العراق: خيار التدويل بصفته بديلاً من التعامل بالمثل
حازم الأمين
يجب التأمل كثيراً في المعاني التي تقف خلف كلام رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي عن تعويله على دور للمجتمع الدولي (الأمم المتحدة تحديداً) في الأزمة مع سورية، وتقديمه هذا الدور على أي دور عربي محتمل، مع ما يتضمنه هذا الكلام أيضاً من تجاوز للمساعي التركية في «رأب الصدع» بين البلدين الجارين.
أولاً، ماذا يعني لأي عراقي أو عربي نقل قضية الخلاف من الأمم المتحدة الى الجامعة العربية؟ سيمثل ذلك من دون شك نجاحاً سورياً في «تجاوز المحنة» من دون أن يسجل العراق أي خطوة باتجاه تحقيق ما قدمه من مطالب. فهل لدى الجامعة مثلاً جهاز تنفيذي يتولى التحقيق في مزاعم عراقية عن وجود معسكرات تدريب لعراقيين في سورية؟ هذا إذا افترضنا وجود نية للقيام بذلك.
وإذا ثبت للجامعة، وهو أمر غير صعب، أن المزاعم العراقية بوجود وسائل إعلام لفصائل مقاتلة عراقية تبث من سورية برامج تتضمن تعليمات على كيفية صنع متفجرات وتوجيهات لاستهداف الجيش والشرطة في العراق، فكيف يمكن أن تتحرك الجامعة؟
وبعيداً من مدى قدرات الجامعة العربية على التحرك، وهي محدودة من دون شك، فإن في العراق شعوراً عاماً بأن الأجواء العربية غير مهيأة لاستقبال إيجابي لأي قضية عراقية، ناهيك عن أن الحساسية العربية المفرطة حيال مقولات التدويل هي في العراق أضعف منها في أي بلد آخر. هذا واقع أسبابه كثيرة، ولا تقتصر على حقيقة التخلف العربي عن احتضان التجربة الجديدة في بغداد. ثم إن معارضي التدويل من العرب والعراقيين يستعينون في اعتراضهم عليه بانعدام الحماسة الأميركية له، وهم كانوا ليدينوه أكثر في حال التقاطهم إشارات مختلفة من الإدارة الأميركية.
هذه حال العراق مع جيرانه وعربه منذ توقيع الاتفاق الأمني مع واشنطن في النصف الثاني من العام الفائت. هذا الاتفاق الذي خُوّن العراق بسببه، ثم أعقب هذا التخوين صمت هائل حياله، وذلك بعدما اكتشفت كل دول الجوار أنها خطوة أكيدة باتجاه استعادة السيادة، وأنها ضمانة عراقية لدول الجوار بعدم استعمال الأراضي العراقية في أعمال عدائية ضد هذه الدول (لنستمع الى ما قاله بريجنسكي أخيراً لجهة ما تمليه الاتفاقية على الحكومة الأميركية في حال عبرت طائرات إسرائيلية الأجواء العراقية متوجهة لضرب أهداف في إيران: سيكون على القوات الأميركية إسقاط هذه الطائرات في حال طلبت الحكومة العراقية ذلك).
الاتفاق الأمني هو أحد إنجازات «تدويل العراق»، فيما «المقاومة» بصيغتها الأهلية المدمرة هي أحد وجوه تعريب الأزمة. انه مثل صغير على الفارق بين الخيارين، علماً أن المساعي العراقية اليوم تهدف الى نزع الصفة الاحتلالية عن التدويل، لا سيما أن «المحتل» غير راضٍ عنها، وهو يفضل عليها خيارات التعريب.
يبدو واضحاً أن مقاومة خيار المحكمة الدولية داخل العراق تراجعت الى مستويات ملحوظة جداً. رئيس الجمهورية جلال طالباني اقترب كثيراً في تصريحاته الأخيرة من وجهة نظر المالكي، ولا يجد نائب الرئيس عادل عبد المهدي، وهو أكثر المعترضين عليها حماسة، دعماً كافياً حتى من حزبه، أي المجلس الأعلى، أما الأطراف السنية فتراجع اعتراضها، ومعظمها لا يعترض على مبدأ المحكمة لكنه يطالب بأن تشمل إيران.
وجهة النظر العراقية في موضوع المحكمة تتلخص في أن الأمن في المنطقة كلها يقوم على توازنات الخوف والتعامل بالمثل، والعراق اليوم عاجز عن معاملة محيطه وفق هذه المعادلة، ولا بد من إخضاع علاقاته مع هذه الدول الى توازن آخر يتمثل، في رأي المالكي، بالمحكمة الدولية. إنها، بحسب مسؤول عراقي، «الهجوم المعاكس الأول منذ 2005»، إذ يشرح هذا المسؤول مرارات العلاقة مع دول الجوار طوال السنوات الفائتة قائلاً: «لم تبق وسيلة إلا واستعملناها، بدءاً بالمناشدة الأخوية، مروراً بالإغراءات النفطية، ووصولاً الى إصرارنا خلال مفاوضات الاتفاقية الأمنية مع الأميركيين على تبني مخاوف جيراننا كلها، وعلى رغم ذلك استمر المقاتلون بالتدفق الى العراق من دول الجوار».
الاعتراضات العراقية على المحكمة الدولية اليوم شكلية، فبين قائل إن المالكي تسرع في هجومه المعاكس ولم يشاور أحداً، وان حماسة وزير خارجيته هوشيار زيباري للمحكمة مرتبطة بحنقه الشخصي الناجم عن استهداف تفجيرات الأربعاء الدامي وزارته وشخصه، وقائل إن رئيس الحكومة يستثمر انتخابياً في هجمته على سورية، يبدو أننا هنا انتقلنا الى مستوى اعتراض غير جوهري سيفضي، على ما يبدو، الى إجماع عراقي على وجهة «تدويل الأزمة»، وهذا علماً أن دلالات هذا الكلام تحمل الكثير من المعاني، ولكن في سياق آخر: فأن تكون لـ «الهجوم» على سورية ثمار شعبية في العراق، فهذا مؤشّر على قناعة شعبية سلبية حيال دورها في بلاد الرافدين، وان يُطالب زيباري بتجاوز استهدافه شخصياً بمتفجرة، فهذا مطلب لا يمت الى الطبيعة البشرية بعلاقة. أما أن يُتهم المالكي من وسائل إعلام قريبة من نائب الرئيس عادل عبد المهدي بأنه يلبي بإصراره على المحكمة طلباً إيرانياً، فهذا مؤشر الى استخفاف لا حدود له بعقول العراقيين، يغفل عن أن مطلقيه أقرب الى طهران من المالكي.
من دون أن يستبعد المرء الدوافع الداخلية للحماسة للمحكمة الدولية على أبواب الانتخابات العامة في العراق، وأيضاً من دون استبعاد احتمالات خلاف سوري – إيراني خلفها، يبدو أن العراق بدأ يرسم ملامح مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، أو ما يسميه العراقيون «السيادة الكاملة». وملامح هذه «السيادة» خلاف مع الأميركيين في الكثير من الملفات، والاستعاضة عن العجز عن التدخل بالمثل (معادلة الاستقرار في المنطقة) بدور وازن للمجتمع الدولي من دون صفته الاحتلالية.
مرة أخرى سيجد العراق العرب معترضين طريقه في مشكلته مع الأميركيين، فالاحتلال لم يكن جوهر سوء تفاهمهم معه على رغم مقولتي «المقاومة» و «الاحتلال» وغيرهما. أما في موضوع المحكمة، فهذا نوع من «التدويل» المثير لحساسية أخرى لديهم، إذ إن المجيء بالقانون الدولي ليكون فيصلاً في حل النزاعات سيكون تجاوزاً لمعادلة القوة والتعامل بالمثل التي أرسوها في علاقاتهم منذ نشوء كيانات دولهم.
الحياة