الأزمة العراقية السورية.. الأبعاد والمآلات
غازي دحمان
لم يمض سوى أيام قليلة على إعلان كل من رئيس حكومتي العراق نوري المالكي، وزميله السوري ناجي العطري، عن (تأسيس مجلس للتعاون الإستراتيجي عالي المستوى) حتى عصفت علاقات البلدين موجة من الاتهامات والشكوك المتبادلة، وصلت إلى حد قيام العراق بحملة دبلوماسية مكثفة للمطالبة بإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة من تتهمهم بغداد بالوقوف وراء أحداث (الأربعاء الأسود)، من (البعثيين والقاعدة والمخابرات السورية) الذين عقدوا اجتماعاً في الزبداني نهاية شهر يوليو/تموز، اتخذوا فيه قرار شن هجمات (الأربعاء الأسود)، على ما تقول رواية الاتهام العراقي.
وتضيف الرواية، أن ثمة معلومات مؤكدة لدى بغداد بأن جماعة يونس الأحمد أمين سر المكتب العسكري لحزب البعث العراقي، وتنظيم القاعدة، لديهم معسكرات في مناطق مختلفة من سوريا في اللاذقية وغيرها، تشرف على تدريبهم وتمويلهم المخابرات السورية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى درجة تهديد بعض الزعماء العراقيين بأن بغداد تستطيع (رد البضاعة إلى سوريا)، والتعامل معها بذات المكيال، ومن نفس نوعية الفعل، أي نقل الأعمال الأرهابية إلى العاصمة السورية.
معبر تاريخي
إلى أي مدى يشبه بين بغداد ودمشق هذه الأيام، ما كان يحدث بينهما في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهل الشبه صدفوي فقط؟ ففي عام 1979 اتفقت العاصمتان على التوصل إلى (ميثاق للعمل المشترك) و(قيادة سياسية موحدة للقطرين)، وذلك على هامش القمة التي جمعت الرئيسين حافظ الأسد وأحمد حسن البكر في بغداد، واقترح كل منهما التسمية التي يراها للدولة الموحدة الجديدة، حيث اقترح الرئيس حافظ الأسد اسم (الجمهورية العربية المتحدة) لإحياء وحدة عام 1958 بين سوريا ومصر، ووافق الجانب العراقي على التسمية رغم أن الرجل القوي في النظام صدام حسين أو (السيد النائب) كان يفضل تسمية (الدولة العربية الاتحادية) ثم يحدث فجأة اكتشاف (مؤامرة تقف سوريا وراءها)، كانت وفق الاتهام العراقي تعمل على الحيلولة دون تسلم صدام حسين المسؤولية الكاملة في الحزب والدولة، ويتم على أساسها إعدام عدد من القياديين البعثيين البارزين، والتهمة هي: (التآمر) مع سوريا.
أبعاد الموقف العراقي
التدهور الدراماتيكي السريع في العلاقات بين البلدين، وإن كان مفاجئاً لم يأت دون مقدمات، ولعل أولى مقدماته، تعبير الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ، عن انزعاج حكومته من قيام وفد عسكري أميركي من القيادة المركزية التي تشرف على القوات المنتشرة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا بزيارة إلى دمشق ومناقشته ملف الأمن في العراق مع سوريا، وهو ما استغربته الأوساط السورية، لاسيما أن معلومات أفادت بها مصادر سورية مطلعة في دمشق، أن (السوريين أبلغوا الجانب العراقي بزيارة الوفد العسكري الأميركي، إلا أن الجانب العراقي لم يستجب لذلك)، لذا بدا مستغرباً للسوريين إبداء الحكومة العراقية انزعاجها، وسرعان ما قام المالكي بزيارة دمشق حاملاً معه الملف الأمني وقائمة بأسماء عدد من المطلوبين وعلى رأسهم محمد يونس الأحمد، بحسب التسريبات الإعلامية من الجانب العراقي.
وليس تخميناً القول، إن المالكي لمس في دمشق رغبة الأخيرة في إشراك القوى المعارضة، وخاصة البعث، في العملية السياسية، وفي إيجاد صيغ سياسية للخروج من المأزق العراقي عبر تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، غير أن ما تطرحه دمشق، يتعارض مع فهم المالكي للمصالحة الوطنية العراقية، ودور القوى المختلفة في العملية السياسية، ذلك أن المالكي وإن كان يتفق مع سوريا من حيث المبدأ على عملية المصالحة، إلا أنه يختلف معها وبوضوح حول المصالحة، وحول هوية الأطراف التي تشملها.
المصالحة التي يدعو إليها المالكي تشمل سائر الأطراف التي ساهمت في إسقاط نظام البعث وانخرطت بشكل أو بأخر في العملية السياسية، كذلك تشمل هذه الدعوة بعض الجماعات التي تراجعت لأسباب شتى عن حمل السلاح ضد الاحتلال وضد الحكومات التي نشأت في كنفه، وهذه الدعوى لا تشمل البعثيين بمختلف أطرافهم ومجموعاتهم بمقدار ما تهدف إلى تكوين حلف ضدهم وضد عودتهم إلى الحياة العامة، بالمقابل فإن دمشق ترى أن من الضروري أن تشمل هذه المصالحة البعثيين وهذا الخلاف يبدو كأنه نقطة الإفتراق الأساسية بين الحكومتين السورية والعراقية.
وما جعل هذا الخلاف يتحول إلى أزمة عميقة ومفتوحة، تخوف إدارة المالكي من ميل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تأييد رأي دمشق في مسألة المصالحة الوطنية العراقية، فنائب الرئيس الأميركي جون بايدن دعا صراحة إلى تحقيق هذه المصالحة، وفي الزيارة التي قام بها المالكي خلال شهر يوليو/تموز الماضي سمع من المسؤولين الأميركيين نصائح من هذا القبيل، وتجددت مخاوف المالكي عندما زار وفد من المسؤولين الأميركيين لكي يبحث إضافة إلى العلاقات الأميركية السورية، المسألة العراقية واحتمالات المصالحة الوطنية بين العراقيين، الأمر الذي جعل المالكي ينتقد (التدخل الخارجي في شؤون العراق) ويقلل من أهمية (التداول في الشأن العراقي) في غياب ممثلي العراق، وقد برزت هذه المخاوف يوم زار المالكي دمشق إذ إن موضوع اللاجئين العراقيين، واستطرداً الموقف السوري تجاه مسألة المصالحة الوطنية في العراق، احتل حيزاً واسعاً من المداولات بين الحكومتين العراقية والسورية.
بناءاً على ما سبق، ثمة اتفاق في الرأي بين العديد من المراقبين بأن تقدم هذه المخاوف حافزاً ملحاً لأقطاب الحكومة العراقية لاتهام دمشق بأنها وراء انفجارات (الأربعاء الأسود)، فعبر هذا الاتهام تصيب حكومة المالكي عدة عصافير بحجر واحد: التفلت من تهمة التقصير الأمني، والتخلص من فكرة المصالحة الوطنية الشاملة التي تطالب بها دمشق، وربما تأكيد الحرص على السيادة الوطنية في وجه (الخارج)، وكل ذلك يفيد في الانتخابات العراقية المقبلة، شرط قبول واقتناع العراقيين بصدقية الرواية التي قدمتها حكومة المالكي حول انفجارات (الأربعاء الأسود).
الأبعاد الخارجية للأزمة
الأزمة بين العراق وسوريا ليست مفصولة عن الوقائع والترتيبات التي تشهدها المنطقة، وخاصة لجهة إعادة فك وتركيب التحالفات وضبط التوازنات، بما يتناسب والتوجهات الأميركية الجديدة في المنطقة، من هنا فإن ثمة رأي بدأ بالتبلور في أوساط مراقبين سياسيين وإعلاميين، يؤكد أن تفجيرات (الأربعاء الدامي) جرى تصميها من قبل مخططي جهات معينة لضرب النفوذ السوري في العراق، وضرب المتحقق في محاولات الانفتاح الخارجي السوري.
وتلفت مصادر عراقية معارضة في دمشق إلى تزامن هذا التصعيد مع بدء حوار سوري أميركي من جانب، ومع نجاح سوريا في التأسيس لتعاون إستراتيجي من جانب أخر، الأمر الذي قد تتضرر منه أطراف إقليمية وبالتالي لن توفر جهداً لعرقلته، في إشارة منها إلى العلاقات الوطيدة بين المالكي وإيران المأزومة داخلياً، ولم تستبعد تلك المصادر العراقية وجود مصلحة إيرانية في توتير علاقات العراق مع دول الجوار العربي وبما يعمق التورط الأميركي.
إلا أن هذا التحليل ليس سوى احتمال لا يمنع احتمال أخر وهو أن التقارب السوري العراقي هو جزء من تعاون إقليمي سوري عراقي إيراني تركي، وهو أمر ممنوع أميركياً كما هو ممنوع أي تقارب سوري عربي، قبل أن تتوضح آفاق سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة.
ويلفت المراقبون هنا إلى أنه قد يكون من الصحيح أن إدارة أوباما التي بدأت في إجراءات مراجعة جوهرية في علاقاتها مع دمشق، وبالرغم من اتخاذها موقفاً محايداً من تفجيرات (الأربعاء الأسود) ومطالبتها الدولتين بحل المشكلة ثنائياً، فإنه ليس من الواضح على وجه اليقين ما الذي يريده الأميركيون من سوريا، ولكن ليس من الصعب توقع أن تكون فلسطين، وإيران، ولبنان، والمفاوضات السورية الإسرائيلية، والعلاقات السورية الروسية، على رأس الملفات العالقة بين البلدين، وبالتالي تسعى الإدارة الأميركية إلى سحب الورقة العراقية من يد المفاوض السوري للضغط عليه في ملفات أخرى.
مآلات الأزمة
يقدر المراقبون وجود سيناريوهين واضحين قد يصبح أحدهما المآل التي ستصيره الأزمة الحالية بين العراق وسوريا:
ـ الأول: ينطلق من فرضية أن هذه الأزمة ستكون أداة ضغط إضافية على دمشق، في مؤشر إلى فشل مساعي الانفتاح الأميركي على سوريا، لاسيما أن سقف المطالبة العراقية الرسمية أصبح عالياً جداً، وهو لا يمكن أن يحدث من دون غطاء دولي عموماً، وأميركي خصوصاً، وبناءاً عليه فإن الأزمة ستسهم في مزيد من الضغط على دمشق، وتطرح كثيراً من علامات الاستفهام على حالة الانفتاح الغربي على دمشق.
ـ الثاني: يرى أن هذه الأزمة إلى تراجع، بسبب الطبيعة المعقدة التي يولد عبرها النظام الإقليمي الجديد في المنطقة، والذي باتت ترتسم ملامحه في الأدوار التي تلعبها كل من تركيا وإيران في إطاره، وانتظار وضوح مقاربة واشنطن للصراع العربي الإسرائيلي، فالعراق الجديد، وبالتالي علاقته الجديدة مع سوريا، ترتسم في إطار هذا النظام الذي سيكون نظاماً (آسيوياً مشرقياً) أكثر من كونه آسيوياً أفريقياً، كما تجسده الجامعة العربية.
ووفقاً لهذا الترسيم يبدو أفق العلاقات بين العراق وسوريا أفقاً إيجابياً لا بل ربما، قد يكون من المثير الآن توقع أنه سينشئ نوعا من التحالف بينهما على المدى الأبعد، يحتمه تشكل علاقات النظام الإقليمي الجديد وغير المكتمل.
الجزيرة نت