صفحات العالمما يحدث في لبنان

التجرّد من العواطف

ساطع نور الدين
كانت حقبة اضطراب شديد في العلاقات اللبنانية السورية، امتدت من الصرخة الأولى التي انطلقت في منزل الراحل رفيق الحريري في قريطم في الرابع عشر من شباط في اللحظات الأولى التي أعقبت اغتياله، وانتهت خلال زيارة نجله سعد الى دمشق وإعلانه طي تلك الصفحة السوداء، وفتح صفحة جديدة، تظهر في أحد هوامشها الضيقة صورة صغيرة وغير واضحة المعالم للمحكمة الدولية.
خمس سنوات عجاف، أبحر فيها لبنان في موجٍ عاتٍ، ابتلع المزيد من الضحايا وتسبّب في سفك المزيد من الدماء والدموع، وأثبت أنه يستحيل السير عكس مجرى التاريخ والجغرافيا حسب التعبير الأثير والمحبّب على قلوب السوريين واللبنانيين الذين لا يعترفون بالحدود بين البلدين، والذين تغلّبوا على الإدعاء المدوّي بأن تلك اللحظة التراجيدية المؤلمة كانت إعلاناً بحدّ فاصل جديد يكرّس الانفصال الى الأبد، ويمحو من الذاكرة الوطنية المشتركة كل ما علق فيها من أوهام مرحلة ما بعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي.
لم تسجل تلك اللحظة زلزالاً مدمراً بل هزة عنيفة أيقظت الوعي الوطني اللبناني والسوري على حد سواء على حقيقة ان العقود الثلاثة التي سبقتها كانت خطأ سياسياً فادحاً تواطأ النظام في البلدين على ارتكابها، وأدّت الى خسائر فادحة لحقت بالشعبين، ومعهما الشعب الفلسطيني الذي كان أحد أهم أسباب ذلك التواطؤ، والذي لم يعد يشكل مبرراً كافياً للوجود العسكري السوري في لبنان، فكان الخروج الذي كان مرتقباً ومطلوباً منذ سنوات عديدة. وكانت الموجة الشعبية اللبنانية التي دُعيت ثورة، مع أنها كانت مجرد حركة انفعالية، اصطدمت بجمهور لبناني عريض لم يكن يريد ذلك الخروج، ولم يكن يؤيد ذلك الاتهام. وهو يسعى اليوم إلى عكسهما.
ليس هناك تسجيل محلي آخر لوقائع تلك السنوات الخمس. ثمة حوافز خارجية عديدة ساهمت في صنع الأحداث، لكنها لم تكن اقوى من مشاعر الداخل، ومن علاقات القربى مع سوريا التي بذل العالم كله، ومن دون اي استثناء عربي او دولي، جهداً حثيثاً من اجل اقناع المتوترين اللبنانيين بأهميتها وحيويتها للبنان أولاً. فكانت المصالحة، على مضض، بمثابة تهدئة للخواطر اللبنانية المجنونة، أرست استقراراً راهناً لا شك فيه، وأنهت حقبة من النزاع الداخلي على الغالبية الشعبية ووجهتها.
لم يصدق احد، لا في الداخل ولا في الخارج، أن تلك الحركة العاطفية، التي اصطدمت بمقاومة محلية شرسة، كانت مشروعاً للتغيير السياسي لوجه لبنان، مع أن حرب العام 2006 الإسرائيلية ترافقت مع محاولة داخلية لإعادة صياغة المهمات الوطنية اللبنانية المفروضة منذ أواخر الستينيات. كانت سوريا وحدها، هي العنوان، ولا تزال، وكل ما عداه تفاصيل صغيرة. صارت المصالحة معها هي الهدف الوطني الأبرز وربما الأوحد، الذي تحلّ من خلاله معضلات الخلاف حول المقاومة، وايران، وحتى التوازن الطائفي داخل النظام.
غداً في ساحة الشهداء، ستتجرّد تلك الحركة العاطفية من عواطفها المتضائلة بمرور السنوات الخمس، لتقول كلاماً واقعياً وعقلانياً في العلاقة مع سوريا، او لتقول كلاماً لا يفهمه أحد، لا في بيروت ولا في دمشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى