هادي العلوي وتجربة روحنة الإسلام
عبد الرزاق عيد
غادرنا هادي العلوي, وكأنه قد أنجز رحلته في عالم الخلق وذلك للفناء في ذات الحقّ, وكان آخر إنجازاته التراثية كتابه : «مدارات صوفية» قبل وفاته بسنة, فكأنه في هذا الكتاب يلخص سيرته الذاتية الروحية , بعد تجربة عمر مع المنفى كمعارض مستقل من نوع خاص ، هذا النوع الخاص أفرده عن سرب المعارضة السياسوية بالعمل على جبهة انقاذ الخصائص الروحية والأخلاقية والوجدانية لمجتمعه العراقي والعربي بعد أن توفرعلى تجربة روحية كونية ترتقي به إلى سوية اعتبار كل الديانات السماوية والأرضية ليست إلا تجليا لذات واحدة تفيض على الكون سر معناه ، وهذا السر لا يقتصر على الأنبياء بل وعلى كل أولئك الباحثين عن المعنى في التجربة الانسانية من فلاسفة وحكماء وشعراء ، وعلى هذا فقد كان هادي سباقا إلى الحفر في تاريخ طبقات الذات الحضارية للأمة العربية والاسلامية بحثا عن الماء ، ماء الروح الذي يجري في مسالك الجسد كما يجري الدم الذي يمنحه الحياة العضوية ، ليبقى ماء الروح هو الذي يترقرق في جوانية الأمة بعد أن يفنى الجسد ، فلابد من البحث عن هذه المياه الجوفية في باطن الأمة للرد على كل هذا اليباس والتصحر الفكري والثقافي والسياسي الذي لحق بها عبرالمزيد من انغلاق نسق العنف والقسوة والاستبداد والطغيان الذي سبره وتقصاه في كتابه الشهير (التعذيب في الاسلام) ، وذلك على حساب نسق التراحم والتسامح والتوادد والحب والمحبة ، فما كان له أن يجد هذا النسق إلا في الصوفية التي وجد بها الرد الوحيد على كل هذه الوحشية والبربرية التي تردت إليها الأمة العربية والاسلامية ، فكان سباقا إلى اكتشاف الأطروحة الراهنية القائلة بضرورة “روحنة الاسلام” لتقشيره من كل هذا العنف والارهاب المعمم باسمه ، ونحن نعترف بفضل هادي على توجهنا نحو هذه “الروحنة” التي هي مدار كتابينا الأخيرين عن محمد عبده والحداثة الاسلامية : محمد عبده ( إمام الحداثة والدستور ) والإسلام والحداثة (تجربة محمد عبده) .
إن السيرة الذاتية لهادي تحلّ في مدار الباء, هذا المدار الذي يبدأ بالتاو الصيني ويمر بيسوع الناصري, أبو ذر وعامر العنبري, إبراهيم بن أدهم, الحلاج, النفّري, المعري, الجيلي, شاويونغ, غوته, ماركس, لينين, تولوستوي, وصولاً إلى إيفارلو يوهانسون السويدي الذي يضمه هادي العلوي إلى تلك السلسلة التي ينتظم فيها ضنائن الله وأبداله الذين هم أوتاد الأرض التي من خلالهم تحافظ على توازنها القيمي والروحي والأخلاقي, رغم أنه عندما توفي يوهانسون سنة 1990 «لم يكن يحمل ثقافة سماوية أو صوفية أو ماركسية, إنما يحمل قلباً كقلوبهم, فهو الذي أرغم الرب على جعله من ضنائنه. .
هكذا تنمحي الحدود في مدارات الصوفية, الحدود القومية, والدينية, حيث تتوحد في ذات الصوفي كل القيم التي أبدعتها الإنسانية على طريق بلوغ الكمال, بذلك يكتسب كونيته, ويغدو ـ حسب غولبرخ ـ «جندياً في جيش الرب السري ليناضل من أجل المستضعفين في الأرض ضد غريزة الجشع والتدمير, ومن يقوم بهذا النضال يكافأ بظهور المسيح له في زوبعة الشوارع والساحات».
مضى هادي محققاً كماله في الموت, فالموت بالنسبة للصوفي وفق تعريف صدر الدين الشيرازي «قوة تجوهر النفس واشتدادها في الوجود» ، وهادي إذ يستشهد بالشيرازي, فإنما يستعير منه ما تفيض به نفسه, وما يتطلع له الفؤاد, فهو ليس باحثاً عن الصوفية, ولا دارساً لها, بل هو من الأبدال الذين هم أوتاد الأرض, وضنائن الله, وبرحيل هادي العلوي تفقد الثقافة العربية قطبا أخلاقيا فريدا في القدرة على إنتاج المطابقة ما بين عالم الأذهان وعالم الأعيان, ما بين الفؤاد وما يهوى, وما بين الوجود وما يغوى, فكان أكثراستغراقا من كل أساتذته وشيوخ طريقته حتى أصحاب الاهتيام منهم, ولعل مثله الأعلى كان المعري, الذي ذاهنه في خلوات معرفية عديدة, فانكشف له السر, فقرر كالمعري أن لا يذوق اللحم, وأن لا يجني على أحد فيخلف أولاداً, لأن مقام القطب أكبر من الإطعام والحفاظ على النسل, إن مهمته أن يكون وتداً لتوازن الكون, وأن يكون جندياً في جيش الرب السري, حيث يفنى في شؤون الخلق, لبلوغ الفناء في ذات الحقّ, فالصوفي يموت على الجبهة من أيام إبراهيم بن أدهم, ويعيش مع الفقراء من أيام عبد القادر الجيلي .
يقسم هادي كتابه إلى مدارات (مدار النون ـ مدار الميم ـ مدار الباء ـ مدار الهاء ـ مدار زين العابدين ـ الأخلاق الصوفية ـ مدار المدارات ـ المدار الأخير ـ نصوص ـ مواقف.
مدار النون: كينونة المزج بين النار والنور / وحدة الوجود :
حرف النون هو حرف النور وحرف النار أيضاً. والنار داخلة في الماء بحسب كلام الشيخ محي الدين ابن عربي, لأن الكينونة مزيج بينهما, أما النور فانكشاف المخلوقات وظهورها على حقيقتها, والقلب إذا وصل يتغير اسمه من قلب إلى فؤاد ، لأن القلب فيه دلالة التقلب والفؤاد ثابت في مداره, وهذه اللطيفة يستخلصها هادي من مجرى أقوالهم وإن لم ينطقوا بها, وقد سمي المتصوفة بالنورية لقول رسول الله «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح» .
وفي مدار النون تحضر المثقفية الكونية التي أول شروطها الزهد والتقشف بل والحرمان ، والزهد هنا ليس زهداً فقهياً (الزهد في الدنيا طمعاً في الآخرة) ، بل هو زهد فلسفي وحرمان معرفي, يسمونه (ضريبة العلم أو العقل أو المعرفة). حيث القطب الصوفي يختار الفقر ولا يتخير المعايش والمآكل لكنه يفرح عندما يرى الخلق يتمتعون بالحياة فيأكلون الطيب ويلبسون اللين, فالحرمان إذن فرض على أهل العقل, وقد أومأ الجواهري إلى هذا المعنى إذ يتحدث عن المزايا الخالدة للمثقف الكوني المتمثل بأبي العلاء. يقول الجواهري:
أجللت فيك من الميزات خالدة حرية الفكر والحرمان والغضبا
فالحرمان إذن مسؤولية المثقف الكوني, وتتعين هذه المسؤولية رئيسياً في حكمة الصين والإسلام, وأكثر من عني بها فلاسفة التاو وبدءاً من المعلم الأكبر لاوتْسه, أما عندنا, فقد ثبتها المتصوفة للحكماء, ومعلمهم هو عامر العنبري الذي لم يتزوج ولم يأكل اللحم على مستوى النظر, أما على مستوى العمل فسيكون هذا شأن عمر بن عبد العزيز, كحاكم, وشأن أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي على مستوى المعارضة.
وفي مدار النون تحضر-أيضا- الربوبية بوصفها (الحقّ, الباري) وهي المفردات الأكثر تداولاً في النص الصوفي, إذ هي مفردات تشع عن مفهوم متميز للصوفية, يتعالى فيه الخالق إلى مدار المطلق الذي تدور عليه الأشياء ويكون مرجعها من غير أن يتميز عنها أو ينفصل, وهو مفهوم مقارب للتاو الصيني من حيث التصور المشترك للباري بمثابته قوة سارية في الموجودات لا تقع خارجها. وهذه هي وحدة الوجود التي قطبها الأعلى عند التاويين هو التاو وعند المتصوفة هو الحقّ, والحكيم التاوي والصوفي يبدأ من التماهي مع روح الكون, وهم باتحادهم مع مطلقيته يصنعون لأنفسهم سلطة تعلو على كل السلطات السياسية والاجتماعية والدينية.
ميم المعارضة: الدولة شيطان :
هادي طريد النظام العربي والنظام العراقي أبداً, وهو بانتقالاته في المنافي –بعيدا عن وطنه العراق- كان يسجل استحالاته العقلية والوجدانية, منذ كان يدِّرس في الصين وصولاً إلى استقراره في عزلة وحدته القدسية في دمشق المكان, وبمجاورة شيخه الأكبر المعري في معرة النعمان الروح : روح الزمان, وزمان الروح, التي كانت تحمل اسم مكان توقيعه على مقالاته حتى ولو لم يكن فيها يكفي أنها مقام المعري الذي يتوحد به كدال ودليل على طريق السالكين ، وهو في استحالاته واكتشافاته الكونية, إذ يتقلب طريدا ومنبوذا في المسالك والمقامات يدخل رمزاً جديداً لترسيمة التصوف وهي «ميم المعارضة» ، والمعارضة بالنسبة له تعني قطع العلاقات مع الدولة وأربابها والدعوة ـ أو العمل على ـ تغييرها, وذلك لأن «الدولة شيطان تتألف من شياطين وسلوك أربابها شيطاني, وشيطان من يعاملها ويتعامل معها». وتتألف منهم جملة الأغيار المقيمين في دار الضد والحس والشهوة . .
ميم المقام: منازل السائرين إلى الله :
المعارضة عند الصوفية مقام. وللمقام صفة لازمة في ذات الصوفي يرسخها بالمجاهدة, ويضعه أكثرهم فوق الحال, والحال صفة عارضة ترد ولا تدوم طويلاً. ومن الأحوال: الحزن الطرب, القبض والبسط, الشوق والقلق والسكينة. ومن المقامات عدا المعارضة: الزهد والورع والرضا والصبر, والمقامات منازل السائرين إلى الله ، أما الأحوال فهي أعراض متحولة. والمقامات مكاسب والأحوال مواهب لأن المرء يمكن أن يكون موسوماً بالمهابة أو الزهد أو الورع أو المحبّة, ولا يكون موسوماً بالطرب أو الحزن أو القبض أو البسط لأن هذه لوائح لا ثوابت.
ومن المقامات العليا ثلاثة: (السفر والغربة والمشاهدة) , وهي مقامات طالما كابدها هادي في سيره وانتقاله الدائم من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال, وهذه هي الهجرة العقلية والغربة الروحية ، والغربة الصوفية ليست الاغتراب المتداول اليوم, بل غربة الصوفي هي اختيار ومجاهدة, في حين أن الاغتراب يفرض ذاته على المرء مرغماً لا خيار له فيه ، وعلى هذا فالغربة موجبة والاغتراب سلب, على أن الغربة قد تكون فراراً من الاغتراب في دار الإقامة, وللصوفية ولع بحديث مشهور «بدأ الإنسان غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء» ولعل الحديث هو من وضع المتصوفة.
ميم المحبّة: المحبة تحرر النسان من رق العبودية :
المحبة والحب يترادفان, لكن الأخير يغلب عليه معنى العاطفة نحو المرأة, ولهذا فقد كان الصوفية ميالين إلى المحبة لشموليتها, ولأنها تحرر الإنسان من رق العبودية, لأن العبد لا يحب سيده, وعلى هذا تتأسس علاقة محبة جديدة مع الباري قائمة على الفناء في المحبوب, لأن المحبة مزيلة لصفة العبودية, وعلى هذا فإن الكشف يغدو من نتائج المحبة, فإذا علم المحبوب صدق المحب في محبته رفع بينه وبينه الحجاب وكشف له عن علوم غامضة وأسرار عالية. ومن هنا تتفتح إشراقة أبي يزيد البسطامي في قوله: «من قتلته محبته فديّته رؤيته». فالرؤية ديّة المقتول حباً .
وفي هذا المدار يتناول هادي التصوف الفلسفي وأقطابه, وحدة الوجود, النبوة والولاية, قوننة العالم, وحدة الوجود ووحدة الشهود, وحدة الأديان, ديالكتيك التاو والتصوف, ابن عربي والمرأة, عتاب للشيخ محيي الدين, ابن سبعين ـ في الحي حي سوى ليلى وتسأل عنها؟ عبد الكريم الجيلي ـ خاتم الأولياء, الفكر الروحاني.
مدار الباء: باء البسملة / المتصوفة الأبدال : ضنائن الله لحفظ نظام الكون :
وهي باء البسملة, حيث النقطة لها موقع دال وكينوني ولو سقطت لاختل نظام البسملة, وهي باء الأبوة التي يمثلها إبراهيم بن أدهم البلخي الأفغاني ، حيث يرى ـ هادي ـ أن صلة إبراهيم كانت بالتاوية الصينية لقرب المسافة بين أفغانستان والصين, ويرد قول المستشرقين القائلين بتأثره بالتصوف الهندي البوذي, وعماده في رده هذا, أن التصوف الهندي «دين خالص ومشوب بالخرافات والطقوس» بينما مسلك إبراهيم بن أدهم وخلفائه هو مسلك أهل التاو غير المتأثر بالطقوس والقاطع مع العقائد والمتصل مباشرة بهموم الناس.
وفي مدار الباء هذا يحضر «الأبدال» وهو المصطلح الصوفي الذي يومئ إلى قوم من الصالحين بهم يقيم الله الأرض, أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد لا يموت أحد منهم إلا قام مكانه آخر ، فلذلك سمّوا أبدالاً, وفي هذا الفصل يقدم لنا ـ الراحل ـ نبذة عن هؤلاء الذين يرى فيهم أبدالاً, فيبدأ بفلاسفة التاو (لاوتسه, موتسه, تشوانغ تسه) مستفيداً من تجربته الثقافية والتعليمية التي عاشها في الصين, مواصلاً تناول الأبدال في تاريخ التصوف الإسلامي وصولاً إلى أبدال عصرنا الراهن.
إن السفر الذي يقدمه الراحل هادي العلوي من خلال مدارات صوفية, يتمتع بفرادته في فضاءات انبعاث التصوف في الثقافة العربية في السنوات الأخيرة وبخاصة من خلال الأدب والفنون: الشعر والرواية والموسيقى والرسم, حيث غدا التصوف صنواً للشعر, بعد أن كان لحظة في تجربة أدونيس وعبد الصبور, بل وصنواً لأدبية الأدب وموسيقية الموسيقا ورسمية الرسم, بمثابتها معادلاً للخاص الثقافي والحضاري الأصيل للأنا التاريخية للذات العربية.
وفرادة سفر الراحل هذا, أنه يتداخل فيه الذاتي في الموضوعي, ليتوحد في كلية شاملة, تجعل من أنا المؤلف وحضورها الكثيف في الموضوع, وكأنما تستعيد سيرة شامخة للأبدال, من خلال تجربة واحد منهم, تماماً كما يتحدث الجنيد عن البسطامي, والشبلي عن الحلاج, وهادي العلوي عن الجميع, نحن تجاه إبداع صوفي في تاريخ التصوف, نتيجة قطب لا يقل اخلاصاً عن أي واحد من هؤلاء الأقطاب, ضنائن الله, الأبدال ،وبذلك يكون هادي من الأوائل الذين تنبهوا لأهمية روحنة التراث الاسلامي للرد على كل تلك الوحشية الهمجية التي راحت عصبة مريضة بالغلو والتطرف من المسلمين تلحقها بهذا التراث الاسلامي العظيم الممثل بالتصوف الفلسفي والروحي ، ولتخليص هذا التراث العظيم من كل الشوائب التي لحقته عن طريق حلقات الدروشة التي غذتها وشجعتها أنظمة الاستبداد .
رحيل هادي باتجاه الإنسان الكامل لتجوهر النفس في الوجود :
في حوار معه أجرته السفير (شاكر الأنباري) ونشر قبل وفاته, تحدث هادي العلوي عن الموت بوصفه «تجوهر النفس واشتداده في الوجود», مستعيراً تعريف صدر الدين الشيرازي, وعلى هذا فالمتصوف لا يخشى الموت, لأن الموت في التصوف هو استكمال لتطور المتصوف نحو الإنسان الكامل.. من هنا كان التاويون يغنون لموتاهم ولا ينوحون عليهم.
هادي عندما يقول, فيجب تصديقه, حتى لو كان قوله شطحاً أوحالا من الأحوال …!
ذلك ببساطة لأن الرجل لا ينطق عن الهوى, بل يأتيه القول من مدارات (الحق ـ التاو) يبثه في روعه فينطق به حقا وصدقا ً, ولهذا ينبغي تأبين هادي بالغناء العلوي الذي يتسامق إلى مستوى تجوهر نفسه واشتدادها في الوجود بوصفه واحداً من الأبدال ضنائن الله الأولياء, فإبراهيم بن أدهم يعرف الولاية قائلاً للسالكين إلى مقامها : «فلا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة» ، هكذا كان هادي وهكذا أراد أن يرتقي بالفعل السياسي العراقي الديموقراطي المعارض للسمو به عن أن يكوم فعل عنف مضاد من نوع فعل السلطة الهمجية التي سحقت الأبدان والأذهان في مجتمعاتها .
الزهد التصوفي: الاعراض عن الدنيا والآخرة :
وتلك لطيفة من لطائفه, إذ يميز الراحل بين الزهد الفقهي والزهد التصوفي, وذلك في سياق عمله المعجمي, فيأخذ على المعاجم الحديثة خلطها بين المفهومين, عندما تعرّف الزهد عند المتصوفة بأنه «بغض الدنيا والإعراض عنها طلباً للآخرة» ، فيرد على هذا التعريف بأنه ينطبق على الزهد عند الفقهاء, لأن زهد المتصوفة يقوم على «الإعراض عن الدنيا والآخرة معاً ليكون سبيلاً للمعاد الروحاني».
ومن هذا القبيل في التمييز ما يفسره الشيخ شعيب أبو مدين في مدار حرف النون في كتابه «مدارات صوفية» آخر ما صدر للراحل كما أسلفنا, إذ التمييز يشير إلى الفرق بين النزول والتنزيل, فالنزول انقطع والتنزّل باق إلى يوم القيامة.
والنزول والتنزّل هما وجها الوحي, وقد اختص النزول بالأنبياء والتنزّل بالأولياء» ويبقى النزول ناقصاً بدون التنزّل, ففي الأماكن التي ضنت عليها السماء بالنزول قام الأولياء بما يقوم به الأنبياء, والاستغناء عن الوحي أدى إلى التخفف من كثير من التعب والعناء, حيث يقول أحد المشايخ «إن الرسل طولت الطريق إلى الله» . إلا أن نبياً واحداً التفت إلى هذه المقارنة فأوقفها, وهو المسيح, لكن الشيخ الذي أخذ على الأنبياء تطويل الطريق إلى الله لم يفرق بين يسوع والكنيسة, وعلى هذا فإن الطريق يبقى طويلاً إلى الله مع اليهودية والإسلام والكنيسة وقصيراً مختصراً مع المسيح. وهو طويل مع بوذا وكونفوشيوس والهندوس, ومختصر مع الصوفية والتاوية, حيث تلتقي الصوفية والتاوية والمسيح في العلاقة المباشرة مع السماء, ولهذا يستخلص أن البلاد وكلما خلت من الدين سهلت عليها المسيرة ولم تستثقل لأن الدين لا يحقق ذاته إلا بالتكاليف, مستغرباً على شيخه ماركس الحديث عن بساطة الدين, لأن الدين معقد ومثقل بالطقوس ، ولعل شيخنا ـ والحديث لهادي ـ (ماركس) استخلص قوله من حال المسيح وهو استثناء في الأديان.
لكنه يعود ليختلف مع شيخه ماركس في تقويم حركة المسيح, فحسب ماركس: إن إخفاق سبارتكوس مهد لانتصار المسيح بينما يرى هادي أن المسيح لم ينتصر مثله مثل سبارتكوس مثل الحلاج وصاحب الزنج والشهداء كلهم, وإذا كان انتصار بولس انتصاراً للمسيح, فهو كانتصار حزب العمال البريطاني واعتباره انتصاراً لماركس.
فرادة المسيح بين الأنبياء كفرادة المعري بين الأولياء :
ويعقب أن المسيح يتمتع بفرادة بين الأنبياء, كفرادة المعري بين الأبدال, فالمسيح يجمع في أحلامه وأشواقه وفي مسلكه الشخصي صورة التصوف والتاو, وفي حركته صورة الحلاج لا صورة تشوانغ تسه أو البسطامي لأنّه نزل إلى ميدان النضال المباشر, في حين أن البسطامي وتسه كانا من رجالات النظر الفلسفي. في حين أن المسيح يجمع بين التصوف الفلسفي والتصوف الاجتماعي, أي الفناء في ذات الخلق على طريق الفناء في ذات الحق ، وهذا الرأي في المسيح وتفرده بين الأنبياء بالعلاقة المباشرة مع السماء تكشف عن مدى التواصل العميق لهادي بالتصوف ، تواصل يتيح له الكشف عن مدى حضور المسيح في نسيج التصوف الاسلامي ،ومن جهة أخرى درجة العالمية والبعد الكوني في منظوراتهم الرؤيوية التي تتجاوز الوعي الديني المحلي باتجاه وحدة العقل البشري في تماسه مع وحدة الوجود الكوني عندما يتخطى أسلاك حيزات خاصه الثقافي الاسلامي باتجاه ملكوت المسيح ، أي مدى تحرر عقل هادي من التزاماته وانحيازاته الثقافية تجاه الدين الاسلامي عموما و المذهب الشيعي خصوصا ، كونه يتحدر من الفضائين الثقافيين : الاسلامي والشيعي ، وكونه من جهة أخرى يتوجه لمتلقي اسلامي يدعوه إلى الانخراط في مشروعه السياسي الأخلاقي التصوفي الروحاني الذي يتسامى عن المعنى الكلبي والنفعي للسياسسة باتجاه طريق السالكين إلى الله للاتحاد به عبر الانبثاق عن الاتحاد بخلقه .
هادي في مداراته الصوفية يمارس شكلاً من أشكال وحدة الوجود, عندما يحل في كل عناصر النص, ويتوحد بشخصياته, وكأنهم ممثلون لتاريخه الشخصي, فهو يتحدث عنهم كما يريدهم أن يكونوا عليه, وأن نلاحظ مدى ما لهم من الولاية والبدالة والضنانة.
فضنائن الله الذين يعرض لهم في مداراته كثر, لكنه يتوقف وتقف حواراته خاصة مع أصحاب المقامات العليا (لاوتسه, منشيوس, موتسه, تشوانغ تسه, يسوع الناصري, مزدك, أبو ذر, روزبه «سلمان الفارسي» عامر العنبري, إبراهيم بن أدهم, الحلاج, النِفّري, أبو العلاء المعري, عبد القادر الجيلي, شاو يونغ, غوته, كارل ماركس, لينين, تولوستوي, وينتهي بإيڤار لويوهانسون السويدي المعاصر. رغم أنه عندما توفي سنة 1990 «لم يكن يحمل ثقافة تاوية أو صوفية أو ماركسية, إنما يحمل قلباً كقلوبهم, فهو الذي أرغم الرب على جعله من ضنائنه» .
تلك هي صورة المثقف الكوني في مداراته المتعددة الجنس والهوية واللغة, وفي هؤلاء يمارس هادي حلوله ليغدو ـ حسب غولدلبرغ ـ «جندياً في جيش الرب السري يناضل من أجل المستضعفين وضد غريزة الجشع والتدمير, ومن يقوم بهذا النضال يكافأ بظهور المسيح له في زوبعة الشوارع والساحات» .
لمعة: لوناتشارسكي من الضنائن أوتاد الكون :
في سنة 1987 شاركنا في ندوة بمناسبة مرور سبعين سنة على ثورة أوكتوبر, وكانت آخر الندوات حول هذا الموضوع الاحتفالي , قدم هادي دراسة عن (لوناتشاوسكي) , فبدا لنا هذا المثقف الروسي صوفياً من الأبدال, وهادي في كل الأحوال يعتبر البلاشفة قادة ثورة أوكتوبر أبدالاً من ضنائن الله, الذين يرسلهم لحفظ نظام الكون ، نظرا لما جسدته نخبة ثورة اوكتوبر الروسية من رموز عالمية كبرى على المستوى الفكري والنظري ومن استغراق في فعل التغييرالملحمي سلوكا وممارسة مما يمكن أن يغذي المخيال الصوفي لهادي عن ممكنات قيادة المفكرين للعالم باتجاه يوتوبيا .
قلت له: يا أبا حسن من أين لك هذه المرجعيات التي قدمت لك كل هذه المعلومات والمعارف عن (لوناتشارسكي) وأنت لا تعرف الروسية , إذ أن هادي قدم بحثا ليس فكر الرجل ودوره في الثورة فحسب ، بل قدم بحثا يتغلغل في العالم الروحي والوجداني الداخلي للرجل وكأنه كان صديقا ملازماً له, وعندما أبدى استغرابه من سؤالي, أضفت كأني بك يا أبا حسن تحدق في أعماقك وأنت تتحدث عن قيم الرجل ونبله الروحي والأخلاقي.
ضحك ضحكة طفولية جذلى وبجذل قال: إيه, إيه لقد كشفتني …!
هكذا يقوم هادي بجولاته في ردهات التاريخ الاسلامي والعالمي, إنه لا يأبه للتعاقبية الوقائعية للأحداث, فتلك مهمة المؤرخ التسجيلي, المؤرخ التقني, أي أنها مهمة المثقف الذي يكتب تاريخ الأغيار (رجال السلطة والمال والدين) ، بينما تاريخ الأبدال ، تاريخ المقامات, والضنائن أوتاد الكون ، فهو تاريخ الروح الذي يسري في أوصال الوقائع والحدثان, وعلى هذا فمهمة هادي مع التاريخ تغدو كمهمة السالك إلى الله لاقتناص مطلقه, هكذا يعصر هادي التاريخ للقبض على تاريخيته الجوانية, على الألق الأبيض في سفر الروح, حاملاً عطشه وجوعه لإمساك اللباب والجواهر, بعد أن أخضع البدن للحرمان المادي إلى درجة الزهد والتنسك ليتمكن من الدخول في حضرة الملأ, حضرة الأقطاب ومقاماتهم, إلى درجة الخجل الداخلي من الطعام في حضرة الآخرين, سيما عندما يكون في وسط الجماعة خلال المؤتمرات والندوات, فكان يردد قول أحد شيوخه «انتظار المرق مذلة» ، بل ذهب بعيداً في قطيعته مع السلطة, حتى ولو لم تكن من سلطة الأغيار, يكفي أنها تحمل طابعاً جهازيا سلطويا, حتى يحرم طعامها.
لطيفة من لطائفه: رفض زاد السلطان ولو كان يساريا :
في إحدى اللقاءات مع الأمين العام للجبهة الديموقراطية (نايف حواتمة) ، طال اللقاء الذي كان يضم لفيفاً من المثقفين اليساريين المدعوين لحوار مع (أبو النوف). فقام المضيفون في الجبهة الديموقراطية بوضع صحون فواكه أمامنا بعد أن بلغ منا الليل آخره, فأكلنا إلا (أبو حسن) فقلنا له : لما لا تأكل يا أبو حسن.؟ فأجاب أنه لا يقتات من زاد السلطان.
وهكذا لم ينفع (أبو النوف) كل تاريخه كجندي في جيش الرب السري من أجل الوطن والمستضعفين, فوضعه مع الأغيار ما دام يتمتع بموقع تراتبي في مؤسسة, فهي في كل أحوالها سلطة, وكفى بالنسبة لأبي حسن, رغم أن اللقاء تم في المرحلة التي بدأت الجبهة الديموقراطية تدخل مرحلة الكفاف, وبيع بعض مكاتبها… وتقليص موازنة مجلتها (الحرية) التي كانت منبرنا المشترك ولفترة طويلة.
مدار المدارات: الفناء بشؤون الخلق للاتحاد بذات الحق :
إن التاريخية التي اختطها هادي تقوم على طوبى المثل الأعلى, التي ينبغي أن توجه التاريخ الواقعي باتجاه تاريخ قيمي معياري يبلغ في معياريته الطوباوية مبالغ المطلق الذي في فسحة ملكوته تتحقق المصالحة بين الخالق والمخلوق إذ تلغى الحدود وتبطل الوسائط وتتحقق عملية المذاهنة مع السماء, من خلال الوحدة التي أقامها أبو يزيد البسطامي بين الخالق والمخلوق أو الاتحاد والانحلال والفناء بالذات الإلهية من خلال معادلة موحدة يتأله فيها الإنسان, ويتأنسن الإله في صينية الحلاج «أنا الحق» .
ويفسر هادي مأساة الحلاج ، بأن الحلاج كان يمارس مقام الفناء في الحق, فما هو غاصب يدعو لنفسه, ولهذا فهو يعلل هدر دمه ليس بسبب شطحاته, فالبسطامي سبقه إلى شطحات تهدم العقيدة من أصلها, وأبو بكر الرازي يكتب كتابه عن مخاريق الأنبياء في نفس المدينة التي حكمت بالإعدام على الحلاج ، لكنها بدلاً من إعدام الرازي عينته رئيساً لأكبر مستشفياتها, إذن ما هو تعليل دعوى «الحسبة» ضد الحلاج, ومن ثم قتله, بينما لم ترفع هذه الدعوى ضد البسطامي ؟ يجيب هادي من خلال ابن النديم «كان جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم يروم انقلاب الدول» .
هكذا تضعنا التاريخية المعيارية الطوباوية لهادي في صلب الموضوع, موضوع الواقع, المجتمع, البشر للارتقاء بهم إلى مستوى الطوبى , هذه المفردات التي تختصر في معجم المصطلحات الصوفية بالخلق, والعلاقة بين الخلق والحق هي العلاقة الأخلاقية بامتياز, إنها العلاقة التي تؤسس لطموح البشر اللامتناهي باتجاه امتلاك عالم القيم, المثل, كيف يمكن أن يتحد الشيء بصورته في عالم المثل الأفلاطوني, كيف يمكن للحسي أن يرتقي إلى مستوى ملكوت المعنى, ملكوت النور, فبدون انبعاث هذا النور من الداخل, فليس ثمة أنوار وفق شعار عصر التنوير الأوربي, الذي يسعى هادي لانتزاع المسيح منهم وإعادته إلى أرضه, موطنه, ليكون من بدائل الشرق المشاعي بالفطرة, في حين أن الغرب لم يأخذ من يسوع الناصري, سوى الكنيسة التي صاغ دنيونتها المؤسساتية بولص.
إن استحضار التراث الروحي هذا, لا يعبر عن أزمة وجدانية أو روحية عند هادي بل يعبر عن طموح حقيقي لفضح حالة التردي الأخلاقي والقيمي التي لحقت بالحركة الثورية العالمية, ولهذا أراد أن ينقذها من خلال إنقاذ ذاكرتها عبر بعث نموذجها البدئي, الذي يصوغ شعورها الثقافي والروحي. والنموذج البدئي, هو بالضرورة نموذج أسطوري, يكثف كل الأحلام المجهضة للبشرية على طريق تحقيق بشريتها, والنموذج الأسطوري, هنا ليس نموذجاً خرافياً, بل هو النموذج الأونتولوجي الذي تحفر فيه كل التطلعات المجهضة التي يبعثها البحث عن الحق إذ يتردى دون نموذجه ومثاله الخلق, أي تطامن الحقيقة المعرفية أمام الحقيقة الواقعية بكل رثاثتها وابتذالها وبذاءتها, التي تغلغلت في صفوف قوى التغيير العربية والعالمية التي لم تستطع أن تشكل منظومة قيمية بديلة عن تهتك السلطة وتسفلها الأخلاقي .
أهداف العرب واضحة منذ أكثر من قرن, ومع كل وضوحها البديهي, فإن العرب لم يحققوا أي هدف من هذه الأهداف, ما هي الأسباب, هل تكمن عملية الإخفاق في البناء المفاهيمي للعقل وأسس بنيته التكوينية الإبستيمية؟ فكيف يستقيم هذا السبب, إذا كان العرب يعرفون أهدافهم في الوحدة والتحرر والتقدم والديموقراطية منذ زمن طويل فأين دور المعوقات الأبستيمية (المعرفية) . ؟
اليسار والإلحاد الأخلاقي :
إذن فالمشكلة تكمن في عدم التطابق بين الوسائل والأهداف, حيث أنتج الواقع العربي في ظروف الاستعمار والإلحاق والتبعية, وسائل تتناقض جذرياً مع الأهداف, وهذه الوسائل تتمثل في البشر الذين تقع على عاتقهم مهمة تحقيق الأهداف, فالحامل الاجتماعي كان هشاً, تالفاً, دنيوياً, مفوّتاً, لصيقاً بحاجاته الغريزية النَّهازة الطمّاعة الكلبية, سيما إذا كان الأمر يخص موطن هادي العلوي (العراق ), الذي كان حاضرة كونية في أكثر من محطة من محطات التاريخ, فإذا ما نظر الرجل إلى ما حوله من الأبدال والضنائن أصحاب المقامات والكشف والأحوال, فلا يرى أحداً, سوى مشاريع فردية نهازة, فمن ملتحق بالسفارات الغربية والشرقية (الايرانية) إلى متعيش (ثوري محترف) يحول موازنة حزبه الشيوعي العريق والأحزاب الشيوعية العربية إلى رصيد شخصي بخس في زمن الإفلاس الفكري والأيديولوجي للحركة الشيوعية التي هي في مدار الاتحاد السوفييتي, ونهوض النزعات ما قبل القومية (أقوامية, إثنية, طائفية, عشائرية) وكأن الانتماء إلى الثورة والتغيير لم يكن سوى طلاء لأرواح جوف, أو زركشة تحديثية على سطح جلد متفسخ, فلم يجد هادي وسط هذه الفضاءات الملتاثة بالخيانة, والعمالة, والدناءة, والسقوط, سوى بعث الحياة في الأرواح الجوف, من خلال إعطاء الأولوية للأخلاق في زمن الاستنقاع على المستوى الأممي وعلى المستوى القومي والوطني, فتطلع إلى إيقاظ إنسانية جديدة, أممية جديدة, مشاعية جديدة, تبدأ من لحظة الكشف الضرورية عن العلاقة اللازمة (بين الخلق والحق) وأن الوجود الإنساني, لكي يكتسب إنسانيته فلابد له من الارتفاع عن الحيواني فيه, والغريزي, باتجاه القيمة (الحق), فعالم القيمة هو الذي يمنح الوجود البشري معنى بشريته, فأراد بذلك أن يدمر الإلحاد الأخلاقي الذي ساد مناخات الحركة اليسارية , حيث ما يفترض أنه عقل دياليكتيكي يتحول إلى إيمان أعمى بنموذج مرجعي خارجي : خارج ذات الداخل (التراث ) وخارج ذات أنا الأمة (الاستلاب ), أي الإلحاد بكل شيء إلا الأشياء التي يمكن أن تستحوذ عليها أنا المصالح الأرضية الدنيئة التي تتحلق الجماعات والأحزاب حول مراكز خارجية غربية وشرقية ، وهي جماعات كانت تمثل لهادي قوى الأبدال الضنائن , فإذا بهذه الجماعات, والأصدقاء, والرفاق ينتظرون خلاصهم الوطني والقومي والإنساني والديموقراطي من خلال مركزالغرب (الغرب الأمريكي) ، أو الشرق (الايراني) المذهبي .
لمعة: الفلسطيني والكردي
التقيت (هادي-أبو حسن) مصادفة في مكتب مجلة (الهدف) الفلسطينية , وكان محتدماً وهو يحاور أحد صحفيي المجلة, الذي كان يمجد الانتصارات العراقية على إيران في أواخر حرب الخليج الأولى بوصفها تجليات لصورة البطل المتمثلة بصدام حسين, وراح يعرض بالمعارضة العراقية مشيداً بمآثر صدام….الخ فإذا بـ(أبو حسن) ، ينقض كالنمر بجسمه النحيل الضئيل في مواجهة الصحقي الفلسطيني (المليشياوي) القامة والحجم ، وهو يحشرج بكلمات غاضبة:
هل يمكن للفلسطيني رمز الاضطهاد العالمي أن يدافع عن الطغاة, أم ظننت أن حجمك الكبير سيخيف حجمي الصغير, أنا لدي قوة داخلية أقاتل بها جيشاً …!
وفي الفترة ذاتها عقدت ندوة للأحزاب الشيوعية العربية من خلال مجلة ( النهج ) , فتفردنا أنا والراحل في التنديد بعملية الابادة الجماعية لـ (حلبجة) الكردية التي أقدم عليها النظام العراقي البعثي الديكتاتوري المتوحش ، وانتقدنا الأحزاب الشيوعية العربية التي التزمت الموقف السوفييتي الصامت تجاه الحدث, رغم ادعاءات هذه الأحزاب الدائمة القائلة باستقلاليتهم عن المركز السوفييتي ، وذلك ارضاء لحليفهم النظام العراقي المماثل لهم شموليا …!
ولأن هادي كان أممياً عقلاً وروحاً, فقد كان مثقفاً كونياً تنظف داخله من كل الرواسب الأقوامية والإثنية والطائفية, فقد كان وطنياً عراقياً, عربياً, كردياً, شيعياً, سنياً, مسيحياً, هرطوقاً, إلهياً, معّرياً, مزدكياً, لاوتسياً, ماركسياً, لينينياً, هكذا تنصهر كل الثقافات في مرجل الروح فتصهرها ذوباً عذباً, وفناء خلاقاً في الله والوطن والمجتمع والشعب, اهتياماً وفناء في الخلق ليخلو له سبيل السلوك للفناء في ذات الحق.
نكتة حول مدار حرف الميم: بين البدائل والأبدال :
كان للراحل موقف مزدوج من صادق جلال العظم, فهو يكن له إعجاباً مضمراً بشجاعته الهرطوقية المبكرة, هذا من جهة, ومن جهة ثانية ينكر عليه تعاليه في شؤون الخلق, ويشدد في نقده وهجومه الذي قلما خلا منه حديث معه, متهماً إياه بالترويج والتسويق للمشروع الأمريكي في المنطقة, وأنه عرّاب كل المثقفين اليساريين الذين يهرولون للدعوات الأمريكية, إن كانت الدعوة للسفارة الأمريكية أو لزيارة الولايات المتحدة نفسها.
قيل له مرة: أنت تشدد النكير على رجل –العظم- تطوف حوله التهم والشبهات في موقفه القريب من الغرب الأمريكي ، وهو في أسوأ الحالات فإنه موقف يصب في اطار المثاقفة الفكرية , بينما أنت تتعامل رسمياً مع قوى وأطراف عراقية يسارية واسلامية ملتحقة بالمشروع الأمريكي وتكتب في (مجلة النهج) وتتعامل مع رئيس تحريرها, ومعظم هؤلاء يمثلون معارضة تراهن على أمريكا في خلاص العراق, قيل له ذلك من باب المعاتبة والمغاضبة, فقال أبو حسن: أنا أنتقد الأبدال من أصحاب المقامات الفكرية كصادق العظم, أما الآخرون فهم من الأغيار المتهالكين على السلطة والمال, فهم أشبه بالفقهاء ورجال الدين الذين لا يحتجون على سلطة إلا وقد أمنوا لأنفسهم سلطة بديلة, فهؤلاء من البدائل- (أصحاب موقع المكان )- في يد السلطة بالضد من الأبدال(أصحاب مقامات المكانة ) ، وسلطة أي دولة أو نظام حاكم هو المال، لا فرق في هوية السلطة والمال إن كان أمريكياً أم خليجياً. فلهم مدارات البدائل الأغيار, ولنا مداراتنا مدارات الضنائن والأبدال.
ويعلل صلته بهم بأنه إنما يستخدم منابرهم في خدمة قضية الحق/الخلق, وهو يعرف أنهم يتطهرون ويتباركون بمقامه, وهو لذلك يكتب في «نضال الشعب» جريدة أحد الأطراف الشيوعية السورية «العائلة البكداشية المقدسة» ليشتم أمريكا من على منابرها, رغم معرفته بموقفهم الداخلي غير المعلن, واعتبارهم أن عدوان أمريكا على شعبه ووطنه العراق كان «تنفيذاً للشرعية الدولية». فهم أيضاً ينتمون إلى مدارات الأغيار (السلطة) سلطة الدولة والمال, وهو يتعامل معهم كوسائط بدائلية في خدمة الهدف العظيم الضنين على قلب الله الباري ، وهو حرية خلقه وكرامة عياله …
كلمة في حد الفناء:
إن يأس هادي من كل القوى الرافعة لراية العدالة والتحرر الوطني دفعت بالرجل إلى الإعلان عن حركة مشاعية, وبيان مشاعي, يعبر من خلاله عن الطوبى التي شكلت معنى حياته الروحية والوحدانية, حيث يدعو الجماهير فور انهيار النظام القائم لإقامة الدولة المشاعية في العراق وأول مهمات هذه الدولة استحداث وزارة باسم وزارة التنظيم المشاعي للمجتمع. أما الثاني وهو التعويل على نخبة من “الرحماء الموصوفين برقة القلب ” وكأن هادي كان يستشعر بحدسه حجم القسوة والعنف الذي يختزنه وطنه العراق ، وهنا مكمن الألم الممض من عالم الأغيار الموصوفين بتمثيل المعارضة المتهالكين على (الأماكن) ولو على حساب (المكانة) المدعين أنهم من البدائل السالكين إلى الحق ممن يمثلون المعارضة العراقية ولهذا يوصي مباشرة بأن «تعهد الوزارة ومؤسساتها إلى أشخاص رحماء موصوفين برقة القلب ونزاهة الضمير بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية وعقائدهم الدينية ص269.
ومن هم هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات؟ إنهم ممثلو الثورة المشاعية التي تترقى في مدارج السالكين من يوم يسوع إلى يوم يوهانسون وموطنها عندنا (شرقنا المتوسط) بعد أن انتسفت قواعدها القليلة في الغرب ، فلابد من استعادة يسوع إلى موطنه الأول …!
مدار الحزن والرثاء:
نم قرير العين أبا حسن, رغم أن الأغيار يملؤون الديار, لكن الأمة القادرة على إنجاب أصفياء الروح كصفاء روحك, جبِّلتهم من نار البراكين, ونفوسهم تعجز عن حملها الأجسام ، فلابد أن تتحقق نبوءتك بانتصار «نحن» ، لست سياسياً ولم تكن سياسياً, وما كان لمقامك الجليل أن ينحط إلى مستواها المنحط اليوم كونياً. ولذلك, فالأغبياء, والدجالون وحدهم من يناقشون صحة بوارقك ونفثاتك ولمعاتك المشاعية بوصفها برنامج عمل, إنها التماعات ضميرك السالك في مدارات الحرية ومعارج الكون للالتحام بالمطلق, والفناء في ذات الحق, قدس الله سرك وسر أجدادك الأبدال منذ لاوتسه مروراً بيسوع الناصري والحلاج والمعري وصولاً إلى ماركس ولينين وتولوستوي وإيڤار لو يوهانسون.
الحوار المتمدن
اود ان اكون عضوا فاعلا معكم