مسلسلات عربية غير مسلية
ميشيل كيلو
لا يحتاج المواطن العربي، في رمضان وخارجه، إلى مسلسلات درامية يسلي نفسه بمعونتها. يكفي أن يجلس أمام التلفاز، أو أن يقرأ جريدة ما، حتى يجد نفسه وسط مسلسلات سياسية لم يؤلفها كاتب درامي، رغم أنها مستمرة منذ نيف وخمسين عاماً، تضم، فيما تضمه، أنواعاً متنوعة من المصائر المأساوية، وضروباً من مساخر ومهازل يعجز العقل عن تصورها أو تخيلها، تصدر عن واقع عربي قائم في ديارنا العامرة، ربما كان الفيلسوف الألماني هيجل يعنيه، حين تحدث في واحد من كتبه عن الواقع الذي هو أغنى من احتمالاته : فهو أغنى من الخيال والعقل التأملي والفن جميعاً.
ليس الواقع العربي غنياً إلا بمعايير معينة، وهو في الوقت نفسه فقير وأحادي الطابع. وإذا كان غنيا في شيء، فهو غني في قدرته غير المحدودة على إنتاج المشكلات عينها طيلة نيف وخمسين عاماً، لكنه فقير جداً، بالمقابل، في كل ما يتعلق بإيجاد حلول لهذه المشكلات. إلى هذا، إنه غني في كل ما يتعلق بقدرة أشخاص بعينهم على البقاء في السلطة خلال عقود كثيرة، وإنتاج رطانات مملة وسطحية تدور حول عبقريتهم الشخصية، كرروها بلا توقف خلال الوقت الذي أسماه المؤرخون “تاريخ العرب الحديث”. وهو غني أيضا في قدرة هؤلاء على إبقاء الناس، من العرب العاديين، في حال من البلبلة بثت الخوف في قلوبهم، والحيرة في نفوسهم، وجعلتهم يراقبون غير مصدقين ما يجري أمام أعينهم المندهشة من تمثيليات عجائبية، تتكرر بحذافيرها في معظم بلدانهم، أو تنتقل من بلد إلى آخر، بعد زيادة حبكتها تعقيداً، وتوتير أجوائها، واشتداد التأزم في حوادثها، بينما تفرض الحكومات على الشعب العربي في كل قطر ومصر، أن يشاهدها وهو عاقد حاجبيه، وفاقد القدرة على النطق، لكثرة ما فيها من رعب وغرائب يصعب تصديقهما، ووقائع عصية على الفهم، ولأن العدد الكبير من أبطالها هم من أصحاب المقامات الرفيعة، الذين احتكروا تأليفها وتمثيلها وإخراجها وإنتاجها وتوزيعها. ولعله من حسن الحظ أن متابعي المسلسلات الرسمية لا يحتاجون إلى تلفاز أو جريدة ليعرفوا وقائعها، فهم موضوعها المباشر، وهي تلازمهم طيلة نهارهم وليلهم، وتتواصل معهم بألف طريقة، فإن فاتهم إدراك أنهم موضوعها، أخبرهم مسؤولوهم بذلك، وشرحوا لهم مجرياتها بإسهاب، وذكروا أسماء أبطالها، وما يمكن أن تؤول إليه. لذا، يستحيل القول إنها تجري بمعزل عن المواطن العربي، ولا مفر من الاعتراف بأنها تتماهى مع وجوده، هو الذي يشارك بسلبيته فيها، وإلا لماذا تقدمه المسلسلات بوصفه مادة للقتل هنا، وللملاحقة والتجويع والاضطهاد هناك؟
من المسلسلات المهمة، التي فرضت نفسها على العرب بجدارة خلال العقود الأخيرة مسلسلان : أحدهما هو القضية الفلسطينية، وثانيهما مؤتمرات القمة العربية. لا حاجة إلى القول إن الأول مأساوي يقطع نياط القلب ويبعث اليأس في نفوس مشاهديه، والثاني مسرحي / هزلي يفقع من الضحك، رغم جدية سحن المشاركين فيه.
يظن متابع مسلسل السياسات العربية أنها مجرد كلام بكلام، مع أن الأفعال التي ترتبت عليها غالباً ما كانت مميتة أو قاتلة. إن مؤلفي هذا المسلسل، الذين يمقتون بعضهم بحقد، أحجموا إلا في حالات جد نادرة عن إيذاء بعضهم بعضاً، لكنهم جعلوا صغار الممثلين والكومبارس من مواطنيهم يقتتلون بوحشية، مع أن هؤلاء لا يعرفون بعضهم ولم يكونوا على خلاف قبل أدوارهم في المسلسل. ألا يفسر هذا لماذا كانت جميع مسلسلاتنا الرسمية طويلة، ولماذا تتكرر فيها الأحداث عينها، ويؤلفها الأشخاص أنفسهم، ويمثلها بسطاء العرب، الذين هم، في الوقت نفسه، ضحاياها.
لنتوقف الآن عند مسلسل فلسطين المأساوي : لقد كتب نصه بالتعاون بين الحركة الصهيونية ومسؤولين عرب كثيرين، ومثله جيش العدو وجيوش عربية معروفة، فدار في أجواء مأساوية لم ينقطع تأثيرها علينا إلى اليوم، خاصة أن المسلسل نفسه لم يتوقف بعد، وأن محطات مهمة جداً منه تنتظرنا، وكنا نظن أن أحداثه أوصلت ممثليه العرب والفلسطينيين إلى قاع لا قاع تحته، فأثبت هؤلاء، عبر تمثيلية غزة / الضفة وتفرعاتها العربية، أنهم قادرون على دفع أحداثه إلى قاع لم يسبق لها أن بلغته.
يختلف مسلسل مؤتمرات القمة العربية في الطابع والجوهر عن مسلسل فلسطين، فهو مسلسل كوميدي صرف، تشارك فيه الدول العربية، وإن بدرجات مختلفة من القدرة على التهريج، وتمثل أدوارها عبر الغياب تارة والحضور تارة أخرى، بينما المشاهد العربي، العارف بمجريات المسلسل حتى قبل صعود الممثلين إلى المنصة، مرة كل عام، يدير ظهره للمسرح ويضحك من نفسه ومن مسؤوليه.
إذا كان المسلسل الفلسطيني يدمي قلوب المشاهدين ويجعلهم راغبين في وضع نهاية لخلافات ممثليه، فإن مسلسل القمم العربية لا يترك لديهم أثراً إيجابياً يذكر. إنه بالنسبة إليهم كوميديا سوداء تثير القرف فيهم، ليس فقط لأنها تكشف حجم الخراب الذي هم فيه، بل لاعتقادهم كذلك أن ممثليه يتحملون مسؤولية كبيرة عن مسلسل فلسطين الدامي، الذي يكشف، من جانبه، عجزهم وبؤسهم وتهافت مزاعمهم وأكاذيبهم.
ليس المواطن العربي بحاجة إلى مسلسلات درامية كي يسلي نفسه، ما دام سادته يسلونه بمسلسلات لا تتوقف، يجبرونه على متابعتها، رغم أنها تكررت كثيراً خلال الأعوام الأربعين الماضية حتى عافتها نفسه، وصار راغباً رغبة شديدة في توقفها واختفاء مؤلفيها وممثليها من الوجود. يزعم هؤلاء أنهم يسلونه، لكنه اكتشف منذ وقت طويل أنهم يتسلون به، وأدرك أن مسلسلاتهم لم تصنع للترفيه عنه، وأنها تسهم إسهاما خطيراً في قتله غماً وكمداً.
الخليج