كلها، وأساسا حل قضية اللاجئين، كما لا يستوعب إقامة دولة فلسطينية ناجزة، أي ذات سيادة ومتواصلة وقابلة للحياة في الضفة وقطاع غزة، ما يتطلب ترتيب مختلف أطر الساحة الفلسطينية على هذا الأساس من الناحية البنيوية ومن ناحية التوجهات السياسية.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن قضية شعب فلسطين وحركته الوطنية تشهد -في ظل قيادة (أبو مازن) لها- مرحلة تأسيسية جديدة تختلف تماما عن سابقاتها.
وفي الواقع فإن (أبو مازن) يستطيع تحقيق هذه النقلة في الساحة الفلسطينية رغم خطورتها، أولا من موقعه في رئاسة السلطة الذي يجعله متملكا لموارد هذه الساحة وقراراتها. وثانيا، بحكم ترهل حركة فتح وخبو طاقتها الكفاحية، وتشبثها بامتيازات السلطة على حساب وضعها كحركة تحرر وطني تناضل لدحر الاحتلال.
وثالثا، بحكم الانقسام الفلسطيني وسياسات حركة حماس الخاطئة والتي تسهل على (أبو مازن) فرض توجهاته وقراراته السياسية والإدارية. ورابعا، بسبب ضعف الفصائل الفلسطينية (التي تعمل خارج استقطابي فتح وحماس)، وعدم قدرتها على توضيح ملامحها.
خامسا، بسبب حال التعب والإرهاق والإحباط التي أصابت الفلسطينيين في الأرض المحتلة، بعد ثمانية أعوام من مواجهتهم أعمال التقتيل والتدمير والحصار الإسرائيلية، التي استنزفت قواهم وطاقتهم.
وسادسا، بحكم أن (أبو مازن) يتمتع اليوم بدعم منقطع النظير من الإطارين الدولي والعربي، في وضع فلسطيني خاص تعتبر فيه الشرعية العربية والدولية أهم من الشرعية الوطنية.
الجزيرة نت