مشروع العرب للاستقلال، للتنمية، للتعاون وللديمقراطية
سليمان تقي الدين
في مطلع القرن الواحد والعشرين، بينما كان العالم يشهد تشكيل نظام دولي جديد، انهارت فيه الإمبراطورية السوفييتية مفسحة المجال لتشكيل دول وكيانات مستقلة في أوروبا الشرقية ألغت وجودها الحرب الباردة، وبينما تتصاعد في أمريكا اللاتينية (الجنوبية) نزعات الاستقلال لاسيما الاقتصادي والتمرد على الهيمنة الأمريكية. وبينما تظهر على المسرح الدولي دول نامية عملاقة في تطورها الاقتصادي كالصين والهند والنمور الآسيوية الأخرى، واليابان والبرازيل وتركيا وإيران، وتستعيد روسيا توازنها السياسي والاقتصادي بعد حقبة انتقالية من الفوضى، وتتجه أوروبا الى المزيد من التعاون والوحدة، بينما تجري كل هذه التطورات، يقف العالم العربي بجميع مكوناته الجغرافية والبشرية وثرواته عاجزاً عن بلورة مشروع أو سياسات تعطيه وزناً بين الأمم الأخرى والتجمعات الإقليمية والدولية. بل هو دون سائر بقاع الأرض وشعوبها يتعرض لأبشع عملية استعمارية جديدة ومباشرة بعد أن انتشرت القواعد الأجنبية في جزء مهم من أراضيه ومحيطه احتلت الدولة الأعظم في العالم إحدى أهم دولة ودمرتها (العراق) وأطلقت في طول العالم العربي وعرضه مشكلات سياسية وأمنية وغذّت نزاعات إثنية وطائفية ومذهبية وهدّدت بتغيير النظام الإقليمي والنظم السياسية داخله. كما أعلنت حرباً على ثقافته وجعلت من نقاط ضعفه هدفاً لزعزعة الاستقرار تحت شعارات نشر الحداثة والتقدم والحرية والديمقراطية.
لم تنجح هذه الحملة أصلاً في ما استهدفته إلاّ لأن العالم العربي فشل في الدفاع عن استقلاله الوطني الذي حققه من قبل بواسطة الكثير من التضحيات. خلال ثلاثة عقود انهار النظام الإقليمي العربي في حدّه الأدنى من التضامن حتى لا نتحدث الآن عن سقوط المشروع الوحدوي.
احتلت امريكا العراق وهي تعلن عزمها على الإطاحة بدول وأنظمة وقمع حركات المقاومة وما أسمته “الإرهاب”. ثم استكملت حملتها في لبنان مع القرار 1559 ومن ثم مع حرب “إسرائيل” على لبنان صيف ،2006 وعندما انفجرت الأزمة المالية الأمريكية ثم العالمية تبيّن أن العرب هم أحد الأطراف الدوليين الذين خسروا الكثير من مدخراتهم واستثماراتهم وهم أكثر الدول استجابة للمتطلبات الأمريكية وقبولاً لتوجهاتها في معالجة الأزمة.
قاومت الشعوب العربية بأكثر مما توقعت أمريكا وتوقعنا نحن، لكن بأدوات “الفطرة البدائية” وبفكر سياسي عتيق يعبئ المشاعر والعواطف ولا يقدم نظرة الى المستقبل. فشلت أمريكا في فرض نظام أمني اقتصادي سياسي ثقافي مستقر كما كانت تخطط وتشتهي لكننا مازلنا نبحث عن مخارج لاستعادة وحدتنا الوطنية في العراق وفلسطين ولبنان والسودان واليمن الخ.. ومازلنا نبحث عن طريق لرفع العقوبات الدولية عنّا ووقف سياسات المحاصرة والعزل وكيف نستعيد تحديد مطالبنا الوطنية ونعيد علاقاتنا السوية بالعالم.
في المحصلة الاجمالية نحن وأمريكا في أزمة وورطة. أمريكا بدأت تتدّبر شؤونها في معالجة الأزمة المالية وفي معالجة مشكلاتها الأمنية وقد بدلت أساليبها ووسائلها وخطابها وقيادتها. أما نحن فلم نغيّر شيئاً حتى الآن. العالم تغيّر ويتغيّر بسرعة هائلة ويعيد تشكيل نفسه ومصالحه ويجدد قواه وأدواته واستراتيجياته ونحن ثابتون قولاً وعملاً. ليس هذا فضيلة. مازلنا نتحدث هنا عن النظام الرسمي العربي وعن القوى السياسية التي استولدها هذا النظام من اخفاقاته، وعن الأدوات التي واجهت الغزوة الأمريكية أو “الإسرائيلية” بما تيسّر لها من إمكانات من غير مشروع سياسي عربي من أكبر دلالاته أن الشعوب العربية تظهر المزيد من العزوف عن المشاركة في المعارك القومية وحتى لا تستجيب اليوم للعمل السياسي الشعبي المتصل بلقمة عيشها ومستوى حياتها اليومية وحرياتها وكرامتها. إما أن الاستبداد قد تمكن منها فعلاً وإما هي لا تجد منافذ ذات مصداقية تستحق منحها الثقة والمساندة.
في تلخيص بسيط لمشكلات العرب تتقدم أولوية الاستقلال الوطني لكيانات الدول العربية ووحدتها، لدينا احتلال في فلسطين والعراق، ولدينا الانتشار العسكري في آسيا، ولدينا تهديدات أمنية كبيرة في الجوار، ولدينا اليوم تحديات أساسية لحفظ وحدة الأقطار العربية من التفكك والشرذمة أو الفوضى. أما التنمية فصار الغرب نفسه يدلنا على بعض مظاهر أزمتها. هناك اختلالات عميقة في البنيات الاجتماعة وفي الأنظمة الاقتصادية، وهناك ظواهر لذلك في الأمية والفقر والبطالة والهجرة وما يصحب ذلك من تقلبات في القيم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية وما يستدعي ذلك من خيارات فكرية وسياسية. أما التعاون العربي فهو خارج أي منظور فعلي وعقلاني ومخطط. بل هو أسير القرارات السياسية التي تذهب في جوهرها بعيداً عن تصور ضرورة تكتل قومي أو إقليمي.
هي في هذا المعنى سياسات بقيم ومفاهيم تقليدية قديمة وغير معاصرة ولا تبحث عن الجدوى، وبالتالي ليست محكومة أصلاً بهم عربي مشترك. أما الديمقراطية بما هي حكم المشاركة والمساءلة والمحاسبة والحرية والتعددية واستهداف القرار السياسي لخدمة الجمهور الأوسع واحترام كرامة الإنسان وحقوقه والدولة الحديثة القائمة على المؤسسات فهي خارج الهم العربي في نظامه الرسمي السائد وفي قواه السياسية الشعبية الأكثر فاعلية، إن ما يحكى عنه من “ديمقراطية” يكاد يكون محصوراً في الانتخابات إذا وجدت، والانتخابات وحدها ليست الديمقراطية.
إذا كانت هذه عناوين المشروع العربي (هوية الشعوب، نظام الدولة، وحقوق المواطن) فهي تحتاج الى ثلاثة أمور: ثقافة المشروع العربي التي تبلور الهوية، دول نخبها تؤمن بالاستقلال والسيادة وبالمشاركة وبالحداثة وبالآليات الديمقراطية وبأهمية الوسائل العلمية وفعالية التكنولوجيا ودور الاقتصاد وتوجهاته الوطنية والشعبية، ومواطن يعرف حقوقه ويلتزم بها ويعمل في سبيل تكريسها ويؤمن بأنها السبيل الى الحرية والكرامة الإنسانية.
الحليج