كم من حاكم مستبد ونرجسي يمسك برقاب شعوب منطقة الشرق الأوسط؟ كم من مأساة وملهاة تعيش تحت وطأتها شعوب المنطقة؟
كاظم حبيب
نحن بنات وأبناء منطقة الشرق الأوسط نواجه ظاهرة قديمة متجددة, ظاهرة يعاد إنتاجها دون انقطاع, رغم المآسي التي تسببت بها هذه الظاهرة المريعة لشعوب هذه البلدان حتى الآن, إنها ظاهرة الحاكم المستبد بأمره المصاب بالنرجسية والتعالي والسادية والاستهانة بشعبه, المستبد المتمرد على شعبه والمتحكم برقاب سكان بلده والرافض لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والضارب عرض الحائط حتى الشريعة التي يتمسح بها, هذا المستبد الممارس لكل المظالم والغارق في الجهل والأمية السياسية والثقافية والفاقد لمعنى الثقافة والمنتعش بجدبها وبهدر كرامة الإنسان والمالئ لسجونه ومعتقلاته بالكثير والكثير جداً من أصحاب الرأي الآخر والعقيدة الأخرى. كما أن هذا الحاكم مستعد إلى استئصال من يقف بوجهه أو يطالب باحترام حقوقه شخصاً كان أم جماعة, فما أسهل عليه أن يقول للمنتفضين “سنستأصلكم عن بكرة أبيكم!”, كما قال الدكتاتور صدام حسين مرة اقتل 2000 أو 3000 أو 10000 ولا ترتعش يدي!, إذ فعلها حقاً في الأنفال وحلبچة مثلاً “دون أن يرمش له جفن!”.
كم من حاكم لدينا يرى في نفسه أنه الأعقل بين حكام العالم وأكثرهم عدلاً ورقة وشعبية, ويرى الحكام الآخرين أقل موهبة وحكمة وعدالة منه وأقل هيبة منه لدى شعوبهم!
كم من حاكم في هذه المنطقة من العالم, التي ظهر فيها المصلحون ومشرعو اللوائح القانونية والدساتير والأنبياء, مصاب بجنون العظمة وازدواج الشخصية وكل الأمراض النفسية الأخرى التي يمكن تشخيصها فيه من جانب علماء علم النفس الاجتماعي. كم من حاكم يسعى إلى أن يطأ بإقدامه القذرة رؤوس الناس الطيبين من بنات وأبناء شعبه ويريد من الناس أن تطأطئ له رؤوسها وتنحني إجلالاً له, وهو الفاسد والمنافق والحاقد.
نحن أمام أناس يعتقدون أنهم ليسوا ملوكاً وأمراء وحكاماً في الأرض فحسب, بل هم وكلاء وأولياء الله على الناس, بل أن بعضهم يرى في نفسه إنه الله بعينه! إنه ملك الملوك وإله الآلهة كلهم!
كم من سياسي, مدني كان أم عسكري, ثار على الملكية وأطاح بها عبر القوات العسكرية أو بأساليب أخرى بذريعة إعادة الحق إلى أهله ونصابه وممارسة العدل والإنصاف, ثم أصبح هو الملك المتوج وراح ينعت نفسه بأسماء لا أول لها ولا آخر ولا معنى لها مثل “ملك ملوك أفريقيا”, ثم تنتفخ أوداجه حين ينادي أحد رؤساء الدول العربية صاحبنا بهذا الاسم الذي لا يلائم سوى المجانين على أرض الواقع ونزلاء مستشفى الأمراض العقلية؟
كم من حاكم يعتقد بأنه لا يمكن أن يُعوض بغيره من فرط دهائه وحب الشعب له بسبب “إخلاصه” للوطن, فهو المتفرد وهو الأوحد والأمثل والأكمل, وعليه فلا بد له من أن يبقى على رأس السلطة مدى الحياة, وعلى الشعب أن يوقع له بالدم على ذلك. ومثل هذا الحاكم المستبد بأمره لا يريد أن يعي ويدرك بأنه لا يساوي في نظر شعبه وشعوب العالم شروى نقير, حتى أصبح البعض الكثير منهم أضحوكة لبقية حكام العالم كله وشعوب الكرة الأرضية, إنها “المأساة والملهاة” في آن واحد التي تعيشها أغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط!
لقد أسقط البعض منهم الملكية لينهي نظام السلالات الوراثية, وأقام الجمهورية, ولكنه بدأ بتكريس سلالته لتشكل نظاماً جديداً يمكن أن نطلق عليه “الجمهلكية” (الجمهورية الملكية)! وليفرض الاستبداد من جديد على رؤوس الأمة!
كم من حاكم فاشي النهج والممارسة, يقف متحدياً العالم كله وشاتماً إياه وممزقاً اللائحة الدولية التي تنظم عمل الأمم المتحدة من على منصة الأمم المتحدة متحدياً شعوب ودول الأرض كلها, أو حاكم آخر يقسم بالطلاق في أنه سيستأصل قبيلة الحوتيين في “اليمن السعيد!” جداً, بدلاً من تأكيد أهمية حل المشكلات بالطرق السلمية التفاوضية, في وقت ترتفع أصوات المحتجين في الجنوب مطالبين بالانفصال عن المستبد بأمره بسبب تفاقم الفقر والبطالة والتمييز, وحاكم آخر في هذه المنطقة من العالم يتحدى العالم كله ويثير الناس ضد شعب فلسطين وقضيته العادلة بذريعة الدفاع عن قضية فلسطين ومحو إسرائيل من خلال تحدي الحقائق التاريخية بشأن الهولوكست ضد اليهود في ألمانيا وفي أوروبا التي نفذها النظام النازي والفاشي في ألمانيا في النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين وأثناء الحرب العالمية الثانية ومعسكرات الاعتقال التي أدت إلى قتل أكثر من خمسة ملايين إنسان من أتباع الديانة اليهودية, إضافة إلى عشرات ألوف القتلى من شيوعيين واشتراكيين وديمقراطيين مسحيين, وكذلك الكثير من بنات وأبناء قوميات سلافية والروما والسنتي (أي الغجر أو النوريين), دون أن يكون له أدنى مبرر وأدنى سند حقيقي لمثل هذا الإنكار العدواني؟ يكفي هذا الحاكم أن يزور المعتقلات النازية في ألمانيا, ومنها: ساكسن هاوزن, بوخن فالد, داخاو .., وغيرها, أو أوسشفتس في بولونيا أو غيرها في دول أوروبية أخرى ليتيقن مما يسعى إلى تكذيبه ويثير لشعوبنا في المنطقة المزيد من المشكلات التي هم في غنى عنها. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن مجموعة غير قليلة من العرب قد وجدت في هذه المعسكرات النازية الرهيبة. جاء في كتاب المستشرق الألماني “گيرهارد هب” الموسوم “العرب في المحرقة النازية ضحايا منسيون” الذي ترجم إلى العربية من قبل السيد محمد حديد ونشر في دمشق ما يلي: “في مجمل الإحصاء حتى الآن وجد نحو ألف معتقل عربي على الأقل. وتتصدّر الجزائر اللائحة (248 معتقلاً) ويليها المغرب (27) ثم تونس (22) والعراق (4) وفلسطين (4) ثم لبنان وسورية، علاوة على ليبيا واليمن الدولتين اللتين لم يشملهما الإحصاء. ومن الملاحظ أن يهوداً عرباً من ليبيا واليمن والمغرب والعراق، كانوا في عداد هؤلاء.” (راجع موقع نسيج الإلكتروني بتاريخ 8/10/2009)
كم من حاكم أبله يحمل عصاه بيديه ويرقص كالقردة ليُضحِك الآخرين من أعضاء حزبه ويتحدى العالم كصاحبه المقبور المهووس بالصور والتماثيل والأزياء والألقاب صدام حسين في عدوانيته ومقابره الجماعية وجرائمه ضد الإنسانية. وحين ينتهي هذا النظام ستظهر المقابر الجماعية وتكتشف وتعرض على العالم ليروا بأم أعينهم ما فعله هذا “الدكتاتور المسلم”.
وكم من حاكم يشبه في أوهامه دون كيشوت الذي يقاتل الطواحين الهوائية متصوراً إياها جيوش جرارة لعدو مدجج بالسلاح,
كم, وكم, وكم من الحكام المستبدين ابتلت بهم شعوب الأرض منذ نشوء البشرية حتى الآن؟ إنهم كثيرون لا يحصون, ولكن أغلبهم ولد وترعرع وحكم على هذه الأرض الطيبة, على أرض منطقة الشرق الأوسط, في بلدانها العربية وغير العربية.
كان لنا في العراق حكام أوباش قتلة, يكفينا أن نقرأ ملحمة گلگامش لشاعر مبدع لنتيقن من الاستبداد الذي ساد تلك الفترة والذي وجد تعبيره في الملك الذي لم يترك امرأة متزوجة أو مخطوبة أو عذراء إلا ودخل فيها عنوة, ألم يكن في العراق الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد بن زياد بن أبي سفيان وزياد بن أبيه والسفاح وجمهرة من الخلفاء العباسيين الذين تميزوا بالظلم والاستبداد وناصبوا الإنسان العداء, ومن ثم كان لنا الجزار ومؤسس القبور الجماعية صدام حسين وأول من استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كان علي حسن المجيد قد استحق لقب “علي كيماوي”, فأن اللقب اللائق بصدام حسين هو “أبو القبور الجماعية”, إذ كان هو الجزار الحقيقي في بلاد الرافدين وكردستان العراق.
ثم للنظر معاً إلى إيران وما في سجونها من بشر يقبعون في ظلمات الدهاليز حيث يتعرضون للتعذيب على الطريقة “الإسلامية!” والاغتصاب “الإسلامي!” للنساء والرجال, ولا يكف عنهم “حراس الثورة” ليل نهار بذريعة التأديب وفرض التوبة. أنظروا كيف يواجه كل العالم حاكمهم المجنون ويسعى لامتلاك السلاح النووي ويجوع شعبه تماماً كما فعل قبله من كان حاكماً أفّاكاً في العراق, وسينتهي إلى نفس مصير صدام حسين إن سار على درب الصدّ ما ردّ!ً
لم يكن العراق بعيداً عن كل ذلك, بل كان في القلب من هذه المنطقة التي حملت وأنجبت المئات والمئات من الحكام المستبدين والذين مرغوا وجوه شعب العراق بالتراب وشنوا به الحروب وهدروا كرامته وعزة نفسه. مات الكثير من هؤلاء الحكام المستبدين, ولكن الأرض العراقية, كما يبدو, لا تزال تعيد إنتاج المستبدين, فمتى يتوقف هذا البلد عن إنجاب المستبدين والفاسدين والمفسدين, متى يعم الهدوء ربوع الأرض الطيبة وينتشر إلى بقية بقاع هذه المنطقة المبتلاة بهم.
غنى الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي بأبيات شعر, ولكنه مات وهو في ريعان الشباب ولم يطل به العمر ليمتحن المضامين التي وردت في شعره ليرى إن كان مصيباً في ما قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بـد لليـل أن ينجلـي ولا بد للقيـد أن ينكسر
أشك في أن القدر سيستجيب لرغبة الشعوب وإرادتها الحرة في الخلاص من حكامها المجانين والمستبدين ما لم تأخذ هذه الشعوب الأمر بيديها وتغير من أسلوب حياتها ومن بنية اقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية ووعيها السياسي والديني والاجتماعي في هذا البلد أو ذاك من بلدان المنطقة التي يفترض أن تكون لها عقلية وتربية ووعياً جديدا وسلوكاً اجتماعيا وسياسياً آخرين وتنتج تقاليد وعادات وقيم أخرى غير السائدة حالياً والعائدة لعقود وقرون سحيقة في القدم لا تزال تُسيَّر الناس وتتحكم بإرادتهم وأفعالهم وتخلق لهم من الحكام المستبدين ما يكفي لقهر العالم كله بهم.
إن المشكلة التي تبدو للعيان حالياً هي أن هؤلاء الحكام يسعون أن يخلقوا في شعوبهم الكثير ممن على شاكلتهم, أن يكونوا نموذجاً لهم, حينها تكون المصيبة أعظم والعذاب أطول والحياة أكثر إرهاقاً على البشر.
في العام 1976 صرح صدام حسين بأنه يسعى إلى خلق شبيبة مماثلة له, وأن يكون نموذجاً لها في المأكل والملبس والتصرف والسلوك والعلاقات. وقد ترك لنا كما يبدو الكثير في ما أراد إعادة إنتاجه! ولكن ذلك لم يقتصر على حزب البعث الحاكم حينذاك, بل ترك أثره الملموس ونهجه في التعامل مع المجتمع ومع الآخر على عدد غير قليل من الناس, ولكن بشكل خاص على أعضاء أحزاب سياسية أخرى نعيش تحت وطأتها سياساتها وممارساتها في يومنا هذا.
حين يموت هذا المستبد أو ذاك يطاح بحكمه وبه, فهذا لا يعني أن المستبدين قد انتهوا, إذ أن إعادة إنتاجهم سيتواصل إلى أن تصفى الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي ساهمت وتساهم أساساً في إعادة إنتاج المستبدين…
الحوار المتمدن