صفحات مختارة

ديناصورات الحداثة والثقافة

علي حرب
مشكلة المجتمعات هل يصنعها المثقفون والدعاة؟
هل خرج العرب من التاريخ؟ هل هم الآن الرجل المريض في العالم؟ أم هم في طور الانقراض الحضاري؟ منطلق هذه الأسئلة ما تطالعنا به التأويلات والتقويمات التي تفتح أبواب المناقشة في غير مسألة ومن غير طرف أو مدخل، حول الأزمة المزمنة في العالم العربي. لذا فالكلام في هذا الشأن الحيوي والمصيري ليس جديداً، وإنما هو قديم بدأ بعدما استفاق العرب على تفوق الغرب وتقدمه وغزوه لبلدانهم، لكنه يتجدّد، طوراً بعد طور أو إخفاقاً بعد إخفاق، في مواجهة التحديات والاستحقاقات، تحت مسميات عديدة وبعناوين مختلفة، فيكون مرةً مسألة الهوية وأخرى مشكلة التقدّم وثالثة قضية التحرّر ورابعة أزمة النمو.
أزمة مزمنة
اذا كان لواحدنا أن يتدخّل، فلكي يضع موضع المساءلة مهمة المثقّف الذي يلعب دور المصلح أو الثائر المنظّر لمشاريع التغيير والتحديث. منطلقي الى ذلك هو مقولتي بأن مشكلة المفكرين هي مع أفكارهم، والفلاسفة مع مفاهيمهم، وعلماء الاجتماع مع نظرياتهم، تماماً كما أن مشكلة العقل، أياً يكن صاحبه، لا تأتي من خارجه، بل “تنبع من الداخل”، بقدر ما تكمن في آلياته اللامعقولة وممارساته المعتمة أو في قوالبه المتحجرة وأقانيمه المقدّسة.
النبوة والوصاية
من هنا يبدو لي أن كثيراً من السجالات الدائرة، ولا أقول كلها، حول الازمة في العالم العربي، وفي خارجه، إنما تقفز عن المشكل، إذ هي تتم بالعقلية نفسها التي صنعت الازمة، او على الاقل تستخدم ادوات فكرية لا تساعد او لا تساهم في شق وجهة جديدة لاجتراح الإمكان وتركيب الحلول المفضية الى الخروج من المأزق الوجودي او النفق الحضاري.
علّة ذلك أن المقاربات والمعالجات تجري، في أكثر الاحيان، بعقل نخبوي فوقي، نرجسي، مبناه المضمر او المعلن، ان مفاتيح الحلول للنهوض والتحديث والتقدم، إنما يملكها الفلاسفة والمفكرون الذين يجسدون الصفوة والنخبة في وصفهم العقول النيرة والضمائر الحية التي تحتكر الوعي والفهم والعلم في كل ما يتعلق بأطر النظر وسلّم القيم ومعايير العمل في مجتمع من المجتمعات. والوجه الآخر لـ”احتكار” المعرفة من جانب الصفوة والنخبة هو “احتقار” الناس بالتعامل معهم كرعايا يحتاجون الى شخص يملك مواهب ومقدرات استثنائية، لكي يقودهم وينوب عنهم في التفكير والتدبير، باعتباره أدرى منهم بمصالحهم او أولى منهم بأنفسهم، على ما هو تعريف النبوة والوصاية.
هذا الطيف التنويري، النخبوي والنبوي، قد تحكّم في عقول الدعاة والمصلحين والمثقفين، قدماء ومحدثين. وهناك من يجسد هذا النموذج على النحو الاقصى تطرفاً واغراقاً في النرجسية الفكرية. أقصد بهم الذين يتعاطون مع دور المثقف بوصفه الشخص الملهم او الخارق الذي يُنتظر ظهوره لإنقاذ العرب مما هم فيه من قصور وتخلّف حضاري أو انسداد تاريخي، باعتباره الشخص المؤهل لفك العقد وتشخيص الداء، أو لتركيب الحلول وتقديم الدواء. لأنه وحده القادر في رأيهم على الوقوف على السر وكشف الحقيقة المختبئة او المطمورة بجوهرها المتعالي والصافي؛ على هذا النحو يتخيل بعض التنويريين العرب دور المصلحين والمفكّرين الكبار. ومثالهم بالطبع فلاسفة كنيتشه وكانط وهيغل.
الذوبان والقطعان
نحن هنا إزاء وهم مزدوج. وجهه الاول هو انتظار فرد عبقري أو استثنائي، نبي مبّشر أو فيلسوف منظّر، تناط به وحده مهمة تنوير العقول وتحرير النفوس وانقاذ الامة من غياهب الجهل وطبائع الاستبداد.
هذا الوهم الذي يسيطر على عقول المثقفين مآله أن يدمّر أصحابه، إذا لم يفضِ بهم الى الإخفاق أو الى الزيف والنفاق. فهو الذي دمّر نيتشه، بقدر ما تعاطى مع نفسه في وصفه معلم الحقيقة والعالِم بأسرار القوة وصاحب الانجيل الجديد الذي ينتشل البشرية من انحطاطها وضعفها.
الوجه الآخر لهذا الوهم أن الحقيقة، ولا سيما في ما يخص الواقع المجتمعي والسياسي، ليست ماهية مطلقة أو متعالية أو مسبقة أو ثابتة، وانما هي ما يخلقه الناس من الوقائع بأعمالهم وصنائعهم وإنجازاتهم، أو بمساوئهم وإخفاقاتهم وكوارثهم. لذا هي متحركة ومتغيّرة بقدر ما هي نسبية ومبنية؛ وهي محايثة بقدر ما هي ميدانية، قطاعية، علائقية.
إن انتظار المفكر الكبير الذي يتماهى مع هموم الامة ويذوب فيها، كما ينظّر بعضنا، والأحرى القول تذوب هي فيه كما علّمتنا التجارب، هو الوجه الآخر، على صعيد الثقافة، للزعيم الاوحد او للقائد المرشد في معترك السياسة أو على جبهة الدين. ومن المفارقات أن المثقف التنويري والحداثي، طالما انتقد التهويم اللاهوتي والاستبداد السياسي، لكنه أثبت أنه يفكر ويعمل كلاهوتي أو كحاكم، بقدر ما تحكمت بعقله أطياف الزعيم الاوحد والمهدي المنتظر. لا أتعسّف في القول، ذلك أن فكرة “الذوبان”، التي تصنع الحشود والقطعان، هي نقيض الاستنارة والعقلانية والحرية. ولذا كانت الشعار الذي طرحه بعض التيارات الأصولية منذ عقود، لحثّ الأتباع على أن يذوبوا في القائد أو المرشد أو الزعيم، كما يذوب هو في الأمة أو القضية المقدّسة، كما كانت تطالعنا العبارة في شوارع بيروت وعلى جدرانها. هكذا فإن بعضنا يهاجم الاصولية، فيما مبنى فكره أصولي استبدادي أو لاهوتي غيبي، مما يعني أننا نتواطأ مع أضدادنا الذين نستبعدهم أو ندّعي محاربتهم.
على كل حال، لقد انتظر العرب طويلاً، داعية بعد داعية، ومشروعاً بعد مشروع، وثورة بعد ثورة، ظهور المعجزة على يد قائد ملهم او مهدي منتظر، يظهر بين الحشود العاجزة ليقلب الأوضاع المتردية رأساً على عقب، فكانت الحصيلة حصد التراجعات وانهيار المشاريع وترجمة الشعارات بأضدادها، كما نعاني على غير صعيد، وكما تفاجئنا الارتكابات والإفلاسات والفضائح.
لا يعني ذلك إلغاء دور المفكرين من علماء وفلاسفة في درس الواقع لتسليط الضوء على مشكلاته أو تعرية أعطاله وآفاته، على سبيل التشخيص والمعالجة. لكن افكارهم ومعارفهم وصيغهم، هي مجرد اقتراحات للمداولة والتحويل، كي تترجم، عند من يتداولها أو يقتنع بها، إجراءات عملية او مبادرات ناجحة او مشاريع تنموية.
المهنة والميزة
هذا يتطلب اعادة النظر في دور المفكرين من غير وجه:
1- التوقف عن ادعاءات القبض والتيقّن والتحكّم، في ما يخص حقيقة الواقع ومعطياته. فالعالم هو أسرع حراكاً وأكثر تعقيداً، بسيرورته والتباساته ومفارقاته ومتاهاته، من أن نقبض على قوانينه أو نتحكّم في مساراته، على ما يدّعي أهل اليقين الدغمائي والفكر الأحادي، وعلى ما يتوهم أصحاب الحتميات الصارمة والنظريات الشمولية. نحن ننخرط في واقع مفتوح على احتمالاته، غني بإمكاناته، متشابك بعلاقاته، بقدر ما هو منسوج من فجواته وفراغاته. الرهان هو إمكان التدخل بلغاتنا وأدواتنا ومفاهيمنا وسيناريوهاتنا واستراتيجياتنا، لإحداث خرق يكسر الحواجز أو يعدّل الشروط أو يخربط الحدود، وعلى نحوٍ يغيّر خريطة الفكر وطرق المعرفة، بقدر ما يغيّر علاقات القوة أو الثروة… هذا ما يفعله ذوو الفكر الحيّ والخصب، المنفتح والمركّب. إنهم يخرقون السقف الوطني نحو الأفق العالمي والكوكبي، بقدر ما يخلطون الأوراق بين المدارس والمناهج والدول، بين يمين ويسار، أو بين إشتراكية ورأسمالية، أو بين مركز وهامش، أو بين إسلام وغرب، أو بين عالم متقدّم وعالم متأخر. هذا ما تشهد به تجارب الدول الصاعدة، كالصين والهند وتركيا، إذ هي نجحت في نماذج التنمية، بقدر ما أصبح بعضها مراكز للدرس وإنتاج المعرفة.
2- أن نمارس التُقى الفكري والتواضع المعرفي، بحيث نعترف أن التفكير لا يحتكره المفكرون المحترفون. فمن السذاجة والجهل والعسف الاعتقاد بذلك، لأن الفكر ليس “مهنة” لفئة خاصة من الناس، بل هو “ميزة” الانسان عامة. وهذا هو مؤدّى مقولة ديكارت، “أنا افكر إذاً انا موجود”: علاقة الانسان بوجوده هي علاقة تفكر وتأمل او تعقل وتدبر، بقدر ما هي علاقة ابتكار وتجديد أو تطوير. ولذا لا ينجح عمل او مشروع ما لم يمارس صاحبه علاقته بفكره بصورة خلاّقة وفعّالة، بصرف النظر عن المهن والصناعات او الحقول والقطاعات. من الشواهد الحية على ذلك أنه عندما سئل رجل الأعمال المكسيكي من اصل لبناني كارلوس سليم الذي هو من أغنى اغنياء العالم كيف يبدأ يومه أجاب بعقل ديكارتي: قبل البدء بالاطّلاع على الرسائل والمستجدات او اجراء الحسابات والصفقات، أكرس الساعة الاولى للتفكير والتأمل (Je pense)، مما يعني أن المقولة الديكارتية لا تصوغ فقط علاقة ديكارت بفكره، بل تصوغ العلاقة بين الفكر الحي والمتجدد وبين الوجود الفاعل والمزدهر، لدى كل فرد فاعل في عمله ومجتمعه او عالمه.
العين النقدية
3- أن نصحو من السبات. فهناك أناس لا يحملون لقب المفكر، إنما يمارسون علاقتهم بفكرهم بصورة خصبة ومثمرة، سواء في عالم الاعمال ام في دنيا الاعلام ام في قطاع المصارف ام في ميدان الرياضة الذي هو قطاع وجودي مزدهر. ولا ازدهار من غير فكر متحرّك متطوّر متجدّد. وفي المقابل هناك عاملون في ميادين الفكر، تناط بهم مهمة الإشتغال على الأفكار لتجديد أُطر النظر وأنساق المعرفة وصيَغ العقلنة، لم يجددوا حرفاً في الافكار التي يتداولونها منذ عقود، على ما هي علاقتهم بمفردات العلمانية والعقلانية والديموقراطية، فضلاً عن التقدم والماركسية والاشتراكية. ومن المعلوم أن هذه العناوين تخضع بصورة دائمة، حيث نشأت في المجتمعات الغربية، لإعادة النظر والبناء، على وقع التحوّلات، على سبيل التجديد والتطوير أو التوسيع والإثراء، وعلى نحوٍ يطاول المفاهيم والأُطر والقواعد وميادين الممارسة.
لو توقفنا عند مسألة الديموقراطية، مثالاً، نجد أنها تخضع، في ضوء الأزمات والإخفاقات والتحولات، الى المراجعة الدائمة لإعادة تركيب المفهوم على سبيل التوسيع والإغناء، في ما يخّص أشكال التعبير والتنظيم والمراقبة والمشاركة وآلياتها، وذلك من خلال إعادة ترتيب العلاقة بين مفهوم الديموقراطية وشبكة من المفاهيم ترتبط بها، كالمشروعية، والعمومية، والمواطنية، والكونية، فضلاً عن التجمعات والمنظمات الأهلية والمدنية أو المدينية. هذا ما يفعله، مثالاً، في فرنسا، رئيس جمهورية الأفكار فيها، بيار روزالنفالون. أما في ألمانيا، فإن الفيلسوف هابرماس يعيد بناء المفهوم عبر ربطه باللغة التي هي الوسيط أو البيئة لما تطلبه الديموقراطية والعمل المشترك من التحاور والتداول.
هكذا الأمر في غير مسألة أو محوَر: فنحن ننتقل الآن من العقلانية النقدية الى نقد العقلانية، ومن النظرية الاجتماعية الى اجتماعيات النقد، كما ننتقل من نقد العقل الى نقد النصّ، ومن المنطق المتعالي الى المنطق التحويلي، ومن المجتمع النخبوي الى المجتمع التداولي. على هذا النحو، يمكن أن تُفهَم الحداثة كموقف نقدي وفكر إشكالي ومنطق تعددي، بموجاتها المتلاحقة وعناوينها المتجددة وأنظمتها المرّكبة.
في كل حال، هذا شأن المجتمعات التي تمارس حيويتها الوجودية. إنها تملك عيناً نقدية على نفسها، تجعلها تهتم بصورة دائمة بأعمال المساءلة والرقابة والمحاسبة من أجل تجديد الرؤية وتطوير الوسيلة وتعزيز القيَم المتعلقة بالحقوق والحريات والمصالح العمومية. من غير ذلك، يسيطر الطغاة والآلهة والأنبياء والسحرة والكذبة، لكي تزدهر مظاهر الانتهاك والفساد والشعوذة والمسرحة والقرصنة.
ديناصورات حداثية
أما عندنا فإن العناوين الحديثة تتحول متحجّرات فكرية، أي مقولات هشّة، مستهلكة، خاوية، كما يتجسّد ذلك في خطب المثقفين والدُعاة الذين باتوا أشبه بديناصورات حداثية. ولذا تراهم يتخيّلون مستقبل العرب الآتي كما كان ماضي اوروبا الآفل. لكنهم لا يمارسون التخيّل على سبيل الخلق والابتكار، من أجل تجديد العناوين والمفاهيم. لأن الشاغل والمقصد ليس فهم المجريات وإنتاج معارف ثمينة او شبكات مفهومية فعّالة حول الواقع والعالم، بل المناضلة مدافعةً وتبجيلاً، او هجوماً وتبخيساً. والحصيلة هي تراجع لا تقدّم، تعطيل للطاقة وليس اطلاقاً للقوى الحيّة، تفويت للفرص بدلاً من فتح الامكانات والآفاق.
من هنا لم تعد القضية أن ندافع عن الحداثة والعلمانية والعقلانية والحرية، بل لماذا تتراجع هذه العناوين عما كانت عليه قبل عقود، لكي تصبح أسماء على غير مسميات. هذه هي المشكلة التي يصنعها التعامل مع شعارات الحداثة بعقل تقليدي، لاهوتي، أصولي، أحادي، مما يعني أن مصدر الأزمة هي عند مَن يدّعي امتلاك حلّها. لنعترف بذلك حتى نعرف كيف نتغيّر ونُغيّر.
العضلة والمعرفة:
4-أن يكفّ المفكرون والمثقفون عن ممارسة الوصاية على الناس. إذ لا أحد  ينوب مناب سواه او يفكر عن غيره، ما دام التفكير ميزة الانسان. ومن نفكر عنه او يرمي سلاح التفكير الحي، يفقد اولاً انسانيته، اي ميزته وجدارته، ويتحول آلة او مادة او عبداً وتابعاً، كما يفقد فاعليته، بقدر ما لا يمارس حيويته الفكرية ولا يحسن تشغيل طاقته العقلية، ولا سيما اليوم، حيث العمل المنتج، يعتمد على المعرفة اكثر مما يعتمد على العضلة. فلا يعقل أن يصلح مجتمع يفكر عنه حفنة من المثقفين، فيما الاكثرية الساحقة من الناس لا تبالي بأفكارهم ومناقشاتهم وسجالاتهم.
لا يعني ذلك أن العلة تكمن في أن الافكار والحلول التي ينتجها او يبتكرها المفكرون، لا تصل الى عموم الناس. وإنما العلة هي أننا لا نحسب حساباً لما يفكر فيه العاملون في بقية القطاعات، ولا نأخذ في الاعتبار دورهم في تشخيص المشكلات وابتكار الحلول، بقدر ما نتعامل معهم في وصفهم جمهوراً لا يعقل او قطيعاً لا يفكر.
فما يحتاج اليه النهوض والاصلاح والتحديث والازدهار، هو أن يتصرف كل فرد في وصفه منتجاً وفاعلاً ومشاركاً ومسؤولاً، اي في وصفه يستطيع المساهمة في التشخيص والمعالجة، ولو في الحد الادنى، أي على مستوى حقله وقطاعه. فالكل مختصون وفاعلون بقدر ما هم مسؤولون ومشاركون.
صناعة مشتركة
5- لم يعد يجدي واحدنا، وأنا أعني نفسي قبل غيري، أن ننزّه أنفسنا ونرمي الملامة على سوانا، أو أن نتحدث عن العرب ككتلة واحدة متجانسة. فمن نتعالى عليهم أو نستبعدهم أو لا نحسن التداول معهم، يعرقلون المشاريع بقدر ما يصنعوننا على شاكلتهم، إذ هم شركاء لنا في صنع المصائر! وإلا كيف نفسّر أن نكون رموز الأمة وعقولها، فيما هي على هذه الحال من التردي والتفكك.
ما يحتاج اليه المثقفون هو الخروج من القوقعة النرجسية، بحيث يتصرفون في وصفهم أصحاب مهن يعملون بخصوصيتهم كبقية العاملين في مختلف الميادين، ويؤثرون في مجتمعهم وعالمهم، بقدر ما يتقنون عملهم، كما هو شأن كل فاعل أكان فيلسوفاً ام تاجراً، لاعب كرة ام سائقاً بالأجرة. ولا نستهيننّ بأحد، فإن مضارباً واحداً قد يغيّر مسار الدورة الاقتصادية، او يُحدث الضرر بالاقتصاد، تماماً كما أن سائقاً بالأجرة يعرقل السير، قد يجعل المرور في المدينة المعاصرة جحيماً. وبالعكس، إن سائقاً يحترم القواعد ويتمتع بالذوق السليم هو فاعل إيجابي، بعكس مثقف يفبرك اللغو الايديولوجي او داعية يمارس الشعوذة الفكرية.
لنعترف حتى نساهم في حل المشكلات المستعصية والمتفاقمة. فالحلول لا يمتلكها فرد او قلة او نخبة، وإنما هي عملية متواصلة وسيرورة متنامية، بقدر ما هي صناعة مشتركة ينخرط فيها جميع الفاعلين، كلٌّ في حقل عمله ودائرة اختصاصه. مرة أخرى كيف نفهم أن تحصل كل هذه الكوارث المالية والبيئية والامنية والمجتمعية، مع وجود حشود من العلماء والمفكرين بترساناتهم النظرية ومناهجهم العقلية وحواسيبهم الفائقة.
واذا كان المشتغلون بالانتاج الفكري والرمزي، من المعارف والنظريات والمناهج والقيم والقواعد يساهمون في تنوير الناس وفي تشكيل وعيهم، فإن ما يبتكره الفلاسفة والعلماء، إنما يتغذى ويتجدد بالانفتاح على ميادين الممارسة وحقول الانتاج في مختلف القطاعات والميادين، أي على ما يفكر فيه الناس او يقترحونه في اي دائرة من دوائر عملهم.
لذا لم تعد تُجدي ثنائية النخبة والجمهور التي هي، في عقمها ومفاعيلها السلبية، الوجه الآخر لثنائية الزعيم والحشد او المرشد والقطيع. لا يُعقل أن نفكر في العقلية نفسها او نستخدم الاستراتيجيا نفسها في التدخل، فيما العالم يتغيّر بمفاهيمه وأدواته ومحرّكاته وقواه واللاعبين على مسرحه. فالصحيح والمعقول، ليس هو الذي يصحّ فقط في أذهان العلماء والخبراء، وإنما هو ما يعني الناس او يقتنعون به او يساهمون في بنائه على سبيل التخيّل والتفكّر. كذلك فالمجدي والفعّال من الحلول والمعالجات هو ثمرة التعامل مع الفرد في وصفه شخصاً قادراً ومستقلاً يصنع نفسه بقدر ما يمارس حيويته الفكرية، وفاعلاً يشارك في بناء مجتمعه بقدر ما هو ناجح في مجال عمله.
من هنا فإن الخروج من الأزمات، يتعدّى تغيير النظريات والمدارس والنماذج التي ينتجها العلماء وأهل الاختصاص، لأنه يطاول مهمة هؤلاء ودورهم، كما يطاول وسائل إنتاج المعارف وآلياتها، وتداولها وتأثيرها، سواء من حيث صوغها أم من حيث ترجمتها وتحويلها، بحيث تكون على صلة وثيقة بالوجود المحسوس والواقع الحيّ، الأمر الذي يعني كسر الحواجز الأفقية والعمودية في الفضاء الاجتماعي، بفتح الحقول والمستويات والهيئات بعضها على البعض الآخر، وعلى نحوٍ يردم الهوّة بين المعارف الأكاديمية والنظرية من جهة، وبين المعارف العادية والعامية لبقية الفاعلين الاجتماعيين.
المجتمع الحيوي والغني
في هذا المعنى إن المجتمع الديناميكي، الغني والمزدهر بقواه وفاعليته، هو الذي يشتغل كورشة دائمة من التفكير الخصب والعمل المثمر في مختلف المجالات، بقدر ما يتحوّل فضاءً للتداول وشبكة من التأثيرات المتبادلة على جميع الصُعد والمستويات. وفي مجتمعٍ كهذا يعمل الأفراد والمجموعات بمفردات الإعتراف والتعدّد والتوسط، بقدر ما يفكرون في لغة الخلق والتحوّل، أو في عقلية التركيب والتجاوز. ولعّل هذا ما تقتضيه صناعة الإنماء والإزدهار والتقدّم التي تبقى مفتوحة على التعدّد والتنوّع في الصيَغ والنماذج، بقدر ما تصدر عن أصالة المعالجات وغنى التجارب، وبقدر ما تجسّد القدرة على الابتكار والتجديد في العناوين والمفاهيم  أو في المناهج والأساليب، أو في المحاور والميادين.
إن مكتسبات العقل التنويري ليست مجرد محفوظات عن عصر الاستنارة نرددها مقالة بعد مقالة، ولا هي عناوين نتعامل معها بعقلية شعاراتية تبجيلية، وإنما هي قدرة الواحد على أن يخلق ويخرق ويجدّد، لكي يتغيّر ويغيّر علاقاته بمفردات وجوده، ويعيد تشكيل عالمه من جديد، باقتحام مناطق للتفكير مستبعدة أو مجهولة أو مستحدثة.
وأراني هنا أطرح السؤال: من هم أهل التحديث والتطوير والتقدم، هل هم منظّرو الحداثة والعقلانية والحرية الذين حوّلوا الشعارات أختاماً على العقل تسجن الفكر وتًنتج الأزمات، أم العاملون في القطاعات الأخرى مثل مصمم الأزياء المبتكر أم صاحب المصرف المزدهر أم مدير المنتخب الرياضي الناجح أم الصحيفة المميّزة التي تنال جائزة عالمية أم منشئ القناة التلفزيونية الكوكبية أم المهندسة المعمارية الكوسموبوليتية أم فِرَق المجتمع المدني التي يهتم أفرادها بتنظيف البيئة والاعتناء بالحيوان، من دون أن أنسى الروائي أو الشاعر أو الفنان أو الفيلسوف أو اللاهوتي الذي يمارس، عبر خلقه، جدارته وعالميته من غير ادّعاء أو تنظير؟ هذا السؤال يدفعني الى القول: ما عدنا، دعاةً ومثقفين، الأوصياء والوكلاء والأمناء على القيَم والحقوق والمصالح التي هي شأن عام يخص كل الناس. لقد فقدنا الصدقية منذ زمن. وكما أن الداعية التراثي بات الأقل تديناً وتقىً، فإن المثقف الحداثي بات أقل حداثةً وعقلانية واستنارةً، وإلا كيف نفسّر خراب المعنى وخسارة القضايا وانهيار المشاريع بعد كل هذه المحاولات والنضالات طوال عقود؟!
في ضوء هذا الفهم لا تعود المشكلة تتعلق بانقراض العرب، وانما تكمن في مأزق النخب الثقافية والأنظمة السياسية بأفكارها المستهلكة ووسائلها العقيمة التي لا تغيّر واقعاً ولا تحقق تقدماً أو تصنع ازدهاراً. لكن المجتمع ليس هو مجرد مثقفيه ودعاته ومنظّريه الذين تفاجئهم المآزق، ولا عجب، إذ هم يتصوّرون المشكلة حلاً، وبالعكس. هناك فاعلون في المجتمعات العربية يمارسون ازدهارهم في مجالات عملهم، على سبيل الاختراع والخلق، بإنتاج ما هو خارق من الأعمال والنصوص والأفكار، وما به يساهمون في صناعة الحياة العربية والحضارة القائمة التي هي حضارة عالمية معولمة، بقدر ما هي كوكبية في عصر المعلومة والأدوات الفائقة.
وبقدر ما يتكاثر هؤلاء وتزداد فاعليتهم أو تتسع مساحات تأثيرهم، إنما يساهمون في تغيير مجتمعاتهم على وجهين: الاول هو خلق إمكانات لتغيير الواقع السياسي وتوسيع مساحة الحريات بشلّ قوى الهيمنة والاستبداد والاستئثار؛ الثاني هو تغيير عقول المثقفين. فقد حلم هؤلاء بتغيير المجتمعات بعقلياتهم النرجسية وعقائدهم المهدوية، فكانت النتيجة أن العالم تغيّر بعكس ما أرادوا، وأنهم فقدوا الصدقية لكي يصبحوا على هامش الأحداث والمتغيرات. لذا فالأرجح أن المجتمعات بقواها الحيّة والخلاّقة، عبر المشاركة في أعمال الاختراع والخلق هي التي سوف تغيّر عقول المثقفين، سواء من حيث تصوراتهم للواقع أم من حيث صورهم عن أنفسهم ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى