المشروع النهضوي والاستحقاق القومي
د. طيب تيزيني
ضمن الهزائم والانكسارات التي تغطي العالم العربي، سواء في الحقل السياسي والاقتصادي والزراعي والصناعي، أو في الحقول الحقوقية والعلمية البحثية والعسكرية الاستراتيجية والتنموية والثقافية والغذائية والمائية والكهربائية إلخ، تظهر أصوات هنا وهناك تنادي بإيقاف هذا الحطام الكبير، بقدر أو بآخر.
لقد انزاح أو كاد ينزاح ثالوث الكفاية المادية والكرامة الإنسانية والحرية الأولية الضرورية، فأصبحت كتل كبيرة ومتعاظمة من الفئات الوسطى الميسورة اقتصادياً والمستنيرة عقلياً ومن القاع المجتمعي الكبير، تعيش على حدّ السيف، مع ظهور مجموعات متضائلة.. في قمة المجتمع تنعم بثروات أسطورية تحميها قوانين سنَّتْ من أجل هذا.
وقد أنتج ذلك، مُجتمِعاً، ما يطلق عليه \”مجتمعات العشرين والثمانين\”، ويأتي ذلك مع تفاقم الكثير من الشعور بالدونيّة وبانهيار الكرامة الوطنية والقومية حِيال نُظُم \”سياسية\” عربية تنحو نحو (دول أمنية).
وهؤلاء ينجزون وظيفة محددة تتمثل في تجفيف الرهانات الوطنية، وفي هذه الحالة المحكومة بـ \”قوانين طوارئ استثنائية ولكنْ يُراد لها أن تكتسب طابع الاستمرارية والديمومة\”، برزت وتبرز أصوات، منفردة غالباً، ينادي أصحابها أن كفّوا عن تدمير البلاد ومحاصرة العباد، وقد يكون صحيحاً أنه كلما تكاثرت السهام والخناجر الموجهة إلى هؤلاء وأولئك، يمكن أن تتبلور مجموعة بشرية أو أخرى تنادي بالكف عن العبث القاتل، والملفت في هذه الحال العامة أن تكون تلك الأصوات منحدرة من معظم المرجعيات الاجتماعية القائمة التي تعبر عن المجتمع المعني، خصوصاً في الدعوة إلى مشروع جديد ما، وأقرب المشاريع إلى تلك الدعوة هو ذاك، الذي نشأ في بلدان كثيرة، منها بلدان الوطن العربي، وهذا الذي يمكن إدخاله في مصطلح الحامل الاجتماعي للمشروع المذكور، يطرح السؤال الآن حول هوية هذا الأخير: هل هو مشروع للثورة، أم للتحرر، أم للنهضة؟ وكما نلاحظ، فإن هوية الأمر المعني إنما هي هوية مشروع لـ \”الأمة\” في جلّ تجلياتها المجتمعية، أي مشروع للنهضة العمومية.
ويبرز سؤال حول الأداة التي تهيئ لتلك النهضة وتقودها، لنجد أن \”الدولة النهضوية\” تمثل شرطاً حاسماً لإنجاز هذه المهمة ولما كان العالم العربي مؤلفاً من مجموعة من البلدان (الأقطار) فكيف نتبين العلاقة بين تلك الدولة وهذه الأقطار؟ هل ستفكك الدول القطرية لصالح دولة عربية واحدة ملزمة، أي هل ستكون المهمة الأولى هاهنا قائمة – على الصعيد السياسي القانوني – على إيجاد وحدة سياسية \”اندماجية\” بين تلك الأقطار؟
للإجابة على ذلك، يمكن القول بأن مثل تلك الوحدة ستكون خطأ أو عائقاً فعلياً على طريق المشروع المعني هنا، فبدلا من تلك العملية، التي باءت بالفشل في صيغة الوحدة السورية – المصرية من عام 1958، تبرز فكرة التوحيد السياسي المطلوبة على أساس أنها عملية سياسية تاريخية مفتوحة، تقترب بقوة من فكرة التوحيد الكونفيدرالي: الإقرار بالدول العربية القطرية القائمة، والاستمرار بها انطلاقاً من المرحلة الراهنة في أفقها المستقبلي المحتمل، مِمّا قد يعني أن التقريب بين تلك الدول سيكون أقرب إلى الاستحالة على أساس بُعد إندماجي، يُطيح بجدلية العموميات والخصوصيات كمداخل محتملة إلى الهدف المذكور هاهنا، فالوضعية العالمية والإقليمية والمحلية لم تعد – في رأينا – تحتمل ذلك البُعد إلا عبر العنف وربما الانتهاء بالفشل، بل إن ذلك الأخير أخفق بقوة على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين وإلى الآن.
على هذا الأساس يصح ما يقوله عبدالإله بلقزيز في كتابه \”من العروبة إلى العروبة\” من أنه توجد \”بين الخطاب القومي والخطاب النهضوي صلة قرابة مؤكدة\”، لكن القول بأن التفكير في مشروع نهضوي بمنأى عن مطلب التوحيد القومي ضرب من الطوبويات، يحتاج – فيما نرى – بعض التدقيق، من موقع أن \”التوحيد القومي\” على الطراز الكلاسيكي ربما لم يعد ممكناً، ولعل القول بـ \”مشاريع إصلاحية وطنية ديمقراطية في الأقطار العربية بأفق مفتوح من التعاون والتضامن، هو الأقرب إلى الاحتمال والتحقق في عصرنا العاصف والمعقد داخلا وخارجاً.
الاتحاد