غزة وبعلين
حسام عيتاني
خياران امام القضية الفلسطينية: بعلين وغزة.
تجري في بعلين مسيرة اسبوعية احتجاجاً على جدار الفصل العنصري الاسرائيلي. يشارك فيها ناشطون من مختلف انحاء العالم وتتخللها صدامات مع قوات الاحتلال والمستوطنين يسقط فيها عادة جرحى ومصابون جراء استنشاق الغازات الاسرائيلية. يُنظم المسيرة ائتلاف عريض من القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني الفلسطيني وجماعات دولية مناهضة للتمييز العنصري اضافة الى اهالي القرية والمنطقة المجاورة. وتتلقى دعماً معنوياً ملحوظاً من فلسطينيي الاراضي المحتلة في 1948 ومن مؤيدي السلام الاسرائيليين.
الصورة من غزة شديدة الاختلاف. منذ ما قبل استيلاء «حماس» عنوة على القطاع، وهو يعيش تردياً على جميع المستويات خصوصاً في الأمن والاقتصاد. ولم يفعل تحويل غزة الى دويلة حمساوية سوى تشديد الخناق الاسرائيلي عليها وجعل سكانها، الذين يربو عددهم على المليون ونصف المليون انسان، وأوجه حياتهم وموتهم جميعاً، رهينة دهاليز المفاوضات الرامية الى اطلاق الجندي الاسير غلعاد شاليت وحسابات دولية واقليمية شائكة، من سماتها ذلك التبادل بين جمود المفاوضات السياسية وتحرك الجبهات العسكرية. وما عودة التوتر المسلح الى الحدود بين القطاع واراضي الـ48، في الايام الماضية، سوى دليل على قرب اعلان اخفاق الجهود السياسية سواء على مستوى المصالحة الفلسطينية او على صعيد إيجاد مخرج للمأزق الذي يعيشه القطاع، ما ينذر بأن الغيوم عادت تتجمع في سماء غزة.
وفي مقابل العمل المدني المفتوح الآفاق في بعلين، يبرز اصرار على العسكرة المفضية الى المزيد من المواجهات المسدودة النهايات على غرار تلك التي دمرت غزة قبل اقل من عام. المشاركة الحزبية والشعبية، او قل الوطنية في بعلين، المتعددة الطرف والقادرة على حشد طاقات محلية ودولية وعلى اظهار الوجه الحقيقي لمشكلة الاحتلال وعمق تمسك الفلسطينيين بحقوقهم ومنها حقهم في البقاء على ارضهم، تناقضها نزعة الاستئثار والاحتكار في غزة التي تعجز عن ادارة التنوع السياسي الفلسطيني التاريخي، في المقام الاول، ولا تنجح سوى في توليد ظواهر تحمل في بذورها المزيد من العزلة والقوقعة والتطرف على غرار «انصار جند الله» الذين لم تجد «حماس» وحكومتها من علاج لهم سوى الاستئصال العسكري وسط نهر من الدماء.
وبدلا من تواضع ادعاءات منظمي المسيرة الاسبوعية في بعلين الذين يقومون بعملهم بإصرار من علاماته احتجاج سلمي يقابله الاحتلال بالعنف والقوة العارية، ما يرسم الحدود واضحة بين المُضطَهَد والمُضطهِِد، تعلو في غزة اصوات تعد بالانتصارات النهائية والحاسمة على الكيان الغاصب وتحرير فلسطين من النهر الى البحر وما يعادل ذلك من دعاوى لا تفتأ ان تنقلب وبالاً على القطاع واهله.
واذا اراد المرء الذهاب ابعد لقال إن القضية الفلسطينية تواجه في بعلين وغزة نمطين من التفكير والعمل السياسيين تفصل بينهما عوالم وتواريخ ورؤى الى الحاضر والمستقبل.
وما يزيد الطين بلة ان الحكومة الاسرائيلية تقف لا مبالية بما يجري في بعلين بل تساهم في فرض حصار اعلامي على النشاط الاسبوعي المدني، لكنها تفرط في الاهتمام بصاروخ اطلق من القطاع وسقط في بستان مجاور، وتروح تروج لتهديد ووعيد يُفهم منه ان مطلقي الصاروخ التائه قد وضعوا وجود الدولة برمتها على المحك، ما يشد من ازرهم ويصم آذانهم عن دعوات مواطنيهم الى الحوار.
ولعل في السلوك الاسرائيلي عينة على الدور الذي يؤيده الاحتلال منذ عقود في تصعيد نزعات اقل ما يقال فيها انها غير عقلانية، ليحصر، في المقابل، النهج الواقعي المفترض باستسلام غير مشروط يعادل الانتحار ويساويه.
الحياة