صفحات العالمقضية فلسطين

عملية «حماس» ضد «جند أنصار الاسلام» في غزة وقائع حلقات جهنمية من تاريخ الفلسطينيين

دلال البزري
«الخيل والليل والبيداء تعرفني…». هو الشعر يُحاكَى هنا، تحسّراً وسخريةً… ومن غير شاعرية، والمناسبة عملية إنتحارية لمجموعة سلفية غزّاوية، «جند أنصار الاسلام». انتحاريون يركبون الخيل المفخّخ (هل سئل الخيل إن رغب بالاستشهاد؟) ويتوجّهون نحو أحد الحواجز الاسرائيلية على حدود غزة. ويسمّون عمليتهم هذه «غزوة البلاغ»، تيمّنا بـ«غزوة مانهاتن»، عملية بن لادن الارهابية ضد ابراج نيويورك. ثم توزّع المجموعة شريط فيديو يبيّن عناصر «الجند» يمْتطون الجياد المفخّخة، يصولون ويجولون في معسكرات التدريب التي يملكونها هم. «جند أنصار الاسلام»، وقائدهم طبيب اطفال فلسطيني، وداعية معروف، عبد اللطيف موسى. وإسمه الحركي لا يقلّ شاعرية: أبو النور المقدسي. قبل هذه العملية الهزلية عُرفت هذه المجموعة بأنشطة اكثر جدية، منها: التعرّض لمواكب شخصيات غربية جاءت في مهمات سلام، مثل جيمي كارتر وطوني بلير. واستهداف كنائس مسيحية وصالونات حلاقة وتجميل ومقاهي انترنت، لما تنشره من «فساد ورذيلة». وتنفيذ عملية «فرض الحشمة»، وقوامها تفجير منصّة فرقة موسيقية في حفل زواج في القطاع… و 60 جريحاً من بين المدعوين.
«جند أنصار الاسلام» هؤلاء، أعلن زعيمهم مطلع الشهر الماضي عن إقامة «إمارة فلسطين اسلامية في اكناف بيت المقدس». وهو إعلان غامض، ولكنه خطير. خطير على سلطة «حماس» صاحبة القرار في القطاع. فهؤلاء الـ«جند» يؤمنون ويقاتلون، مثل «حماس»، من اجل تطبيق الشريعة الاسلامية. ولكنهم يتَهمون «حماس» بالتهرّب من تطبيقها. حول «التحرير الشامل»، نفس الموقف: «حماس»، مثلما تتهرّب من تطبيق الشريعة، تتهرّب من تحرير كامل التراب وتبيع نفسها مقابل «أموال الشيعة والصليبيين». «حركة كافرة»، «منتسبة للإسلام زوراً»، خرج «الجند» من عباءتها. ماذا تنتظر من «حماس» التي لم تتوانى عن القيام بانقلاب دموي ضد منافستها الأسهل؟ «فتح»؟ طبعا إنقضاضاً دمويا آخر على «ذوي القربى» الأقرب. إنقضاض أشد غضاضة. فيكون ما تقرّره الحركة: أن يطوق مسلحوها تجمعاً لعناصر من «جند أنصار الاسلام» في مسجد ابن تيمية، حول زعيمهم الداعية. تندلع النيران. يفجر رجال «حماس» المسجد على من فيه. والمحصلة: 27 قتيلا، 150 جريحا، 40 معتقلا من «الجنود». ويكون بذلك قد سقط حتى الآن 600 قتيل فلسطيني منذ انقلاب «حماس» الدموي عام 2007، وإستيلائها على كامل السلطة في القطاع. «الثأر! الثأرّ». هي الصرخة الخارجة من بيانات سلفية صدرت بعد عملية تفجير مسجد ابن تيمية على من فيه. بيان «الجند» انفسهم، وبيان «الجماعة السلفية المجاهدة». بيانات لا تدعو إلا لمزيد من الحلقات الجهنمية المغلقة المتصلة، وقد وقع فيها الفلسطينيون أشد وقعة، منذ بدايات نضالهم ضد الاحتلال الاسرائيلي.
هل نحتاج الى مزيد من الحروب من اجل كسرها، تلك الحلقات؟ أم العكس. الى هدنة للصراع، الداخلي، قبل الخارجي؟ الانقضاض الاخير لـ«حماس» على «الجند…» المستعجلين اكثر منها لتطبيق الشريعة الاسلامية؛ هذا الانقضاض هو وليد اخطر هذه الحلقات الجهنمية واحدثها. انها حلقة صراع جماعتين، أو بالاحرى جماعة قوية ومسيطرة ضد جماعة اضعف وأحدث عهداً. وكل واحدة منهما لا تؤمن بغير الحقائق المطلقة؛ أو على الاقل، إذا كان إيمانها مجرد بروباغندا، بنَتْ شرعيتها على إطلاقية هذه الحقائق. والفرق بين الاثنتَين ان الاولى، اي «حماس»، اختبرت هذه الحقائق على الارض؛ وبانَ لها إنعدام مطابقتها مع الواقع الواسع. فأبرزت «براغماتيتها»، وأربكها أثاثها الفكري الاول، وشرعت تخفّف من خطوات تطبيق الشريعة الاسلامية، وسمّت ذلك، «تدرجا…»؛ من غير ان تنسى الشريعة تماما وبهْرجات العمل لتطبيقها… كما يشهد على ذلك تعميمها منذ ايام على مدراس البنات الرسمية قراراً يلزم الطالبات بارتداء الحجاب والجلبات، وقرار آخر «تأنيث المدارس» يمنع بموجبه اي ذكر من دخول هذه المدارس، إداريا كان ام مدرساً. (دليل الارتباك ايضا: قبل يومين من صدور التعميم، نفى وزير التربية الحمساوي محمد عسقول ان يكون هناك قرار من هذا القبيل لأن «المجتمع الفلسطيني ملتزم بطبعه، ولا يحتاج الى قرارات تفرض عليه…»).
إيماءات من هنا وهناك لا تفضي الى تطبيق الشريعة. فقط تبقي شعلتها في قلوب طهرانية خدَشتها البراغماتية. فينشق اصحابها ويكونون اكثر تشدّدا في الدفاع عن هذه الحقيقة المطلقة وتطبيقها. وتظهر «حماس» بعد ذلك في ثوب «الاسلام المعتدل»، الذي يتوسّله الرئيس الاميركي مع «طالبان» الافغانية، ولا يجدها إلا عند الفلسطينية منها. فيكون بذلك لهذه «المعتدلة» الطارئة في الساحة الاسلامية… حصة في القرار. أوهكذا… يراهن الباحثون الجادون والخبراء على «التحول» داخل «حماس».
الحلقة الجهنمية الدنيوية، المتصلة عند الاسلاميين بالأولى، الدينية: أي فلسطين. كل حرب «حماس» على «فتح» انها لم تكمّل مشوار االتحرير الكامل الذي وعدت به في نشأتها الاولى. وكل العمليات الانتحارية التي نفذتها «حماس» ضد اسرائيليين، مدنيين وعسكريين، بغرض نسف الجهود السلمية، أو النوايا السلمية، لا فرق… كان هدفها تحرير كامل الارض، أو الاستشهاد. بهذا كسبت «حماس» شعبيتها. الآن خالد مشعل، رئيس مكتبها السياسي، وبعد «إنتصاره» في حرب غزة، يعلن عن قبوله بحدود 1967 وبهدنة مع اسرائيل «قد تمتد لعدة عقود». ردّ الاصولية الاسلامية: «خيانة وكفر بواح». ثم انشقاق وتسلّح وتمويل… أيضا. وردّ «حماس» على الردّ، تماما مثلما تكون الانظمة العربية مع حركاتها الاصولية: تطلق لها العنان، بل تزايد عليها، حمايةً لشرعيتها المهتزة، أو المشكوك فيها، أو المعدومة. تتركها تعتدي وتفجّر وتركَب الخيل الانتحاري… الى ان تبلغ الخط الاحمر النهائي. خط تهديد سلطتها، مباشرة أو مواربة. فتنقض على هذه التي كانت مدلّلة بالامس؛ وبالضبط كما تنقضّ عادة أية سلطة غير شرعية، أو مضطربة الشرعية… لكنها تملك ادوات الموت… على من يحاول ان يفكر بتهديد هيمنتها المطلقة.
الحركات السلفية في غزة لا حصر لها. مجموعات على الأرجح كلها صغيرة. واسماؤها تسبقها: «جيش الاسلام»،»سيوف الحق»، «جيش الامة»، «جلْجلات»… الخ. وهي كلها تقف على «يسار» «حماس»، كما كانت تقف المجموعات الماوية والتروتسكية والفوضوية على اليسار المتطرف للأحزاب الشيوعية العربية؛ مذكّرة بالمبادئ، «الثوابت»، التي تأسّست عليها. ورهان مجموعة «الجند» الاخيرة، مثل رهان «حماس» ايام شبابها الاول: ان لا تصل «حماس» الى هدنة، أو ان تفشل في ذلك، ان يتنّعت الاسرائيليون، ان تقْدم، هي، على عمليات انتحارية ضد اسرائيل… كل الأعمال والمواقف التي أفشلت «فتح» في مسعاها المعلن بالسلام.
اما الحلقة الجهنمية الاولى، تلك التي ادخلتنا في اتونها اجيال المقاومين ضد اسرائيل منذ تأسيسها، هو التعامل مع اسرائيل، خصوصا بعيد هزيمة 1967، وكأنها المثل الأعلى الواجب نسخه. أنشئت على اساس الدين. فكان الرد المنطقي على اساس الدين ايضا. تشددت في يهوديتها، كما تطالب الآن، زادت اسلامية مقاوميها. بالموازاة، كان لاسرائيل الفرصة بالاستحواذ على القنبلة النووية؛ صار من معالم مكافحة احتلالها هو مناصرة اصحاب مشاريع القنبلة السحرية هذه. والحجة جاهزة: هل تمتلك اسرائيل القنبلة ولا نمتلكها، نحن، المسلمون؟ محاربة اسرائيل بأسلحتها. الغرف من عدوانيتها واصولياتها الدينية وتوحشها لبناء مملكة التحرير الشامل والحقائق المطلقة. مئة عام من الحروب. سوف يحظى تاريخنا باكثر منها.
حلقات جهنمية ثلاث: الحقائق المطلقة، تحرير كامل التراب، يهودية مقابل اسلامية. ما الذي يكسرها؟ واذا كسرت، فعلى اية انقاض؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى