إمتياز الكوارث وصناعة العزلات الفاخرة
بلال خبيز
دفع اللبنانيون ضريبة اتصالهم بالعصر، في ظل الحرب المدمرة، عزلات شبه مطلقة، بافتراض ان انتهاء الحرب قد يعيد ترميم ما انكسر في هذه المستويات. لكن المفارقة الابرز تمثلت في الاتجاه العام الذي حكم العالم بعيد اعلان انتهاء الحرب الاهلية اللبنانية نحو الاستعاضة عن الفردية، ايقونة الحداثة الابرز، بصناعة العزلات. الفارق البالغ الاقلاق بين هذا الاتجاه في العالم واضطرار اللبنانيين إلى الدخول في عزلاتهم الموحشة، يتعلق بالاطمئنان والدعة. ففي حين يبدو الاتجاه العام نحو العزلات الفاخرة والوثيرة في العالم خياراً، ما كان لشروطه ان تتحقق لولا اطمئنان متمادٍ إلى قدرة العلم والتكنولوجيا على تأمين كل اسباب الاتصال بالعالم ووسائله، فيستطيع الفرد استعمالها حالما يضطر إلى ذلك او يدعوه إليها الضجر، يبدو اللبناني مسوقاً إلى هذه العزلة اضطراراً لأسباب كثيرة ليس اقلها الدمار الفظيع الذي لحق باللغة المشتركة بين اللبنانيين، ولا يختصرها الخوف من المستقبل الاسود الذي يرونه جاثماً في كل لحظة وفي كل مكان غير المكان الذي تعوّدوا الفته والاطمئنان إليه، وهو مكان يضيق في الحروب ضيقاً خانقاً.
الفارق في الحالين يتعلق اولاً في النظرة إلى المستقبل، ففي حين ان الذاهب إلى عزلته اختياراً يجد المستقبل تكراراً مملاً لما حدث من قبل، اذ تتكفل السلطات والسياسات، العلمية منها على وجه الخصوص، بجعل المستقبل يأتي مكروراً وباهتاً ومن دون احداث عظيمة، كان اللبناني يرى مستقبله امامه واضحاً. ولا يكون المستقبل واضحاً ومتجلياً إلا حين يقود إلى الهاوية الفاغرة. الذاهب إلى عزلته اختياراً لا بد انه مطمئن اطمئناناً بالغاً إلى الخطط الاقتصادية والسياسية التي تضعها السلطات، مثلما يطمئن إلى حتمية أن تتكلل بالنجاح المساعي الآيلة إلى ايجاد علاج للايدز ومرض السرطان. في هذا الوقت تدعوه السلطات إلى الاجتناب والتقوقع والاكتفاء بالضروري من العلاقات مع البشر، والاعتماد اعتماداً متمادياً على التكنولوجيا التي تغني عن وجود هؤلاء. فقط على المرء ان يطمئن بين الحين والآخر، تلفونياً او عبر الاتصال بالانترنت، الى ان الماكينة ما زالت في الخارج تدور على النحو الملائم، وان البشر ما زالوا موجودين في جحورهم، بدليل انه يمكن الاتصال بهم عبر الانترنت او الهاتف وهما يقعان حكماً في صلب الحيز الخاص لمستعملهم. ينبغي ان يكون كل شيء محسوباً في دقة شديدة فلا يترك مجالاً للخطأ كي يتمكن المرء من الدخول في جحره والعزوف عن مغادرته إلا اضطراراً.
صناعة المهملين
شكّل يوم 11 ايلول 2001 مثالاً ساطعاً على ما لا يمكن توقعه في المستقبل. والحال، فإن المحاولات بُذلت حثيثاً لجعل الهجوم الارهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة حدثاً واقعياً متوقعاً ولا يندرج في خانة تجريم المسؤولين المهملين فحسب، بل يتعداه إلى الادعاء المفرط والفظ بالسيطرة على كل الاحداث والتنبؤ بكل ما يقع ويمكن ان يقع. هذه المحاولة الفظة تريد تحويل الحدث إلى ما يشبه الخطأ الطبي. فحين يموت المرء بسبب خطأ طبي لا يعود لكل من تم انقاذ حيواتهم على يدي هذا الطبيب أي اعتبار. فقط يُنظر إليه بوصفه مسبّب الموت الذي يجب ان يدان بسبب اهماله وخطئه. وهذا اتجاه اثير في صناعة المهملين والخطأة، يعفي السلطات من احتمال مساءلتها عن مدى جدواها وعن احتمال تخلفها عن الركب الحضاري والتكنولوجي والعلمي. فلو حدث ذلك واكتشف الاميركيون والعالم لا جدوى نظامهم الأمني لبدا المستقبل الاميركي اسود وغير باعث على الاطمئنان. هذا النظام اثبت جدواه المفحمة أثناء عاصفة الصحراء، ففي حين كان الطفل الاميركي ينام خائفاً كل ليلة ويسأل امه إن كان صدام حسين سيقتله، كانت الطائرات الاميركية تنزل الموت حقاً في اطفال العراق. الخائف لم يكن الطفل العراقي الذي مات بل الطفل الاميركي الذي نجا بفعل نجاعة النظام الامني واتصاله بكل اسباب التكنولوجيا، في مواجهة هذا العدو الخطير والشرير. لكن الموت الذي اصاب الاميركيين في 11 ايلول اصابهم حقاً. لذلك لا بد من رده إلى احتمال من احتمالين، إما الاهمال الاداري، وهذا يجعل الامر قابلاً للتصحيح واعادة الامور إلى سويتها. واما إلى الكارثة، بوصف كل حدث غير متوقع في البلدان المتقدمة حدثاً كارثياً بامتياز.
الكارثة ملجأ السلطات الحديثة في بحثها المحموم عن طمأنة المواطن إلى مستقبله، فالكارثة تقع على غير توقع ولا يمكن حساب احتمالاتها. انها تعارض المنطق وتسلبه استواءه وقدرته على الاقناع. لذا تُرد الحوادث الكبرى إليها كي لا يخسر المنطق سلطته المفحمة وقدرته على الاقناع. في هذا المعنى تبدو الكوارث امتيازاً اكثر منها شراً مستطيراً. وتبدو البلاد المعرضة للكوارث أعلى كعباً من تلك التي لا يمكنها حيازة هذا الامتياز.
امتياز الكوارث
لا احسب ان الأميركيين او الغربيين بذلوا جهوداً كبيرة تختلف اختلافاً بيّناً عن اللبنانيين وهم يناضلون اثناء الحرب من اجل استمرار اتصالهم بما يجري في العالم. لكن اللبنانيين لا يملكون ان يردوا حربهم الاهلية إلى الكوارث، فهم ايضاً ينظرون إليها بوصفها تنم عن تخلف وضعف صلة بالعالم واسباب التمدن والتحضر، على غرار ما يفعل الغربيون. وهم لا يرون في بلدهم اليوم غير الحركات الاصولية والارهاب والفقر واحتمالات زوال لبنان او انهيار اقتصاده او عودة الحرب إليه. في حين ان كل هذا الجهد الذي بذله اللبنانيون لبقاء صلتهم بالمعاصرة قائمة، يذهب في اعتبار الغربيين ادراج الرياح. المعنى ان الغربي، والارجح ان اللبنانيين يوالونه في ذلك، يرد اسباب تعثرنا في التقدم والتطور إلى التخلف وليس إلى الكارثة. إذ يعقب الكارثة انتباه، واثارة اسئلة مقلقة، ومساءلة الذات قبل الآخر وتحميل النفس مسؤولية في البناء، على نحو ما جرى إثر نجاح لوبن في فرنسا في منافسة الزعيم الديغولي على منصب الرئاسة، والذي اعتبر كارثة حقيقية تستوجب تضافر جهود الفرنسيين كلهم واستيقاظهم من غفوتهم وخروجهم من عزلاتهم من اجل اعادة الامور إلى نصابها الرتيب. في حين ان ردّ اسباب التعثر والمعاناة إلى التخلف قد يثير في ما يثيره مشاعر الحنو والشفقة، لكنها ابداً لن تخرج الحاني والشفوق من راحته النفسية نحو اضطلاعه بدور اساسي في مساءلة نفسه عن الاسباب التي حدت بهذا البلد او ذاك إلى المراوحة في تلك الحدود. وهذا ضرب من التخفف من المسؤوليات يجعل كل شيء مباحاً. وفق دعاوى يغلفها بعض المهتمين بالشؤون العالمثالثية من الغربيين بعبارات يسارية وشعارات تتحدث عن العدالة والحقوق المتساوية. كأن يدعو البعض منهم إلى ترك الشعوب وشأنها تدبّر امورها كما ترى ذلك مناسباً، فلا يعود ختان الاناث او ضرب الاولاد او قمع الشعوب اموراً تتعلق بالانسانية جمعاء، بل بثقافات متباينة تملك كل واحدة منها حظها من المنطق المختلف عن الاخرى.
قد يكفي للرد على هذا الاتجاه العنصري المقلوب، تذكر حنة ارندت في “اسس التوتاليتارية” ولا احسب ان عربياً او شرق اوسطي يمكنه قراءة مثل هذا الكتاب من دون ان يحيل الاحداث والسبل التي اعتمدها النازيون الالمان والستالينيون السوفيات على امثلة حية من واقعهم اليومي في اي بلد من البلدان التي يعيشون فيها. وحين تكون النازية انتاجاً تاريخياً في الغرب الديموقراطي، فإن تطابق سبلها مع بعض سبل السلطات العالمثالثية لا يمكن رده إلى المنطق المغاير الذي تدور على هديه الثقافة العالمثالثية عموماً. هكذا يستطيع الغربيون ان يسألوا انفسهم لماذا ينتحر الاسلاميون مفجرين انفسهم في فلسطين، لكنهم يتغاضون عن قراءة سبل التوتاليتارية المنقولة بحرفها من تجارب غربية، بافتراض ان المتخلفين لا يتأثرون إلا بما يعوق تقدمهم او يتناسب مع منطقهم غير المفهوم. مثل هذا الاعتبار ينقل بعض التصرفات العنصرية حيال العرب والمسلمين في الغرب، وفي الولايات المتحدة الاميركية خصوصاً، من حيز التطير والخوف والشك إلى حيز الايديولوجيا التي تجعل كل تلك الشعوب مفطورة على الشر والقتل والارهاب بحسب منطقها غير المفهوم.
ينبغي للعالمثالثيين طبعاً، ان ينفوا كل صفة من صفات الارهاب عن انفسهم. لكنهم ايضاً يجب ان يناضلوا لإثارة الاسئلة الصحيحة في ضمائر الغربيين مرة اخرى، على غرار ما فعل الفرنسيون حين قرروا انه لم يعد يحق للمرء ان يسأل: كيف يكون المرء فارسياً بعد كتاب مونتسكيو الذائع الصيت.
المستقبل