حقوق الانسان: الإشكالية المزمنة للحداثة العربية
كرم الحلو
لا يزال تردي حقوق الانسان في العالم العربي أكبر الإشكالات التي تربك حركة الحداثة العربية منذ بدايات النهضة مطلع القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من ان العالم شهد عام 2008 متغيرات وضعت حقوق الانسان موضع مراجعة واختبار، ليس فقط في مجال الحريات المدنية والسياسية، بل في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن البلدان العرية أصرت على تعزيز سياساتها السابقة باعلاء الإعتبارات الأمنية والتراجع عن الإصلاحات السياسية المحدودة التي أدخلتها على تشريعاتها ونظمها.
واذا لم تعمل الحكومات العربية على تصويب مسار حقوق الإنسان، فسوف تجاذف، ليس فقط باستقرار المجتمعات العربية، بل وبشرعية نظمها التي اصبحت موضع منازعة متزايدة على امتداد الساحة العربية.
من هذا المنطلق، يشكل تقرير المنظمة العربية لحقوق الانسان في الوطن العربي لعامي 2008 ـ 2009 مركز دراسات الوحدة العربية 2009، مراجعة نقدية شاملة لواقع حقوق الانسان في الوطن العربي في اطار الأولويات التي يجب ان يتوجه نحوها الهم النهضوي.
تفيد النظرة الإجمالية في الإنجازات والإخفاقات في الفترة التي يغطيها التقرير خلال العام 2008 وحتى منتصف العام 2009 ان بعض الدول العربية واصلت عزوفها عن الانضمام الى العهدين الأوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللذين يمثلان الشرعة الدولية لحقوق الانسان. وفي حين صادق لبنان على اتفاقية مناهضة التعذيب، وصادقت تونس على اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة، وسحبت قطر تحفظها على اتفاقية حقوق الطفل، وصادقت دول عربية عدة على الاتفاقية الدولية لضمان حقوق ذوي الإعاقة، شهدت هذه الفترة تعديلات دستورية تناولت موقع الرئيس في الجزائر وتونس واليمن والإمارات، وتواصلت حالات الطوارئ في مصر والجزائر وسوريا والعراق وفلسطين.
وبينما بدأ المجتمع الدولي يراجع نفسه حول قوانين مكافحة الإرهاب وتطبيقاتها، واصلت البلدان العربية توسيع نطاق تعريف الإرهاب وتعزيز ترسانتها التشريعية في مكافحته. وفي مجال الحقوق المدنية والسياسية، واصلت التشريعات العربية تعزيز قبضة الدولة على المواطنين، وهيمنة الادارة على الجمعيات غير الحكومية، وفرض قيود متشددة على التظاهر والتجمع السلمي.
ومن ناحية أخرى، صدرت تشريعات في دول عربية عدة تعزز حقوق الانسان مثل قوانين حماية الأفراد من الاتجار بالبشر وقوانين حماية النساء والأطفال من العنف الاسري.
على صعيد الحقوق المدنية والسياسية، استمر الانتهاك الواسع للحق في الحياة في عدد كبير من الدول العربية، فتعددت مصادره التي من بينها مكافحة الإرهاب، فضّ قوات الأمن للمظاهرات، واستشراء ظاهرة التعذيب، وغياب الرعاية الصحية في المعتقلات، وتفاقم النزاعات الآتنية في السودان، والمذهبية في ظل الاحتلالات الأجنبية في فلسطين والعراق.
وتعرض الحق في الحرية والأمن الشخصي الى انتهاكات مماثلة، فاستمرت الاعتقالات التعسفية، وكان نشطاء حقوق الانسان وقادة المجتمع المدني والحركات السياسية، والنقابيون والإعلاميون اكثر الفئات تعرضاً للانتهاك.
واستمرت هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية في غالبية البلدان العربية في غياب ضمانات المحاكمة العادلة، وشيوع أعمال التعذيب مما أدى الى حالات وفاة، فضلاً عن استخدام عقوبة الإعدام في القضايا الجنائية.
وعلى صعيد حرية الرأي والتعبير لاحظ التقرير تحسناً ملحوظاً في العامين الماضيين بالرغم من القيود المفروضة في معظم الدول العربية وسيطرة الحكومات على قطاع عريض من محطات التلفزة والصحف. أما في الممارسة فاستمرت الانتهاكات لحرية الرأي، من الملاحقة القضائية الى الاعتداء على الاعلاميين واغلاق الصحف أو مصادرتها، وقد جرت محاكمة صحافيين وحبس بعضهم. ولم يخل بلد عربي واحد من هذه الظاهرة المؤسفة وان تفاوتت حدتها من بلد الى آخر.
ولجهة الحق في التنظيم الحزبي والنقابي وتكوين الجمعيات، لاحظ التقرير ان الدول العربية تمارس ضغوطاً كبيرة في هذا المجال وان تفاوتت القيود من بلد الى آخر. فسبعة بلدان عربية تحظر الحق في تكوين الأحزاب والجمعيات على نحو مطلق. وتشهد بقية البلدان طائفة متفاوتة من القيود على الأحزاب والجمعيات، اذ تهيمن الدولة على تشكيلها وتعطي نفسها الحق في حلها أو تجميدها وتقييد الصحف الناطقة باسمها.
وتفرض جميع الدول العربية قيوداً على الحق في التجمع السلمي، تتفاوت حدتها من بلد الى آخر، وقد عزز بلدان عربيان هذه القيود خلال العام الماضي، ومنع العديد من البلدان العربية مسيرات وتظاهرات سلمية، حتى في المجالات غير السياسية، وقد استخدمت السلطات العنف في فض بعض التظاهرات في بلدان عربية عدة.
ويثير الحق في المشاركة في البلدان العربية اشكالية مزمنة، جسّدتها احداث العام الماضي على نحو غير مسبوق حيث وضعت شرعية العديد من الرؤساء العرب موضع منازعة. فتأجلت الانتخابات التشريعية في بعض الاقطار العربية، وساورت الشكوك نزاهة هذه الانتخابات في أقطار أخرى بسبب تدخل السلطة التنفيذية واستخدام المال السياسي.
وبرزت خلال الفترة التي يغطيها التقرير تحديات تنموية وبيئية اثرت في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كان ابرزها انعكاسات ازمة الغذاء العالمية، والأزمة المالية العالمية التي بدّدت 2,5 تريليون دولار من اموال العرب، وتسببت بضياع كم هائل من فرص العمل وانزلاق فئات اجتماعية عربية تحت خط الفقر.
وعرض التقرير من منظور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ازمة الغذاء العالمي وما تمثله من تحد كبير لبلدان المنطقة، نظراً الى تناقص فرص الفقراء في ضمان الغذاء، كما تناول أزمة المياه في المنطقة وتأثيرها في التنمية المستدامة، ليخلص الى انّ أثر هذين العاملين يأتي في المقام الاول في مسألة حقوق الإنسان لإنعكاسهما عليها بصورة وبأخرى.
في نظرة اجمالية يشكل الكتاب إطلالة شاملة على حقوق الإنسان في الوطن العربي يمكن ان تضيء الطريق امام المهدورة حقوقهم للعمل من اجل حياة انسانية عربية أفضل وأقرب الى معايير العالم المتقدم وقيمه. الا ان الكتاب، فضلاً عن انه يشكو آفاقاً منهجية ولغوية، قد أهمل حقوق المرأة العربية التي يشكل ترديها الى الحد الأقصى، والوجه الناتئ لإشكالية حقوق الانسان العربي، فماذا عن حقها ودورها واسهامها في العمل؟ وماذا عن حقوقها في التعليم والملكية وحرية تقرير مصيرها الشخصي ومكانتها في الأسرة؟ علماً ان هذه الأمور مطروحة في الفكر العربي الحديث منذ اواسط القرن التاسع عشر.
كما لم يتطرق التقرير الى حقوق الفقراء على الأغنياء في العالم العربي، مع ان كل التقارير الاجتماعية والاقتصادية تشير الى انهيار الطبقة الوسطى العربية، وتزايد عدد الفقراء الى اكثر من ثلث العرب، وتفاقم الفجوة وفداحتها بين اغنياء العرب وفقرائهم، علماً ان هذه المسألة احتلت حيزاً كبيراً من اهتمامات مفكرين عرب في القرنين الماضيين، كما انها من صلب تراثنا الذي اقرّ للسائل والمحروم بحق معلوم في أموال الأثرياء.
المستقبل
لا يكفي التحسر على هذه المشاكل، وإنما ينبغي تقدير اقتراحات لحلها. وقد يجد المرء نماذج تستحق الاقتداء بها في مناطق أخرى عانت من نفس المشاكل وحلتها إلى حد ما، مثل أمريكا اللاتينية.